بعد اختفاء الملك بهرام ظلَّ البشر في حيرةٍ من أمرهم، أكثرهم حزينٌ لاختفاء الملك والبعض خائفٌ على الوحدة، ظل العرش شاغرًا مدة عشرين يومًا، حتى جاء أميرٌ من أمراء البيانين يدعى (سنوهو) وطلب مقابلة المجلس العالي المشكَّل من قادة الجيانيز وأمراء البيانين وعلى رأسهم (ماروز) وملوك السنوب والكاتا والبرونين، عندما مَثُل سنوهو أمام المجلس قدمه لهم ماروز قائلًا:
- هذا سنوهو ابن ابن عمي كازوم الذي قُتل في معركة بيشاتا منذ عشرين عامًا.
حياه الجميع وساد جوٌّ من الترقب قبل أن يقول سنوهو:
- رأيت أمس الملك بهرام.
وقف الجميع كالملسوعين من المفاجأة فاستدرك بسرعةٍ:
- كان هذا في منامٍ أيها السادة، جاءني وأوصى بمن يخلفه.
قعد الجميع وبقى قادة الجيانيز ينظرون له بارتيابٍ حتى نطق (جادوت) الذي يعتبر أقرب القوم للملك بهرام فهو ابن ابن عم الملك بهرام، وهو الوحيد الباقي من أقرباء الملك قائلًا:
- ولماذا أوصاك أنت يا أمير سنوهو؟ ألا ترى معي أن هذا غريبٌ مع وجودي وأنا أقرب الناس إليه ومع وجود أمراء وقادة الجيانيز قومه ورجاله؟!
ابتسم سنوهو وقال بهدوءٍ:
- كلنا قومه ورجاله يا سيدي؛ وهذه رسالة بهرام الرجل الذي اجتمعت عليه الأرض، وما جئت إلا للبلاغ أما تصديقكم أو تكذيبكم لي فلا يعنيني شيءٌ منهما.
ران الصمت لحظات حتى تكلم ملك السنوب قائلًا:
- أخبرنا بما عندك يا أمير.
ألقى الأمير نظرةً احتوى بها الجميع وقال:
- الملك بهرام عندما جاءني في المنام فزعت، كان يجلس على كرسي العرش بمهابته التي اعتدناها، ويبتسم بهدوء ولا يتكلم حتى اقتربت منه بعدما تغلبت على المفاجأة، وحاولت أن ألثم ثوبه فأوقفني بإشارةٍ من يده وطلب مني أن أستمع إليه، كان صوته عميقًا أحسست بتردده في صدري وكياني كله...
نفد صبر جادوت فصاح:
- اختصر من فضلك يا أمير!.
أكمل الأمير كأنه لم يسمعه:
- وأنا أرتجف من مهابة الملك حاولت أن أسأله عن سر اختفائه لكن لساني لم ينطلق، وسمعته يقول:
"سلام الأرض ووحدتها منوطان بشخصٍ ليس من أهلي".
قام جادوت مغضبًا وقال:
- ها قد بان الأمر أيها الأمير، تريدون انتزاع مُلكنا.
كاد أحد أمراء البيانين أن يردَّ عليه لكن ماروز أوقفه بإشارةٍ من يده وأشار لسنوهو أن يكمل.
أكمل سنوهو قائلًا:
- قلت له ومن يستحق مكانة العظيم بهرام؟ ليس في الأرض مثلك.
سكت قليلا وقال:
"عندما وحَّدت الأرض كنت أبغي السلام والعدل والوحدة؛ لكن هذا شابه حبُّ المُلك، والآن بعد أن عرفت الحق وأدركت كم هي صغيرة هذه الأرض أمام عظمة النور الأبدي واتساع ملك المالك لا أريد أن يشوب عملي بعد اختفائي ما شابه أثناء وجودي بينكم؛ فكما نزعت المُلك من أبنائي لا أريده لأحد من أقاربي، وكي لا يدب النزاع فليكن الملك من الجيانيز ومجلس الحكماء المراقب له من جميع الأحياء يرشده ويتابعه، ويعين ملكًا تلو ملك وفقا لما يراه الحكماء، على أن تظل الأرض موحدةً ومن يحاول هدم الوحدة أو التفرقة بين العشائر الخمسة فاقتلوه أيًّا كان".
سكت وطال صمته فقلت:
-مولاي لم تسمِّ لي شخصًا؟!.
قال باسمًا:
"اجمعوا كل أبناء المقاتلين الذين ماتوا في حروب توحيد الأرض، وستجدون ملككم وستعرفونه".
