جلس برداءه الكهنوتي على بُعد عدة أمتار من الدير، يتأمل نجوم السماء وكأنه يبحث بينها عن فُرجة لمَ ألم به من هم ثقيل، حتى إذا ما شعر بالتعب واليأس وضع رأسه بين كفيه وهو يتمتم وكأنه يتضرع إلى الله أن يغيثه. فاقترب منه زميل له و ربت على كتفه قائلاً " هوِّن على نفسك الأمر يا صمويل، فلا فائدة من حمل هذا الهم "
فالتفت إليه صمويل قائلاً " إنها خيانة .. كيف يكون الأمر هيناً ؟! "
فقال صديقه " بل هو من ارتكب الخيانة .. لقد أراق دماً مقدساً ونقض عهده مع الرب، هو من نقض وليس أنت "
فقال صمويل " أنا كاهن الإعتراف الخاص به، لا يجوز لي إفشاء سر أسر به إليَّ و أنت تعلم ذلك "
فقال صديقه " هذا لو كان الأمر بيننا، ولكن الأمر بات في يد القانون، ونحن بدولة قانون، لا يجوز أن تتنصل من شهادتك إن دُعيت إليها"
ثم ربت على كتفه قبل أن يغادره وهو يستطرد قائلاً " ليس هناك خيار آخر " .
مر الوقت قبل أن ينهي صمويل خلوته بنفسه ويتجه إلى قلّايته ، وما أن دلف إليها حتى وجد هناك من ينتظره في زي الشماس الإنجيلي المميز بلونه الأسود وياقته البيضاء وعلى رأسه قبعة فيدورا سوداء، جالسًا يتصفح إحدى نسخ الكتاب المقدس، ففزع منه قائلاً "من أنت ؟ وماذا تفعل و كيف دلفت إلى هنا ؟ "
فقال بهدوء وبصوت أقرب إلى الهمس ولم يرفع بصره عن الكتاب "أنا شماس وأعتني بالأمور كأي شماس مخلص لإخوانه… ويدخلني الرب حيث يشاء "
فقال صمويل مستنكرًا وهو يقترب منه " أنا لا أعرف من أنت ويبدو من لكنتك أنك لست بمصري .. كما أنك لست من طائفتنا "
فأغلق الشماس الكتاب وقام بهدوء تجاه الباب وعلى شفتيه شبح ابتسامة وهو يقول " نعم لديك حق .. أنا لست أنتمي لطائفتكم .. ولكن العالم كله ينتمي لطائفتي .. يا أبت " .
ثم أغلق الباب عليهما.
*******
في الطابق العلوي لإحدى البنايات الشاهقة بقلب العاصمة كان يقف رجل في منتصف العقد الخامس من عمره شارد الذهن مطلقاً بصره عبر الجدار الزجاجي لواجهة البناية ليرى أضواء العاصمة المتلألئة بشكل مبهر، قبل أن يصدر اهتزاز هاتفه بداخل جيبه معلنًا عن مكالمة منتظرة لم تتجاوز الثلاث كلمات " لقد تم الأمر ".
فارتسمت على شفتيه ابتسامة قبل أن ينهي المكالمة ويلتفت إلى رجل أكبر سناً يجلس إلى مكتب ضخم يتفحص بعض البيانات المالية على حاسوبه المحمول وقال له " لقد تم الأمر سيدي العميد .. قام الشماس بمهمته "
فقال العميد مضيفاً دون أن يرفع بصره " الأولى .. مهمته الأولى يا سالم ".
