MiskBook

Share to Social Media

منذ طفولتي وعندما كنت أعبر من أمام ذلك القصر خلال الرحلات النيلية أو عند مروري على الطريق لأذهب إلى الجامعة كنت أتمنى أن أزوره وأرى ما وراء تلك الأسوار، فالبناء يشعرك بالغموض بشدة، فهو يحتل مساحة شاسعة من الأرض المزروعة بعناية ويظهر ذلك من خلال الأشجار النادرة من الفواكه وأشجار الزينة التي تطل عليك من فوق السور الحجري المحلى من أعلى بأشغال حديدة فائقة التعقيد والجمال، ويقبع القصر ذاته بالقرب من مجرى النيل ببنائه الفريد الذي هو خليط من البناء الإيطالي المختلط بالبناء الشرقي والقوطي بتركيبة غريبة.
جلست في السيارة متجهين إلى ذلك القصر فتناولت حاسوبي المحمول وأخذت أجمع بعض المعلومات عن تاريخ ذلك القصر وبالطبع كان هناك الكثير وتبدأ الحكاية عندما أحضر محمد علي باشا رجل يدعى سليمان وكان تاجرًا ماهرًا ذائع السيط ليكون نواة لفريق يمسك أمور الدولة المالية، وخلال سنوات قليلة أصبح سليمان هذا مثل وزير المالية الآن وسمي الخازندار بعدها كلقب له وتكريمًا لجهوده منحه محمد علي باشا قطعة من الأرض على ضفاف النيل ليعيش فيها، وكان ذلك المكان قديمًا عليه بيت قديم مهجور لأحد المماليك وحوله بعض عشش الصيادين، وبالفعل تم إخلاء المكان وابقى سليمان الخازندار على ذلك البيت القديم وضمه داخل أسوار القصر وكلف أحد المهندسين المعماريين من إيطاليا بتصميم وبناء ذلك القصر وقد اتفق مع المهندس على إبراز التصميم الحديث الإيطالي مع دمجه مع السمات الشرقية لموطنه الأصلي في العراق في ملمح من قلاع القرون الوسطي التي شاهدها خلال سفره في أوروبا وأعجب به، وبعد شهور قليلة خرج التصميم الفريد وبعد خمس سنوات من البناء المستمر وإنفاق الكثير من الأموال لشراء أجود أنواع الرخام وأندر النباتات وأفخم أنواع الأثاث والمفروشات انتهى بناء القصر وانتقلت عائلة الخازندار للعيش فيه.
قلت وأنا أغلق شاشة الحاسوب: لا يوجد أي شيء مريب في تاريخ ذلك القصر.
قال علي وهو يقود السيارة: ماذا؟ لا توجد روايات عن أشباح أو من انتحر في هذا القصر في السابق.
قلت: لا، بل قصة طبيعية جدًّا فأنت تعرف فكر محمد علي باشا في ذلك الوقت فلقد كان يعطي القريبين منه أراضي بعيدة عن تمركز السكان وذلك لتعمير البلد ونقل تجمع بشري جديد لمكان جديد.
قال محمود: ولكن من الغريب أن الكثير من تلك القصور إما هدم وخرج مكانه برج أسمنت قبيح أو تم تأميمه واستولى عليه أحد ضباط الثورة ليهدم بعدها من الورثة ويبني مكانه برج أسمتني يتسع لمئات الشقق، فلماذا هذا هو القصر الوحيد الذي لا يزال يملكه عائلة الخازندار؟
قلت: ببساطة لأن والد ألفت هانم القتيلة كان أحد هؤلاء الضباط.
ابتسم محمود في خبث وقال هذا يفسر الكثير، ولكن قصر كهذا مصاريف إدارته تكلف ثروة كل شهر فهل ألفت هانم كانت ثرية لتلك الدرجة؟
قال علي بسرعة: يبدو أنك لا تعيش معنا على هذا الكوكب يا دكتور، إن ألفت هانم تلك من أكبر أثرياء البلد فزوجها الأول رحمه الله كان صاحب شركات إنشاءات كبيرة وهي ورثت كل شيء بعد موته وزوجها الثاني كان يملك شركات تعدين ونقل وهي ورثت الكثير أيضًا بعد موته، هذا بالإضافة إلى أن والدها كان صاحب أكبر شركة للتصدير والاستيراد في البلد وهي كانت أيضًا وريثته الوحيدة، هذا بالإضافة إلى شركتها الخاصة بها التي تعمل في مجال الملابس القطنية الفاخرة.
قال محمود مبهورًا: إذن هناك دافعًا كبيرًا من كل ورثتها لكي يقتلوها ليرثوا كل هذا.
قال علي: أنا لا أعرف الكثير عن عائلتها، ولكن ما أعرفه أن لها جمعيات خيرية وملاجئ للأيتام؛ لأنها عقيم ولم يكن لها أية أبناء.
قلت: يبدو أن الأمر سيحتاج توضيحات كثيرة من السيدة فردوس.