حاولت أن أستوضح أكثر لكنني صحوت من النوم وكان الوقت قبيل الفجر بساعة، لم أستطع النوم فانتظرت حتى الصباح وجئتكم.
نظر الجميع له في ذهول وبدا الحنق على ملامح جادوت، إذ كان يمني نفسه بالملك خلفًا لبهرام لكنه لم يستطع الاعتراض وقد لمس تأثُّر قادة الجيانيز أنصاره، عندما تذكروا الملك الراحل وأدرك أن تصديقهم للرؤيا سيجعلهم ينفذونها مهما كلفهم الأمر.
قام ماروز وخاطب الجميع قائلًا:
- ها قد بان الأمر لكم، ليس لابن أخي مصلحةٌ فيما قال ولا للبيانين كلهم فالملك سيظل في الجيانيز.
لم يستطع جادوت أن يطعن في الرواية وصدقها لكنه قال بيأس:
- هل نقيم أمر المُلك على حلمٍ أيها الامراء؟ وكيف يكون ملكنا مجهولًا وبيننا رجال مشهود لهم بالكفاءة؟!.
نظر إليه الجميع وتحدث (فراتم) أحد كبار قادة الجيانيز قائلًا:
- هى رؤيا سيد الأرض وقديسها الذي صعد للسماء.
هز رأسه في حنق وقال:
- أتصدقون هذا الهراء؟!
قال ماروز وهو يشعر بالامتعاض:
- انتظر يا أمير حتى نرى هل تتحقق العلامة أم لا، وإن صدق ظنك وكان هذا وهمًا سنجتمع ثانية.
أجهز كلام ماروز على أية محاولة لتنفنيد رؤيا سنوهو، وإن داعب الأمل جادوت أن يمضي الوقت ولا تتحقق علامة اختيار الملك الذي يريده بهرام.
قال فراتم بحزم:
- سننادي في شعب الجيانيز أن يتجمع أبناء قتلى حروب الوحدة في الميدان الكبير غدًا في الصباح.
هز الجميع رؤوسهم بالموافقة وكانت أعين أكثرهم دامعةً لذكرى الملك العظيم.
في الساحة الكبرى أمام القصر المخسوف كان الزحام شديدًا، وقد وقف أبناء المقاتلين الشهداء ينتظرون كلام القادة، كان القادة واقفين على منصةٍ عالية مشرفة على الساحة يتوسطهم ماروز وجادوت وملوك السنوب والكاتا والبرونين، وعلى الطرفين أمراء البيانين وقادة الجيانيز. بدأت الشمس ترسل الأشعة الدافئة بقدرٍ أكبر في طريقها لتوسط كبد السماء إيذانًا باقتراب وقت الظهيرة، كان القادة ثابتين في أماكنهم منذ تجمعوا بعد الفجر بساعة وهم يتابعون توافد أبناء الشهداء.
كلما مرَّ الوقت كلما ازداد أمل جادوت في انقضاء اليوم دون حدوث شيء، وعندما اقترب وقت الظهر ابتسم في عصبيةٍ وقال:
- كفانا حمقًا يا سادة لن يحدث شيء.!
حدجه سنوهو بنظرةٍ قاسية بينما قال فراتم بحزم:
- لن نغادر قبل ظهور العلامة.
كان إيمان فراتم بالرؤيا عظيمًا كأنه هو الذي رآها حتى أنَّ سنوهو نفسه كان مندهشًا.
من بعيد كان هناك فتىً في السابعة عشرة يرتدي ملابس خشنة راكبًا حماره يحاول شقَّ الصفوف ليقترب من المنصة، وكلما اقترب أكثر صاح بأعلى صوته:
- ماذا تريدون منا أيها القادة؟ كفانا ما نلنا من حروبكم لقد صرنا أيتامًا منذ زمن والآن تذكرتمونا فجأة؟!
وحده بهرام كان يعنى بنا وكان يحفظ جميل آبائنا المحاربين موحدي الأرض، ما جئت إلا لأمنع رفاقي أبناء الشهداء من معاونتكم في حربٍ أخرى تفتت الأرض التي وحدها بهرام العظيم، ما كنتم سوى أداة استعملها بهرام ولا يمكن للأداة أن تعمل ما يعمله العقل.
صاح جادوت بغيظ:
- ماذا يقول هذا السفيه؟!
