تقف بداخل محل الكشري الصغير أسفل شقتها تجهز الأطباق المطلوبة من إحدى الطاولات في ساحة الحارة وأمام محلها مباشرة، لم تكن منتبهة لمتلصِّصي النظر إليها.
وضعت الأطباق على صينية صغيرة وأعطتها للصبي المساعد لها، ثم الْتفتَتْ لتغسل الأطباق بسرعة وهمّة، لم تستمع للجلَبَة التي وقعت بالخارج، فقد حباها الله بفقدان السمع، جذبها ابنها أمين ذو السنوات السبع من جانب عباءتها السوداء الفضفاضة؛ فنظرت له مبتسمة، فحدّثها بأصابع يديه وملامحه مستاءة أن أحد الزبائن يتشاجر مع عامر مساعدها بسبب الطعام.
أسرعَت "أمانة" بمسح يدها بمنشفة صغيرة أثناء اتجاهها للخارج يتبعها ابنها أمين، لتجد شابًا طويلًا يبدو عليه القوة والشراسة ممسكًا بعامر من قميصه، صفّقَت أمانة بيدها؛ لتثير انتباههم، فنظر لها الشاب بوقاحة، أشارت له أمانة أن يبعد يده عن الصبي، فابتسم بخباثة وهو يبعد يده عنه، ثم يرفعها ملوحًا في الهواء:
- ستَّ الكل، يرضيكِ أن يضع أصبعَه في طعامي؟
أقسَم عامر أنه لم يفعل واستشهد بأمين، ولكنها تعلم بالفعل أن الرجل كاذب، فأشارت لمساعدها أن يدلف للداخل، ثم حملت الصينية بهدوء بإحدى يديها وبالأخرى أشارت بطريقة بسيطة ليفهمها الشاب أنها ستحضر له غيره، ابتسم الشاب لرفيقيه، فقد وقعت المرأة بفخه وستخدمهم بنفسها.
أحضرت أمانة أطباقًا أخرى، ثم تمَّمَت على حجاب رأسها بعد أن حذّرت ابنها ومساعدها بألا يخرجا إلا بأمرها، حملت الصينية واتجهت لطاولة الشبان الثلاثة، ثم شرعت بوضع الأطباق على المنضدة، وضعت كوب الماء الكبير جوار الشاب المشاكس، فما كان منه إلا أن أمسك يدها معتمدًا على كوّنها بكماء لا تنطق، ظنّ أن لا حول لها ولا قوة وستستجيب، وكانت تلك اللمسة هي دعوة لشيء أكبر، خاصة أنه يدقق النظر إليها بوقاحة، لم تمهل أمانة نفسها للتفكير؛ فضربَت الشاب بالصينية فتناثرت أسنانه الأمامية قبل أن يسقط أرضًا بمقعده من شدة الضربة، اندفع صديقاه فأسقَط أحدهما الطاولة وما تحمله أرضًا، بينما شَهَر أحدهما سلاحه الأبيض في وجهها؛ فتراجعت خوفًا.
تلفتَت حولها لعلها تجد مغيثًا انتبه لورطتها، وبالفعل جاء العون على يد صاحب المقهى البلدي الغير بعيد عنها، فقد كان المعلم توفيق يراقب الموقف منذ لمحها تدلف حاملة لصينية الطعام، فأمر عماله بإمساك الشبان الثلاثة عندما رآها تضرِب أحدهم.
وقف المعلم توفيق أمام الشبان ناظرًا لهم باحتقار:
- بئسًا فعلتم، كيف تجرؤن على الاقتراب بأحد نساء الحارة؟! أتظنون ألا وجود لرجال هنا؟!
ثم نظر لأمانة:
- اؤمري أمّ أمين، أمرهم بيدكِ الآن.
ضمت أمانة كف يُمنَيْها لصدرها، ثم رفعته أمام جبهتها امتنانًا للرجل، فهز الرجل الوقور رأسه:
- هذا واجب علينا أم أمين، وسألقنهم درسًا لن ينسوه.
بدا الخوف على ملامح الشبان الثلاثة بعد توعّد المعلم توفيق لهم وتشديد عماله على تقويضهم، ولكن أمانة لم تكن ممن يثيرون المشاكل؛ فأشارت للمعلم أن يطردهم خارج الحارة، لم يعجب المعلم توفيق ذلك، فأخبرها بصوته الغليظ وهو مبطأ الحديث لتقرأ شفاهه:
- إن تركتِ حقكِ فهذا شأنك، أما حق الحارة فأنا كفيل به.
ثم نظر للشبان بتوعد:
- للحارة هيبة لن يهزها هؤلاء الوقحون.
***
أغلقت أمانة محلها، وأعطت عامر باقي اليوم أجازة، فضَّلَت الاعتصام ببيتها مع وحيدها على مشاهدة عقاب المعلم توفيق للشبان الثلاثة.
