وقف ذلك الكاردينال أمام أحد القبور التي غُرس فيها صليبٌ مصنوعٌ من الخشب، وقال بحزنٍ:
- فلتهدأ روحك الآن يا ديمتريوس، فلقد قمت بواجبك على أكمل وجه.
أنهى كلامه ثم امتطى حصانه الأسود وعاد هو وجنوده إلى القلعة الصليبي، ليصعد إلى غرفته ويجلس على مكتبه وعلى أضواء الشموع يخرج الحقيبة التي أتى بها ديمتريوس، ويقلب ما بها فوق سطح المكتب ليسقط منها بعض اللفائف الجلدية، وحجر أسود على شكل بيضة نُقش عليه باللون الذهبي كتابات غامضة.
رفع الكاردينال ذلك الحجر وقربه من ضوء الشموع ليتفحصه جيدًا، ولكنه لم يفهم ما الذي مكتوب عليه، ولكنه كان شبه متأكدٍ من أن ما على الحجر نقوش تشبه اللغة العربية.
- يا حراس.
قالها الكاردينال بصوتٍ مرتفع لينفتح الباب ويدلف إليه أحد الحراس، ليركع على إحدى ركبتيه قائلًا:
- أمرك يا سيدي.
قال الكاردينال:
- اذهب إلى غرفة ماركوس وأحضره إلى هنا الآن.
قال الحارس:
- في الحال يا سيدي.
انصرف وأغلق الباب وراءه تاركًا الكاردينال يفحص ذلك الحجر مرة أخرى بدقةٍ، وبعد دقائق قليلة فُتح الباب ليدخل رجل قوي البنية، كث الشعر يرتدي ملابس من الكتان ويبدو عليه أثار النوم، وقال وهو يركع على إحدى ركبتيه:
- تحت أمرك يا سيدي.
قال الكاردينال:
- اجلس يا ماركوس.
صب الكاردينال كأسين من النبيذ وأعطى ماركوس إحداها وقال:
- أنت بالطبع تعرف أن ديمتريوس عاد صباح اليوم من أورشليم.
قال ماركوس:
- لقد سمعت عن هذا، وأعرف أنه مات فور وصوله، ولكن ما الذي أتى به من هناك، ومهمته لم تنته بعد.
قال الكاردينال:
- أن البقاء في أورشليم أصبح يمثل خطورة على رجالنا، خاصةً أن ذلك المدعو صلاح الدين استطاع ضم الكثير من الأراضي الإسلامية إلى دولته، وأصبح بالطبع يحرك عينه الآن نحو أورشليم.
قال ماركوس مستهزئًا:
- دعه يفكر حتى من الاقتراب من أراضينا وسوف يدفن هو وجيشه تحت أسوار أول حصوننا.
قال الكاردينال:
- لا تكن ساذجًا يا ماركوس، ولا تستهين بقوة خصمك.
قال ماركوس:
- في النهاية أنه جيشٌ واحد ضد جيوش أوروبا جميعها.
قال الكاردينال:
- ولكن جيشه يقاتل لأجل قضية دينية وهي استعادة بيت المقدس، وأنت تعرف المسلمين جيدًا.
جرع ماركوس كأسه مرة واحدة وأخذ يضحك، ثم قال:
- عن أي مسلمين تتحدث، أنهم هم من مهدوا لنا الطريق لدخول أورشليم؛ فلقد تحالف الفاطميون معنا مقابل أن نقف إلى جانبهم ضد السلاجقة المسلمين، وأن حكامهم هم من كانوا يمدوننا بالعتاد طوال الطريق إلى أورشليم، إنهم مشغولون بالصراع فيما بينهم وقتل بعضهم لبعض من أجل السلطة.
قال الكاردينال:
- أوافقك، ولكن الأمر اختلف الآن بعد انهيار الدولة الفاطمية وتوحيد صلاح الدين لهم تحت رايته؛ لذلك الأمر مختلف تلك المرة.
قال ماركوس:
- وستقف أوروبا كلها ضده؛ لتدافع عن أملاكها الدينية أيضًا.