رد الفتى بقوة:
- اسمي (جسبلت) ابن الضابط (نبت) الذي مات من أجل الأرض، منحني بهرام العظيم راتب الشهيد كما منحه لكل هؤلاء وأنا الآن أرعى غنمي وأعيش في سلامٍ بعد انقضاء الحروب، وما أظن اجتماعكم بنا إلا من أجل حربٍ جديدة فقد مضى وقتٌ طويل على اختفاء ملكنا ولم يفز بالعرش أحد؛ فمن الذي جمعنا لنكون جنده وسنده أيها القادة؟
ابتسم ماروز لجرأة الفتى وقال:
- بوركت يا جسبلت الشجاع؛ لكنك لا تعرف أن جمعنا يضم كل الملوك وليس قادة الجيانيز فقط وأنا ماروز ملك البيانين.
قال جسبلت في دهشةٍ وتحير:
- حقًا؟!
كان قد شقَّ طريقه كاملًا بين الصفوف حتى وقف بحماره أمام المنصة فإذا بالشمس تكسف فجاة فيصيح الجميع دهشة وفزعًا، تكاثر الغيم راسمًا صورة شابٍ يركب الحمار أشبه ما تكون لجسبلت فصاح سنوهو من فوره:
- العلامة!
هزَّ جادوت رأسه بعصبية وهم بقول شيءٍ ما لكن فراتم قطع عليه الطريق قائلًا
- اصعد يا مولاي الملك.
نظر له جسبلت كأنه ينظر لمجنون لكن ماروز قال له:
- أنت من أوصى به بهرام وهذه هي العلامة.
قالها مشيرًا للسحابة الكبيرة المرتسمة في شكل فتى يركب الحمار، فنزل من فوق حماره وصعد للمنصة وهو في ذهول وقد بدأ شكل السحابة يتغير بفعل الهواء وبدأت الشمس في الظهور ثانية وعندما اعتلى المنصة أفسح له الجميع وقبَّل فراتم يده دامعًا وقال للشعب:
- هذا هو الملك جسبلت، هذا من اختاره بهرام العظيم.!
أقام جسبلت في قصر الحكمة الذي بناه بهرام أول حكمه قبل أن يبني قصره الذي خُسف به، في البداية ظنَّ به رجال الدولة والقيادة الضعف لكنه ما لبث أن أثبت لهم حزمه وقوته واستطاع في أول شهر أن يقضي على تمرُّد بعض قادة الجيانيز، وأصدر قراره بتحديد إقامة جادوت في بيته بعد أن تجرأ بالسخرية منه أمام الشعب.
كان حريصًا على الخشونة، يعشق البساطة لكنه أرغم على لبس الثياب الفاخرة بمشورة أعوانه ومحبيه ومنهم قائده المقرب فراتم، رضي به زاهدًا فيه لكنه اقتنع أنه من ضرورات الحكم لبلوغ المهابة في أعين الرعية، أحبته الرعية لوضوحه وصرامته فهم يعشقون القوة، وكان صوته الخشن القوي يزلزل عواطفهم كما أبهرهم تطلعه للخير وحب الفقراء فزاد من ضرائبه على الأغنياء ومنح الفقراء والعاجزين معاشًا يغنيهم عن السؤال، لم يمض في حكمه سنة حتى بدأ الناس يتساءلون لماذا لم يتزوج الملك؟
بدا كمال ملكه وبهاؤه ناقصين فما عهد الناس ملكًا أعزب من قبل، وآن للملك أن يكمل الصورة البهية فخطب ابنة سنوهو أمير البيانين رغبةً في توطيد الأواصر بين أكبر حيين من أحياء البشر، كان حفل الزفاف مهيبًا حضره ملوك السنوب والكاتا والبرونين الذين صاروا نوابًا للملك جسبلت في بلادهم، وحضره ماروز الملك المسن والوحيد الذي احتفظ بلقب (ملك) كرامة لعهد بهرام، دامت الافراح أربعين يومًا حسب تقاليد الجيانيز القديمة عند زواج الملوك، وشعر جسبلت رغم سعادته بالزوجة الكريمة أنَّ الاحتفال مبالغٌ فيه لكنه لم يشأ أن يكدر صفو زوجته بأفكاره القلقة التي تنبع من ميله لحياة البساطة والخشونة كما يعيش أغلب أفراد شعبه، بعد انتهاء الأفراح بدأ يفتش في كل الدواوين ويتتبع كل الأقاليم بدأبٍ يبحث عن الأخطاء ويعاقب كل من يفسد أو يتهاون حتى صلح أمر البلاد صلاحًا غير مسبوق، وهلل الناس بعدل وقوة الملك وتذكروا بهرام بعظمته وقالوا خير خلفٍ لخير سلف.
