- “يا له من يوم طويل مرهق، لا أكاد أشعر بقدمي، فأنا لم أجلس لخمس دقائق متصلة، ما كان لي أن أقبل وردية الطوارئ، فأنا لم أعد طبيب امتياز، أنا الدكتور مصطفى وجدي دكتور المخ والأعصاب”
كانت هذه الكلمات تدور في رأسه كالدوامة في منتصف بحر عاصف، غير أنه عينيه المغلقتين مع شفتيه المزموتين حبست تلك الكلمات داخل جمجمته، بينما لم تستطع منع الإرهاق من رسم لوحة المعاناة على ملامحه، تململ في جلسته، وهو يتذكر ما قبل العمل في المشفى الجامعي.
- “أبي أنا لا أريد أن أظل في مشفاك الخاص، فأنا أرفض أسلوب الإدارة هنا، الطب مهنة نبيلة، ولا يجوز لنا أن نرد مريضًا لعدم توفر مكان له بالقسم الخيري.. أبي سأظل في المشفى الجامعي أٌعلم وأَتعلم .. الوداع”
يتذكر تلك الحادثة جيدًا، كل كلمة قيلت يحفظها عن ظهر قلب، وكأنها حدثت البارحة، كانت مواجهة عصفت بحياته، وغيرتها إلى الأبد كما يظن.
بينما تتلاحق الذكريات في عقله كانت حالة من الهرج والمرج تسود الاستقبال، والصراخ يتعالى مطالبًا بطبيب الطوارئ، قفز مصطفى منطلقًا صوب مدخل المشفى، وهو يعدو بسرعة تدعو للعجب، كيف ذهب إرهاقه في لحظة؟
سيارة إسعاف تنطلق تلبي استغاثة ما بعد أن تركت مهمة إدخال المريضة لطاقم التمريض، أزاح مصطفى بعضهم جانبًا في سرعة، لتكتشف عينيه المشهد، على المحفة جسد فتاة مسجي بإهمال، جلدها شديد الاصفرار، دمائها تتساقط بسرعة من حجابها المتشرب به لتغرق قماش المحفة الأبيض لتصبغه كالخضاب، ما أن رأى ملامحها حتى اندفع الأدرينالين بعنف في دورته الدموية من الفزع، لا يمكن أن تكون هي، إن عيناه تخدعانه بالتأكيد، لا وقت لرفض الواقع يجب أن ينقذ حياتها، صرخ في طاقم التمريض، وأطباء الامتياز العاملين معه ليحملوها سريعًا إلى غرفة الطوارئ ليبدأ الكشف عليها.
ركض بجوار المحفة، وهمس في أذنها بصوت وقلب ينتفضان ذعرًا: “فرح يا حبيبتي تماسكي أنا بجانبك لن أتركك، فلا ترحلي وتتركيني وحيدًا”
ثم سأل من بين أنفاسه المتقطعة، وهو يركض بجانب المحفة عمن أتي بها إلى المشفى، ليستفسر منه عن الحادث.
أجابته عاملة الأستقبال وهي تلهث: “أتت بمفردها مع الأسعاف، فلقد تلقينا بلاغًا من مجهول بأنها ملقاة في شارع جانبي يبعد عدة أمتار عن ميدان العباسية”
أكمل مصطفى ركضه ليلحق بالجسد المتجه نحو الموت بخطى حثيثة، لينتهي كشفه السريع في سبع دقائق، ثم يأمر بنقلها لغرفة العمليات بسرعة، فحالتها خطرة.
ظلت المصابة لعدة ساعات في غرفة العمليات في محاولة حثيثة لأنقاذ حياتها، تخللها بعض الصعوبات مثل نقص زمرة دماءها، ووضع الكسر بالجمجمة كان حرجًا، إلى جانب التجمع الدموي الذي دفعه لعمل تربنة له، أما أهم الصعوبات التي واجهتهم، فهي إمكانيات المشفى الجامعي ذاته، ولأن وضعها لا يزال خطرًا تم نقلها إلى غرفة العناية المركزة لتخضع للملاحظة الدقيقة.
