شتاء عام 1180 ميلادية
الثلوج تغطي كل شيءٍ بكثافة شديدة كما لم يحدث من قبل، ولكن رغم ذلك كانت الثلوج تحمل أثار ذلك الفارس الصليبي الذي يتحرك بصعوبة، وقد تلطخت قلنسوته البيضاء التي تحمل رمز الصليب الأحمر الكبير بدمائه، وقد وضع على ظهره درعًا محطمًا، وتدلى من خاصرته سيفٌ كُسر نصله، وقد أمسك بيديه حقيبة من القماش اتسخت بشدة، كان يتمسك بها بقوةٍ كما لو كانت تحتوي على حياته أو حتى ما هو أقيم. كانت لحيته وشاربه قد اختلطا بالثلج، ووجهه تحول للون الأزرق من شدة البرودة، ولكنه رغم ذلك كان يستمر في التحرك بلا كلل حتى ظهرت له في الأفق أحد أبراج قلعة صليبية بتلك الأبراج المميزة لها، وكأن ما رآه قد دب في جسده بعض الطاقة؛ فأخذ يسرع الخطى حتى وصل إلى بوابة القلعة التي ما أن رآه جنود الحراسة حتى هرعوا لفتح الباب، ولكنه ما أن رآهم حتى مد يده بتلك الحقيبة، وقال:
- سلموا تلك الحقيبة للكاردينال.
ثم سقط ميتًا كما لو أن جسده انهار بعد أن أدى مهمته!
شتاء عام 2007 ميلادية
كنت أجلس كعادتي أمام شاشات الكمبيوتر؛ أتابع البيانات التي تتراص عليها والتي تعطي قياساتٍ ومعلوماتٍ عن عملية الحفر، ولكي أعرفكم على نفسي باختصارٍ أنا أدعى كريم الأحمدي، وأعمل الآن كمهندس قياسات أثناء حفر آبار البترول منذ عشرة أعوامٍ تقريبًا، سافرت فيها إلى الكثير من الدول والأماكن الغريبة؛ للعمل على براريم الحفر، ولكن في تلك المرة كنت على أحد البراريم التي تعمل لحفر بئرٍ استكشافي في منطقةٍ غير مستكشفة في الصحراء الغربية المصرية، وكنت المسئول عن الوردية الليلية هناك حيث كنت أحب العمل ليلًا؛ لأجد بعض الوقت للقراءة بعيدًا عن المكالمات والمحادثات الصباحية الكثيرة، ولقد كان كل شيءٍ طبيعي حتى جاء ذلك اليوم.
كنت يومها قد أنهيت ورديتي الليلية في تمام الساعة السادسة صباحًا، وفي نفس الوقت كنت قد أنهيت عملي على البريمة بعد شهرين كاملين قضيتهم عليها بعيدًا عن بيتي وعائلتي في ذلك المكان النائي؛ لذلك بدلًا من الذهاب إلى مكان الإعاشة للنوم ذهبت لإعداد حقيبتي، وخلع ملابس العمل، وارتداء الملابس العادية، والخروج لانتظار السيارة التي سوف تعود بي الي البيت؛ لأقضي شهرًا كاملًا بعيدًا عن العمل، وبين عائلتي التي افتقدتها كثيرًا.