ضحك الكاردينال وقال:
- هل صدقت كذبنا يا رجل، أنت تعلم جيدًا أن تلك الحروب نحن الذين أشعلناها، ونحن من قتل الحُجاج المسيحيين لتثور أوروبا ضد المسلمين؛ لنستطيع بناء جيش قوي يساعدنا على دخول أورشليم، والبحث عما نريد بدون إزعاج المسلمين لنا.
قال ماركوس:
- بالطبع أعلم هذا، ولكنا كما أعلم استطعنا بقيادة ديمتريوس الوصول لما نريد، ولكن مهمته لم تنته بعد.
قال الكاردينال:
- لذلك ستكون أنت مكانه في منذ الآن، فاستعد للسفر إلى أورشليم فأنت الوحيد الذي تعرف اللغة العربية جيدًا.
وقف ماركوس مكانه ثم ركع قائلًا:
- تحت أمرك يا سيدي.
قال الكاردينال:
- ولكن قبل أن تسافر أريدك أن تتفحص ذلك الحجر جيدًا.
أمسك ماركوس الحجر وقربه من عينه التي لمعت وظهرت السعادة على قسمات وجهه، ثم قال:
- أهذا الحجر هو ما أظن أنه هو؟
قال الكاردينال:
- نعم، أخيرًا حصلنا عليه.
بما أنني كنت في تلك المنطقة في الصحراء الغربية فكنت أعرف الإحداثيات الدقيقة للمنطقة؛ فلذلك فتحت الكمبيوتر وأدخلت الإحداثيات على الخريطة؛ لأعرف القرى التي هناك لكن دون جدوى، حتى أن تطبيقات الأقمار الصناعية تظهر فقط صحراء قاحلة بدون أي أثرٍ لتلك الخرائب التي وجدتها هناك؛ فلذلك قررت أن أنظف العملات بدقة أكبر؛ لأعرف إلى أي عهدٍ تنتمي غالبيتها، فلربما يملك التاريخ بعض الإجابات؛ لذلك بحثت على الإنترنت عن طريقةٍ آمنة لتنظيف الصدأ عن تلك العملات، فوجدت طرقًا بسيطة تتضمن خامات موجودة في أي بيتٍ؛ لذلك قمت بتحضير تلك المواد مع فرشاة أسنانٍ وأخذت في تلميعها.
كانت غالبية العملات من البرونز وواحدة فقط من الفضة، ولكن ما لفت انتباهي تلك العملة الفضية التي كانت تحمل اسم وصورة الإمام عليّ بن أبي طالب، فبحثت عنها على الإنترنت لأجد أنها من العملات الفاطمية، وأن العملات البرونزية هي أيضًا ترجع للدولة الفاطمية، أما بقيتها فتعود للدولة الأيوبية وبعضها بيزنطي أيضًا، وحيث أن تلك المقامات تم بناء أغلبها في عهد الدولة الفاطمية، فيبدو أن تلك القرية تم بناؤها في تلك الفترة، ولكن ما تلك القبة؟، ومقام من القابع فيها؟
أخذت ألملم تلك العملات مرة أخرى، فوقعت عيني على تلك الكتلة الشمعية التي انعكس ضوء الكشاف عليها، فبدا أن هناك شيئًا بداخلها، فاقتربت لأتفحصها بدقة لأجد أن الشمع قد نُقش عليه نقوشٌ غريبة، وأن مادة الشمع نفسها ليست طبيعية؛ فهي قوية أكثر من المعتاد وثقيلة مقارنة بحجمها؛ لذلك وضعت ورقة على سطحها وأخذت أظللها بقلم رصاص حتى طبعت كل الكتابات المنقوشة وغير الواضحة على تلك الكرة الشمعية، وفردت تلك الورقة تحت الضوء لأفهم ما الذي نقش عليها.
كانت النقوش غريبة تشبه اللغة العربية لو مُزجت قليلًا باللاتينية، ولكنها غير مفهومة بالنسبة لي فأصبحت أدقق أكثر وأكثر، ولم أشعر بيدي وهي تصطدم بالكرة الشمعية لتسقط من فوق سطح المكتب مرتطمة بالأرضية الصلبة لتتحطم تمامًا، ويخرج من داخلها ما يشبه البيضة الحجرية السوداء، وقد نُقش عليها حروفٌ تشبه العربية باللون الذهبي.