لم يحاول مصطفى أن يأخذ قسطًا من الراحة بعد تلك الساعات الشاقة التي قضاها في غرفة العمليات بل مكث بجانبها، فقلقه عليها كان ينهش في روحه، إلا أن قدوم الرائد المتولي التحقيق نزعه من جوارها.
سأله عما يعرفه عن المصابة، فرد مصطفى بحزن: “أنها تدعى فرح إبراهيم العباسي، مدرسة بروضة أطفال تسمى سنابل قريبة من ميدان العباسية حيث وجدتها سيارة الإسعاف”
سأله الضابط عن كيفية معرفته بتلك المعلومات حيث أن المصابة لم تكن تحمل إثبات شخصية، فأجابه بأنها زوجته التي لم يمر على زواجهما سوى خمسة أشهر، وأنها كانت في طريقها للمشفى حتى يعودا للمنزل معًا كما جرت العادة، عاد يسأله عن حالتها الصحية، غير أنه أصيب بالإحباط بعد معرفته بوضعها الذي حال دون استجوابها مما دفعه لترك مصطفى، ليبدأ هو ورجاله حملة استجوابات واسعة شملت كل العاملين بالمشفى الجامعي والزائرين والمسعفين، والتي استنزفت ساعات من وقته، ولكن المحصلة كانت صفر.
بينما كان الرائد ورجاله يقومون باستجوابهم، وقف مصطفى يتأمل وجهها الذي لا تهدأ ملامحه، وكأن كل انفعالات الأرض تتنافس على الظهور، والعجب يتملكه كيف لوجهها أن يتحول لخشبة مسرح بدلًا من السكون المعروف لحالات الغيبوبة التي غرقت فيها، مما حداه بالاتصال بصديقه الدكتور محمد مراد، لِيُقْبِلَ إليه في العناية المركزة لمتابعة الحالة العجيبة التي تنتابها.
وقف محمد بجوار صديقه مصطفى يتطلعان لفرح المسافرة في غيبوبتها العميقة، وملامح الدهشة تضئ وجه الأول، والقلق يغزو ملامح الثاني، مما دفع محمد لقول: “هذه الحالة غريبة جدًا، فالأجهزة تشير لنشاط عقلي كالذي يعانيه النائم من كابوس رهيب، بل أظنه أكثر من ذلك، إننا لا نملك سوى الانتظار حتى الصباح، وهو الوقت الذي يفترض أن تفيق فيه، أو على الأقل تبدأ في الاستجابة لما يدور حولها”
في الصباح الباكر دلفت الممرضة المسئولة عن العناية بالفترة الصباحية لتجد الطبيبين منكسي الرؤوس غافيين، نادت عليهما دون إجابة، فلجأت لهزهما برفق، ثم بقوة حتى استيقَظا، التفت مصطفى نحو المصابة، فوجدها على وضعها، أزاحه محمد ليكشف عليها، ويراجع الأجهزة المتصلة بها.
قال محمد بشكل موجز بعد أن أنهى الكشف: “يجب نقلها إلى مشفى أخرى، كما أننا نحتاج إلى فريق خاص على أعلى مستوى، فهي لا تستجيب لأي مؤثر خارجي، كما أنها تعاني من حالة نشاط عقلي فائق غير مسجلة”
رفع عينيه لينظر مباشرة إلى عيني رفيقه، ثم أكمل بحزم: “يجب نقلها الآن إلى قسم الحالات المميزة بمشفى الحياة... مشفى والدك، فهي المشفى الوحيد المؤهلة لعلاج لتلك الحالات”
نظر مصطفى لصديقه في حرب إرادة انتصر فيها محمد بعد أن لمح مصطفى بطرف عينيه فرح المستلقية على فراشها ووجها يصرخ ألمًا، وانطلق من فوره ليتصل بوالده لأول مرة منذ سبع سنوات، وقلبه يكاد يخرج من صدره خوفًا على زوجته الشابة.