خرجت لأتجول في الأنحاء محاولًا أن أجد أي إرسالٍ على جوالي؛ لأبشر أمي بعودتي اليوم لتعد لي ما لذ وطاب من طعامٍ افتقدته هنا، وأثناء تجولي وجدت أسفل التلة خرائب مهجورة لما يبدو أنه قرية ما، ولكن كيف جاءت تلك القرية إلى هنا في ذلك المكان النائي الشديد الجفاف، والبعيد عن العمران؟! ولكن كان يبدو من تلك القرية أنها ليست قرية بدوية من عرب الصحراء الغربية؛ فشكل البناء مختلف، كما أن هناك ما يبدو أنه أنقاض مسجد صغير جدًا في وسط القرية تلك، وبسبب فضولي الشديد أخذت أنزل تلك التلة حتى وصلت إلى تلك الأنقاض، وخاصةً ذلك المسجد الصغير؛ لأن حجمه كان أصغر من أن يكون مسجدًا للصلاة وكانت تعلوه قبة صغيرة فقط عليها أثار للون الأخضر، فأخذت اقترب في حذرٍ؛ لأتجنب مهاجمتي بثعبان أو عقرب مختبئ، وما أن اقتربت من ذلك البناء حتى اتضح لي الأمر؛ فذلك البناء لم يكن مسجدًا كما توقعت بل كان مجرد مقام ما لأحد الشيوخ، والذي يبدو من بقايا الاسم المكتوب أنه يسمى الشيخ البستاني أو شيء من هذا القبيل، وفي الداخل كان يقبع المقام المهدم المصنوع من الخشب، ولكنه فارغٌ مع بقايا لقماش أخضر، وبعض الشموع، والآيات القرآنية، كما يوجد في أي مقامٍ من المقامات الموجودة في مصر، ولكن ما لفت انتباهي هو وجود الكثير من العملات النقدية المبعثرة في داخل المكان، ولكن الصدأ كان يغطيها بشدة، فنظرت حولي فوجدت كيسًا صغيرًا من الجلد الجاف فحملته، وكان ثقيلًا كما لو كان شيئًا بداخله، فافترضت أن ما بداخله هو مجرد بعض العملات؛ لذلك وضعت بداخله بعض العملات التي جمعتها من على الأرض، وغادرت المكان حتى لا يقلق الزملاء عليَّ بسبب اختفائي.
عند عودتي كانت السيارة قد وصلت بالفعل، وما أن رآني زملائي حتى أخذوا يشيرون لي باستعجالٍ، فركضت لأحمل حقيبتي وأستقل السيارة وأنام بعمق كما اعتدت؛ بسبب عملي طوال الليل حتى استيقظت على صوت السائق يقول أننا وصلنا مرسى مطروح، فتعجبت من نومي لسبع ساعاتٍ كاملة والسيارة تمشي على أرضٍ وعرة، ولكننا نزلنا لنستقل أحد الحافلات المتجهة إلى القاهرة.
كانت عودتي إلى البيت مثل كل مرة حيث استقبلتني والدتي بالكثير من الأطباق اللذيذة التي افتقدها أثناء العمل؛ حيث تتكون الوجبات دائمًا من نصف دجاجة صغيرة مشوهة، كما لو أنها ماتت في حادثة أليمة، أو أنها قد أكلت من قَبْل من قِبَل ذئبٍ متوحش، وإلى جانبها بعض الأرز الجاف والخضار الذي قد لا تدرك نوعه؛ إذا لم يحالفك الحظ لتجد بعض أثاره وسط الصلصة الكثيرة والمحترقة، كما لو أنهم يقومون بوضع جرامٍ واحدٍ من الخضار ليطعموا مئتي فرد، وبالطبع بعد تلك الوجبة الدسمة من يد أمي يسعدني الذهاب للنوم في غرفتي الهادئة فوق سريري الوثير، بعد أن كادت أضلعي تخترق صدري من صلابة المرتبة هناك، لأنام بعد شهرين كاملين من النوم المتقطع بسبب إزعاج ضوضاء الحفر، أو إزعاج الزملاء وحديثهم بصوتٍ مرتفع، أو إصرار عامل النظافة على تنظيف الغرفة أثناء نومنا، واقتناعه التام أنه يتحرك بهدوءٍ رغم أنه يصدر ضوضاء كافية لإيقاظ الموتى وليس بشرًا طبيعيين!
استيقظت من النوم وأنا أشعر بالنشاط لأفتح حقيبتي لأخرج أشيائي، لأجد أمامي تلك الحقيبة الجلدية الجافة التي نسيت أمرها بالكامل، فأخذتها وأفرغتها فوق مكتبي ليتساقط منها الكثير من العملات، ولكنها كانت ما تزال ثقيلة، فمددت يدي إلى داخلها بحذرٍ لأجد شيئًا دائريًا كأنه قرصٌ في حجم كف اليد، بارد الملمس، فأخرجته ولكن لم يكن غير كتلةٍ ما من الشمع الأصفر القديم والجاف، فتركتها جانبًا وأخذت أتفحص العملات وأنظفها بحرصٍ، وما أثار دهشتي أنها عملاتٌ أثرية تعود لفتراتٍ مختلفة للعصور المصرية الإسلامية، وبعضها لا يعود حتى إلى مصر ولكن ما هي تلك القرية؟، ومن هو صاحب ذلك المقام؟