ذات مرة وهو جالس إلى زوجته ابتسمت بصفاءٍ وقالت:
- كم أحبك يا جسبلت، فأنت كريم لطيف المعشر لولا شيءٌ واحد لحزت الكمال.
قال وهو مبتسم:
- لا يطيق الكمال بشر، ولكن ما هو هذا الشيء؟
- خشونتك وابتعادك عن الترف .
قال بحسم وهو محافظ على ابتسامته
- هو الضعف والخور ولو ركنت للملذات لفسدت البلاد.
هزت رأسها بيأسٍ وإن ظلت ترمقه باسمةً وراضية بجمال صفاته.
اعتادت الملكة طباع زوجها ورضيت بعيشته الخشنة وأنجبت له ثلاث بنات وولدين، ومرت الأيام على الأسرة الملكية السعيدة حتى كبر الأمراء، وكان قد مرَّ على حُكم جسبلت خمسة وعشرون عامًا نعمت فيها الأرض بالاستقرار ودانت كلها بالولاء التام للملك الذي قوى أواصر رباط الأرض بأن زوَّج كبرى بناته لأكبر أمراء البيانين، وزوج الثانية لملك السنوب، والثالثة لابن ملك البرونين، وخطب ابنة ملك الكاتا لابنه الأصغر الأمير (سيلدن)، والذي كان مطيعًا لوالده الملك أكثر من أخيه الأكبر ولي العهد الأمير (جرافسرت) الذي أحب حياة اللهو والشباب وانغمس في ملذات لا يرضى عنها أبوه الملك الزاهد، والذي أراد لولي عهده سيرةً تشبه سيرته.
كانت حياة جرافسرت مثالًا للحياة التي يمقتها جسبلت، يصحو من نومه لا همَّ له إلا الخروج في نزهاتٍ مع الأصدقاء بين الصيد والسفر واللهو، والليل يقضيه في معاقرة الخمر ومضاجعة النساء، وفي كل يومٍ يزداد ابتعاده عن أبيه حتى بدا للأب أنه لا أمل في إصلاحه.
ذات يومٍ عاد إلى القصر مخمورًا واعتدى على إحدى خادمات أمه، وعندما صرخت الخادمة وتنبهت الملكة أقبلت ومعها الحرس ليفاجأ الجميع بالأمير جرافسرت وقد قتل الخادمة!.
لم يجرؤ أحدٌ من الحراس على لمس الأمير الذي وقف مذهولًا لا يعرف ماذا يفعل، وإذا بصفعةٍ مدوية من الأم تخرجه من ذهوله فينتبه ليرى الملك آتيًا من بعيد وعلى وجهه غضبٌ كالجحيم، وبصوته الهادر يأمر الحرس بالقبض عليه وإيداعه السجن، حينها تقع الملكة مغشيًا عليها.
أفاقت الملكة في جناحها فوجدت الملك جسبلت جالسًا جوارها بادي القلق وفي عينيه نظرةٌ مشفقة، سألته بصوتٍ واهن عن مصير جرافسرت لكنه آثر الصمت، نظرت له نظرةً تجمع بين العتاب والرجاء، فهم الملك على الفور ما تريده، فربت على يدها وابتسم بحنان وقام من جوارها، أمسكت يده ونظرت بخوف ورجاء مرةً أخرى وقالت بصوت ضعيف:
- لا تفجعني فيه.
همس بصوتٍ ضعيف:
- ارتاحي الآن فقد أجلت هذا الأمر، ولا تخافي سنتكلم فيما بعد.
حاولت أن تعتدل لكنها لم تقدر فطمأنها قائلًا:
- لن أتخذ القرار قبل أن نتكلم.
خرج مسرعًا من الغرفة ليتركها على فراشها منهكةً وحزينة.
في هذه الليلة سهر الملك أكثر من أية ليلةٍ، كان متحيرًا بين منهجه في الحكم وعاطفته كأب، بين وعده للرعية بالعدل والأمل الذي منحه لزوجته بإمكانية استثناء جرافسرت من العقوبة، جلوسه على العرش طال كما طال شروده، أحسَّ بالضيق فقام وخرج من القاعة إلى الدهليز الكبير متجاوزًا الحراس، ثم خرج إلى حديقة القصر وعندما خرج معه حارسه المقرب أوقفه بإشارةٍ من يده فتركه يخرج وحيدًا.