فمط سالم شفتيه قبل أن يقول " ألم يكن من الأفضل تولي سيد عدنان الأمر؟"
فرفع العميد بصره وقال " السيد عدنان في رحلة علاجية طويلة وهو أعلى من مستواك بدرجة كاملة للتذكير قبل أن تبدأ في التهكم عليه "
فقال سالم " معذرة سيدي العميد .. ولكنه كما تعلم أفسد نموذج (سوبر66) وكانت مهمة إيجاد المفتاح تخصه "
فقال العميد " لم أكن أحب هذا النموذج على أي حال .. نموذج للبطل الخارق الأبله .. لدينا نماذج أفضل كما أنها فرصة لتطوير نموذج (سوبر 66) “
ثم نهض عن مكتبه وتوجه إلى الواجهة الزجاجية وهو يستطرد "لقد مرت ستة أشهر على إغلاق ملف حسين نظمي وتأمين المفتاح رغم تواجد شخص مثل يوسف الراوي في الطريق … أنت محظوظ بوجود الشماس في الملف الذي تتولاه "
فقال سالم في قلق " وماذا لو قام يوسف بالتحرك لإفساد مهامي؟"
قال العميد مبتسماً " سوف نرى بخصوص هذا الشأن حينئذ .. عليك أن تتأكد من إعدام الراهب .. لقد كاد أن يفسد علينا الأمر برمته باعترافاته الغبية "
فقال سالم " كان من الممكن أن نستخدم أحد أفراد صناعة الفتنة الطائفية تجنباً لكل هذه الأحداث "
فقال العميد مستنكراً للفكرة " أحداث الفتنة يجب تحدث في الشوارع .. هناك تصوير لهاتف ما هنا أو كاميرا مراقبة هناك .. كما أنها يفضل أن تعطي الإنطباع بأنها مرتجلة وليست مخططة .. أي أنها في سياق (شخص ما وجد كاهنا يسير أمامه فقتله ) فتعطي إنطباعا بكراهية دفينة ومثل هذه الأمور التي تسبب اشتعال الفتن … لكن ذلك الأنبا كان يقطن بالدير معظم وقته .. كان لابد أن نستخدم أحد رجالنا هناك لكي نغلق ملفه .. لقد بدأ في تتبع أمر الأيتام بسبب خطأ الراهب الغبي .. طفل واحد كشف أمره الأنبا فأصبحنا جميعًا على المحك .. وعملنا لا يحتمل الهفوات"
فقال سالم مستكملاً " إذن كان لابد من تحميل الراهب مسئولية تصحيح خطأه بقتل الأنبا ثم تقبل مصيره بالإعدام عن طريق تهديد سلامة عائلته .. لكننا لم نكن ندرك أنه كان له راهب الاعتراف صمويل .. الذي نما إلى علمنا أنه سيتم طلبه للشهادة .. وكان هذا بمثابة تهديد آخر لنا "
فقال العميد "لم يكن أمامنا سوى خيار واحد .. وهو الشخص الذي يستطيع الولوج لهذه الأماكن ولديه من الاحترافية والمهارة لجعل التصفية الجسدية تبدو كحادث أو إنتحار .. الشماس .. أحتاج إلى كتيبة من هذا الرجل وليس من ذلك الإختراع المسمى ( سوبر 66) .. لا شيء مثل المدرسة القديمة يا فتى .. لا شيء مثل المدرسة القديمة"
فقال سالم مندهشاً " ولكنك قلت أن (سوبر 66) كانت فكرة البارون"
فعقد العميد حاجبيه في ضيق ثم مط شفتيه بابتسامة زائفة و قال "نعم نعم .. البارون .. البارون يريد مواكبة التطور واستخدام التقنيات السرية .. ولكننا لا نتخلى عن طرقنا القديمة أيضاً ".
قالها و في نفسه قلق قد هاجم سكينته لمجرد سماع كلمة (البارون)، الرجل المخيف الخفي الذي يقود كل شيء ولا أحد يجرؤ على مخالفة أوامره، ورغم التسلسل القيادي بالمنظمة إلا أن العميد قد تعلم أنك لا تأمن بسرد ما يدور بداخلك لأي شخص فربما يكون مكلفاً من البارون بمراقبتك .. ربما ستكون تصفيتك على يديه .