نادرًا ما تتعرض للمضايقات، فجميع زبائنها من أهل الحارة العاملين بها أو أرباب الورش وصبيتهم بالحواري القريبة.
استأذنها أمين أن يلعب بعد المغرب مع أصدقائه بالحارة ككل يوم، فوافقت بعد أن وعدها بألا يتهرب من صلاة المغرب جماعة كالأسبوع الماضي، وبعد مغادرة أمين وجدت المصباح الملحق بباب شقتها ينير، وما كان ذلك سوى علامة على وجود من يطرق الباب، ففتحته؛ لتجد السيدة خضرة زوجة صاحب المنزل أمامها، فحيَّتها ودعتها للدخول.
بعد التحية وتقديم واجب الضيافة فاتحتها السيدة خضرة سريعًا فيما جاءت لتعرضه عليها، فتحدثت بكلمات وجيزة وبنطق واضح ليسهل على أمانة قراءته:
- جئتُ إليك بعرضٍ كريم من المعلم توفيق صاحب المقهى بالحارة.
تحفزت أمانة، فالأمر لا يحتاج لكثير من الذكاء وبفطرتها البسيطة استنتجت أن في الأمر عرض زواج.
استمرت السيدة خضرة بالحديث ببطء:
- يعرض عليكِ الزواج.
كانت أمانة شخصية حاسمة، فابتسمت للسيدة وأشارت بطريقة بسيطة لتفهمها السيدة:
- ابني هو الدنيا بما فيها.
فسارعت السيدة التي تبدو متحمسة للموضوع:
- سيربي معكِ أمين كولده، هكذا طلب من زوجي أن نبلغك.
هزت أمانة رأسها علامة الرفض، وأشارت بكلتا يديها:
- لا أريد الزواج، أريد تربية ابني فقط.
حاولت السيدة إقناعها:
- ابنتي، أنتِ في عز شبابك، لا تفنيه في تربية طفل، تزوجي ليكن لك سندًا يحميك من الطامعين.
كانت كلمات السيدة خضرة إشارة على شجار اليوم، ولكن لم تهتم أمانة بالتعليق، فاكتفَت بإغلاق ذلك الباب؛ فأشارت بحسم:
- ابني سيحميني.
***
كانت تعلم الصعاب التي ستواجهها عندما أقدمت على فتح ذلك المشروع أثناء حملها بابنها أمين، ورغم ذلك لم تتراجع عما عزمت عليه؛ فهو مصدر الدخل الوحيد لتربية ابنها وإغنائها عن الحاجة.
لم تسلم من القيل والقال، ولكن فقدانها لنعمتيّ السمع والنطق كانا هدية من الرحمن؛ لتتمكن من الصمود، يرون أمامهم امرأة في بداية مرحلة الشباب بدون رجل، غنيمة يسعون للانقضاض عليها، لم تحجبها عباءتها الفضفاضة ولا حتى حجابها الطويل من أصحاب النفوس الفاسدة، فحادثة اليوم لم تكن الأولى، وتعلم أنها لن تكون الأخيرة، صبرَت ولم تلتفت سوى لتدبير رزقها وتربية طفلها، وبتوالي السنوات وسيرتها الحسنة استطاعت زرع الاحترام والتقدير في قلوب الجميع.
والآن يستغل صاحب المقهى الوضع لطلب يدها، يريدها زوجة ثالثة، يريد منها الولد؛ فكل ذريته إناث، لا يرضى بقسمة الله، يظنها مضمونة الذرية وستجلب له الولد حامل الاسم وصاحب الورث، عقل جاهل، كغيره ممن تقدم للزواج منها مسبقًا.
دلفَت غرفة بهيّ الصغيرة والتي أغلقتها منذ طلاقهما، لا تدخلها سوى مرّة شهريًا لتنظيفها، فتحت دولابه، ملابسه كما تركها، نظرت لها بحزن، ثم حملت الصندوق الخشبي الصغير الموضوع جانبًا. فتحته، ثم سحبت منه صورة فوتوغرافية صغيرة تجمعهما، الصورة الوحيدة التي تمتلكها له.
جلست على طرف فراشه، تنظر للصورة بشوق محدثة نفسها:
- قلبكَ أعمى عن حبي، وأنا خرساء وليس ذنبي، أقسمتَ أني أمانتك، ولكنكَ خُنتَ عهدي، أكان يستحق ما حدث خذلاني وإنكار حبي؟!
سقطت دموعها تباعًا، ولكنها أعادت الصورة لمكانها، ثم نهضت لتضع الصندوق بموضعه قبل عودة ابنها:
- تركتُ للرحمن تولي أمري، فلا تلومني على بعدي.
******