أخذ يجوِّل بين الأشجار والورود، وتوقف أمام مجموعةٍ من الورود البيضاء وأخذ يتأملها محاولًا إراحة عقله من التفكير، ثم جثا على ركبتيه محاولًا شمَّ رائحتها عن قُرب، بعد قليل قرر أن يستلقي على الأرض ويراقب النجوم اللامعة.
أخذ ينظر للنجوم ويحاول رؤية المزيد منها ويركز في النجوم التي خبا ضوؤها في محاولةٍ لرؤية المزيد من النجوم، أحس بلسعة برد خفيفة وبدأ الخدر يتسلل إليه رويدًا رويدًا لكنه كان يشعر بالنشوة وبسعادةٍ خفية رغم ما لاقاه اليوم، بدا في حالٍ بين اليقظة والنوم فقام متثاقلًا وعندما وقف على قدميه رأي شجرةً بعيدة عندها شبحٌ لرجل طويل أخذ يقترب منه ببطء، حاول أن يتكلم لكنه أحجم دون سبب وعندما اقترب الرجل أكثر وأكثر عرف فيه صورة بهرام الملك العظيم السابق، فهزَّ رأسه غير مصدق فهو لم يره مذ كان في السابعة عشرة من عمره، كان بنفس هيئته لم يتأثر بالزمن، توقف على بعد أمتارٍ من الملك جسبلت وبصوتٍ حنون عميق قال له:
- سلام عليك ما دمت للعدل مقيمًا.
انعقد لسان جسبلت فأكمل بهرام:
- حان وقت اختبارك يا جسبلت.
- اختباري؟!
- أجل؛ فهذا قَدر الملوك وقد اختُبرت من قبلك واليوم دورك يا وريث عرشي وحامل الأمانة.
- وما هو اختباري؟
- لست بحاجةً لمعرفته، فأنت بالفعل تعلم، لكني أتيت لأثبتك فقد داخلك ضعفٌ قد يودي بك.
- تقصد جرافسرت؟
- القاتل الذي تتردد في القصاص منه.
- إن كان هذا هو اختباري فما أسهله.
- ليس سهلًا كما تظن.
- بل هو أسهل مما يليق بمثلي.
ابتسم بهرام لثقته وقال:
-هو أول اختباراتك يا جسبلت وستواجهه.
استدار بهرام فحاول جسبلت إيقافه لكنه ابتعد.
أفاق جسبلت فوجد نفسه نائمًا بين الورود.
هز رأسه ونهض متثاقلًا وعقله شارد في رؤياه.
في صباح اليوم التالي قرر الملك إصدار حكمه بإعدام جرافسرت، كان القرار مكتوبًا بخطٍّ منمق حروفه حادة كالسكاكين، يكاد يلمح الدماء تسيل على أطرافها، مد يده بالقلم ليوقع القرار، يده ضعيفةٌ والقلم ثقيلٌ والورقة كأنها على بعد أميال، قبل أن يصل القلم للورقة سمع صوت زوجته وهي تهرول ناحيته فقام كالملدوغ، وسقط القلم من يده بينما تسقط المرأة على الأرض وتقبل قدميه وهي منهارةٌ وآخذة في البكاء بشكلٍ هيستيري، كان قلبه يحاول أن يتصلب في قسوة لإرادته العدل لكنه ضعف أمام بكائها، وقال بصوتٍ فيه بعض التردد:
- انهضي يا عزيزتي لن أعدمه.
قامت وهي تمسح دموعها وقالت:
- إذن اطلق سراحه الآن.
لم يتكلم جسبلت فقالت للحرس:
- الملك يأمركم بإطلاق سراح الأمير.
نظر الحرس للملك الصامت ونظرت الملكة في عينيه مستثيرة لشفقته فهزَّ رأسه ببطء علامة الموافقة.
غادر الحراس لتنفيذ الأمر الملكي بينما ظل الملك صامتًا، وعندما شعر بلمسةٍ من الملكة وهي تحاول شكره عبس في وجهها وغادرها بلا كلمات، لم تهتم الملكة كثيرًا رغم حبها للملك فقد كانت غريزتها كأم تقودها في هذه اللحظة، أخذت تعدو بشكلٍ لا يليق بملكة حتى وصلت لمحبس جرافسرت، وشاهدته وهو يخرج في حراسة بعض رجال الملك وقبل أن تتكلم مع ابنها رأت أحد خواص رجال الملك يأتي مسرعًا وفي يده ورقةٌ أعطاها لقائد الحرس، قرأ القائد الورقة ونظر للملكة باحترام وقال:
- اطمئني يا مولاتي، فالملك أمرنا بنقل الأمير لقصر الجزيرة البحري والتحفظ عليه هناك.
