Sottoo3

Share to Social Media

أَوْصَنِي (2)
أَوْصَنِي
م.سينا عبد الغفور زراعي


*لماذا الوصايا مختلفة ومتنوعة؟
هذا السؤال قد يخطر علىٰ بالِ بعض، لماذا جاءت الوصايا من النبي (صلى الله عليه وسلم) مختلفة ومتنوعة؟ إذ كان من الممكن أن تكون الوصايا لجميع الصحابة واحدة، بحيث يختار أمرًا هامًا واحدًا كالتوحيد أو الصلاة، ثم يوصي كل من يسأله بهذا الأمر الهام.
بالطبع، فالإجابة علىٰ هذا السؤال ليس بالأمر القاطع، فالعلم عند الله تعالى وحده؛ ولكن في النهاية هي اجتهادات بشرية نسعى من خلالها للفهم والتعمّق في هذه الوصايا، وفي الحقيقة فإن البحث في مثل هذه الأسباب يساعدنا كثيرًا في أمور حياتنا كما سيتضّح عند الحديث عنها. وقد سمعت من بعض العلماء الأفاضل بعضًا من هذه الأسباب ولعلّي هنا أورد بعضًا منها:
-قد يكون سبب تنوّع هذه الوصايا: هو اختلاف زمان السؤال أو الوصية النبوية، فالأجواء في بداية الدعوة غير الأجواء في منتصفها أو نهايتها. ففي كل مرحلة كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يركّز علىٰ أمور معينة.. فمثلًا إذا تأملّنا الأجواء في بداية الدعوة في مكّة المكرّمة نجد التركيز بشكل أساسي علىٰ غرس العقيدة، والتوحيد، والإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والصبرعلىٰ الأذى، والتحمّل. في حين لا نجد كثيرًا الحديث عن الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة، أو الجهاد في سبيل الله تعالى. وبالتالي قد كانت الوصايا مناسبة للزمان الذي طُرح فيه السؤال.
-وقد يكون سبب التنوّع هو اختلاف الأشخاص، فكل شخص يناسبه وصية أو وصايا معيّنة، والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان أعْرَفَ الناس بأصحابه وبكل سائل كان يطلب وصية منه، ولذلك نجد بأنه يوصي أبا "ذرّ" بوصية مختلفة عن "أبي هريرة" -رضي الله عنهم جميعًا-.. فالشخص المحافظ علىٰ الصلاة لا يناسبه أن نوصيه مثلا بالمحافظة علىٰ الصلاة، وإنما في أمر يقصّر فيه أو يحتاج إلى الازدياد منه وكذلك في شخص معروف بالكرم، فلا ينفع أن نوصيه بالإنفاق في سبيل الله تعالى وهكذا.
-وقد يكون الاختلاف في العمر، أو في الأقدمية في الدخول إلى الإسلام، أو في مكان العيش، أو المنزلة، أو غير ذلك. كل ذلك يؤدي إلى اختلاف الوصية المعطاة.
-وقد يكون سبب التنوّع هو عملية البناء وأقصد بذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يبني أصحابه إيمانيًا، وأخلاقيًا، وتربويًا من خلال هذه الوصايا. فكان (صلى الله عليه وسلم) يستثمر كل فرصة لبناء شيء معيّن من خلال الوصايا؛ فيتعلّم الشخص المعني، ويتعلّم الجميع من خلال سماع الرسول (صلى الله عليه وسلم) سواء في تلك اللحظة أو في وقت آخر.
-ومن أسباب التنوع كذلك تعليم الأولويات في حياة الشخص، بحيث قد تكون الوصية لتعليم الشخص أولوياته التي يجب أن يركّز عليها حتى يكون سعيدًا أو راضيًا أو مطمئنًا، فقد تكون التقوى أولوية لشخص ما، بينما تكون الصلاة لشخص آخر، وقراءة القرآن لشخص ثالث، وخلق الصدق لشخص رابع وهكذا. فكل شخص يختلف حسب قدراته وعباداته ومدى علاقته بالله تعالى.
-وقد تكون إحدى أسباب التنوع غرس معنى التوازن في حياة الشخص، فقد يكون جانب الصلاة طاغيًا في حياة الشخص بحيث يقصّر في النواحي الأخرى؛ فتأتي الوصية النبوية لتردّه إلى جادة الصواب فيتوازن في حياته بين الشعائر التعبدية، والعلاقات الأسرية، والعلاقات مع الناس. وقد وافق النبي (صلى الله عليه وسلم) علىٰ ما قاله "سلمان الفارسي" "لأبي الدرداء" -رضي الله عنهما-: "فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" (رواه البخاري). فالتوازن يمنح الشخص النجاح والتميز والسعادة في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى.
-وقد يكون التنوع لكَي يكون الشخص متميزًا في أمر ما، فيوصي النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد الصحابة بأمر يريد أن يكون متميزًا فيه، وهذا الأمر كان واضحا لدى الصحابة الكرام لدرجة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صرّح بذلك في أحاديث متعددة كقوله (صلى الله عليه وسلم): "أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي: أبو بكرٍ، وأَشَدُّهُمْ في أَمْرِ اللهِ: عمرُ، وأَصْدَقُهُمْ حَياءً: عثمانُ، وأَقْرَؤُهُمْ لِكتابِ اللهِ: أُبَيُّ بْنُ كعبٍ، وأَفْرَضُهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وأعلمُهُمْ بِالحَلالِ والحَرَامِ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، ألا وإِنَّ لِكلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وإِنَّ أَمِينَ هذه الأُمَّةِ: أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ" (رواه الترمذي).