نظر جرافسرت لأمه في هلع وقال:
- إنه ينوي قتلي هناك يا أمي، لا تصدقيه.
بدا الامتعاض على وجوه الحراس فقالت الأم بصرامة:
- لا تتحدث هكذا عن الملك جسبلت؛ إنه لا يحنث بوعوده وما يمنعه من قتلك الآن مانع.
نظر لها الحارس بارتياحٍ وتحرك مع رجاله ومعهم جرافسرت لتنفيذ القرار الملكي.
عادت الملكة إلى زوجها مسرعةً ودخلت عليه في قاعة عرشه وانتظرت خروج مَن في القاعة، وسألته عن قراره بالتحفظ على جرافسرت.
كان ما زال عابسًا وهو يقول:
- هل تريدين جريمةً أخرى من جرائم هذا الوغد أم تراك ستفرحين به وهو يغدو ويروح بين الناس بعدما اكتشفوا جريمته؟ إنَّ شعبي قد يقتنع بحكمٍ مخفف بسجنه لكنه لن يقتنع باستثناءٍ كامل من العقاب.
- هي السياسة إذن؟
- لا تتكلمي معي في هذا الأمر لقد فشلت في الاختبار بسببك.
قبل أن تتكلم وتسأله عن الاختبار أشاح بوجهه عنها مشيرًا لها بالانصراف.
تغير سلوك الملك تجاه زوجته الحبيبة بعد هذه الأحداث، صار ناقمًا عليها بسبب ضعفه أمامها، لم يكن يتخيل أنه ضعيفٌ هكذا من قبل، كان يعتقد أنه حادٌ كالسيف ولا يتردد في قطع أصابعه إن كان في هذا تحقيقٌ للعدل، كان يرى أنها سلبته ميزته الوحيدة لقد أصبح يرى نفسه الرجل الضعيف، وها هو يفشل في الاختبار الذي ظنه سهلًا، فماذا يفعل إن اختُبر فيما قد يجده صعبًا؟ كان ينتظر كل ليلة أن يأتيه بهرام في منامه ليلومه لكنه لم يفعل.
شعر ببعض الراحة في البداية لكنه أصبح قلقًا، يريد أن يكلمه، يريد أن يعلمه أنه ضعف بغير إرادةٍ منه وأنه نادم، يريد أن يسمع من بهرام ما يشعره بالرضا ويعزيه، يريد أن يشعر أنه ما زال جسبلت وأنَّ فشله هنا لا يعني النهاية، لكن بهرام لم يأتِ ليريحه، تركه في عذابه هذا دون رحمة..
مرت شهور وهو معتزل زوجته لا يسمح لها بلقائه، رافضًا الوساطة حتى من سيلدن ولي عهده الجديد، أو من بناته الحبيبات، كانت الملكة خلال تلك الفترة تخطط لتهريب جرافسرت، فرغم ثقتها في وعد جسبلت كانت قلقةً بشان التغير الذي طرأ عليه، وبالفعل استطاعت أن تصل لأحد أفراد طاقم الحراسة الذي يحرس القصر المنفي فيه الأمير وأوصلت من خلاله رسالةً للأمير بخطة تستطيع بها تهريبه من القصر وإعطائه كميةً من الذهب ليبدأ حياته بعيدًا بشخصيةٍ جديدة، كانت الخطة تعتمد على مساعدة بعض عناصر الحرس الذين سيهربون مع الأمير بعد حصولهم على كمياتٍ من الذهب لبداية حياةٍ جديدة، وبالفعل تم الأمر بنجاح واستطاع الأمير أن يهرب من القصر؛ لكنه لم يستطع الاحتفاظ بالرسالة التي سقطت منه أثناء الهرب ووجدت من يوصلها للملك جسبلت.
كانت الصدمة قاسيةً على الملك الذي التزم الصمت تمامًا ولم يظهر أية انفعالات، بدا كالصخر أمام الحراس واكتفى بطلب الأمير سيلدن الذي حضر إليه في عجلٍ وتلقى منه أمرًا باقتفاء أثر الهارب وقتله في الحال، ثم أمره بشيءٍ كان أشد صعوبة من الأمر بقتل الأخ الهارب، أمره بتكبيل أمه بالأغلال وإلقائها في السجن.