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان هناك تميّز لدى صحابة آخرين كالصدق عند أبي ذر، والقيادة العسكرية عند خالد بن الوليد، والعلم عند ابن عبّاس -رضي الله عنهم جميعًا-.. ولذلك ربّما كانت بعض الوصايا لكي يزيد الشخص من تميّزه في الجانب الذي يتقنه.
كل هذه الأسباب وغيرها قد تكون سببا في هذا التنوّع، ولكن الأمر الهام هنا هو ما ينبغي أن نتعلّمه نحن من هذا التنوّع. فالنبي (صلى الله عليه وسلم) هو المربّي الأول لنا جميعًا في جميع أمورنا، ولذلك ينبغي لنا التعلّم من أسلوبه (صلى الله عليه وسلم). وإنّ ما ذكرناه من أسباب مفيدة لنا نحن في المقام الأول في أي موقع كنّا سواء كان في المنزل مع آبائنا وأزواجنا وأبنائنا، وسواء في البيئة الدراسية مع أساتذتنا وطلابنا، وسواء في بيئة العمل مع مدرائنا وزملائنا وعملائنا، وسواء في مجتمعاتنا مع رؤسائنا ومسؤولينا وأفراد الشعب الآخرين، وغير ذلك من الأماكن.
تأمل مثلًا: إن تعامل كل أب أو أم أبناؤه بهذه الأساليب بحيث يعرفون شخصياتهم، ويوجهونهم في الوقت المناسب، ويعلمونهم الأولويات والتوازن والتميز؛ كل ذلك سيؤدي إلى جيل متميز فريد يخدم دينه ومجتمعه. وكذلك في بيئة العمل إن قام القادة والمدراء بتطبيق هذه الأساليب علىٰ الموظفين؛ فإن ذلك سيؤدي إلى تميز الجميع سواء بالنسبة للمؤسسة، أو الأفراد، وقس علىٰ ذلك في جميع مجالات الحياة الأخرىٰ.
وتطبيق هذه الأساليب هي الحكمة بعينها، فالحكمة في إحدى تعاريفها: هي وضع الشيء في موضعها الصحيح في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة، ولذلك حثّ الله تعالى علىٰ الحكمة حين الدعوة حيث قال سبحانه: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين" (النحل 125)، قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره للحكمة في هذه الآية: (أي: كل أحد علىٰ حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده. ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين).
ومن يتأمل في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) يرى تطبيقًا واضحًا لكل ما ذكرناه من المفاهيم. تأمل مثلًا في معرفته (صلى الله عليه وسلم) للشخصيات ومعرفته بما يلائمها، فقد دعا لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: "اللهم فقّهه في الدّين وعلّمه التأويل" (رواه أحمد) لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعلم بأن ابن عباس رضي الله عنه يميل إلى العلم، ولذلك جاءت الدعوة مناسبة له، في حين أنّه كان يختار خالد بن الوليد وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لمهمات القتال لأنه كان يعلم بأنهما مناسبان لذلك، والأمثلة علىٰ ذلك كثيرة من السيرة النبوية.
تعلّم كيفية وصية الآخرين أو نصحهم أمر هام جدًا لأن عدم معرفته قد يؤدي إلى عواقب وخيمة أو نتائج عكسية، ولذلك يجب علىٰ الشخص أن يتعلّم علومًا مختلفة مثل: فهم الشخصيات، وعلم التأثير، وفنون الدعوة إلى الله تعالى مع الحرص دائما علىٰ الأخلاق الكريمة، فلا يمكن مثلًا وصية شخص ما مع رفع الصوت عليه أو الاستهزاء به لأن ذلك ليس الهدف من الوصية. الشخص الذي يطلب وصية ما لا شك أنه ينتظر شيئًا ربمّا لإفادته هو أو لتعليم غيره، وبالتالي يجب علىٰ الموصي أن يحترم هذا الشخص ويعطيه الشيء المرجو، وليعلم الموصي أن هذا الشخص لم يطلب منه الوصية؛ إلا لعلمه بأنه سيحصل علىٰ شيء مفيد، كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفعلون مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث كانوا يتوقعون الأفضل دائما. وأيضاً، الذي يطلب الوصية من شخص آخر فإنه يثق به ويحترمه؛ وإلا فلماذا ذهب بالذات عند هذا الشخص؟
وصايا النبي (صلى الله عليه وسلم) هي من أجمل الوصايا وهي تحتوي كنوزًا ومعان جميلة، فلنستعرض بعضا من هذه الكنوز من هذه الوصايا الذهبية، وكما ذكرت في المقدمة بأنني سوف أستعرض عشر وصايا مع عشر فوائد تحت كل وصية.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.