توقف علي أمام بوابة القصر وأطلق إشارة التنبيه مرتين ففتح الباب أحد العاملين بالقصر فقاد علي السيارة ببطء وهو ينظر حوله في انبهار من جمال الحديقة حتى وصلنا أمام القصر ليفتح لنا الأبواب أحد العاملين ويخبرنا أن السيدة فردوس في انتظارنا في الداخل.
ما أن دخلنا القصر حتى توقفنا في ذهول أكبر من زي قبل فما كان خارج القصر من فخامة شيء وما كان أمامنا شيء آخر، أن القصر تستطيع أن تقول أنه متحف، بل إن أقل قطعة ثمنًا لا تقل عن آلاف الجنيهات، فالسقف تتدلى منه نجفات من الكريستال النقي والأرض مكسوة بأندر أنواع الخشب المغطى بسجاد إيراني كثيف الوبر، عواميد من المرمر المكسو بأشكال وتماثيل فاخرة والحوائط تكتظ بلوحات فائقة الجمال لرسامين مشهورين، أما الأثاث فحدث ولا حرج يكفي أن أقول أن أقل قطعة منه قد تباع بالملايين في أية مزاد.
انتظرت السيدة فردوس حتى انتهينا من ذهولنا كأنها اعتادت على هذا الشيء من زوار المكان ثم قالت: مرحبًا بكم، تفضلوا في غرفة المكتب.
بالطبع لم تكن غرفة المكتب تقل في جمالها عن كل شيء في القصر حتى أن محمود قال لي بصوت خافت: هل تتذكر فيلا رستم من مغامرتنا السابقة؟ لقد كنا مبهورين بها رغم أنها مقارنة بهذا المكان مجرد عشة دجاج.
ابتسمت وقلت: يا رجل أنا خائف أن تفسد أرجلي ذلك السجاجيد الذي كنت أحلم في يوم أن أعلق سجادة صغيرة منه على الحائط في منزلي ولا أضعه على الأرض.
جلسنا وأشارت السيدة فردوس لأحد الخدم الذي أحضر بعض الشاي والمعجنات ووضعهم أمامنا ثم انصرف بهدوء.
قالت السيدة فردوس وهي تقلب فنجال الشاي الخاص بها: لقد ظهر شبح السيدة ألفت مرة أخرى أمس ولا أخفيكم خبرًا فإن بعض العاملين في القصر أخذوا في الرحيل خوفًا على أنفسهم.
قلت بعد أن رشفت رشفة من الشاي: ومتى سيصل الوريث الجديد للقصر ليستلمه؟
صمتت قليلًا ثم قالت: إنه أيضًا مختفي منذ يوم الحادث ولا نعرف عنه شيئًا.
قال محمود: مختفي؟ من هو الوريث إذن؟
قالت السيدة فردوس: السيدة ألفت ليس لها أبناء وليس لها إخوة ولا حتى أقارب من الدرجة الأولى؛ لذلك أصبح وريثها الوحيد هو السيد كمال ابن زوجها الثاني.
قال علي بسرعة: ولكن أبناءَ الزوجِ لا يستحقونَ شيئًا من تركةِ زوجةِ أبيهم، إذ أنَّهم ليسوا من أُولي القُربى ولا من ذوي الأرحام.
قالت السيدة فردوس: هذا حقيقي، ولكن هذا ما أوصت به السيدة ألفت في وصيتها، إذ تؤول كل أموالها إلى أعمالها الخيرية بما في ذلك عوائد شركاتها ويرث القصر بالأرض التي عليه السيد كمال.
قال محمود: وبالطبع هذا أغضب كمال ولربما هو من قتلها.
قالت السيدة فردوس بنظرة استنكار: بالطبع لا، إن السيد كمال رجل شديد الثراء بالفعل ويملك شركات تعدين عالمية، بل أستطيع أن أخبرك أن ثروته أضعاف ثروة السيدة ألفت، كما أنه يحبها بشدة كأنها أمه ومن المستحيل أن يضرها بشيء.
قلت: إذن أين هو؟
قالت السيدة فردوس: لا أحد يعرف، ولكن هذا أمر طبيعي معه، فلربما هو الآن في منطقة نائية في صحراء مصر يتابع أحد كشوفاته التعدينية، فهذا حدث في السابق عدة مرات.
قال علي: لا أشعر بالاقتناع بهذا الرد، عذرًا يا سيدتي، ولكن أعتقد أن المباحث الجنائية أمرت بإحضاره للتحقيق معه بعد الحادث وبالطبع راجعت شهادة تحركاته لمعرفة إذا ما كان سافر للخارج أو حتى سألوا شركته في مصر عن مكانه.
قالت السيدة فردوس: هذا ما حدث بالطبع، ولكنه لم يغادر مصر ولم تعرف شركته مكانه حتى أن هاتف الثريا خاصته لا يعمل، ولكني كما أخبرتكم لقد حدث هذا معه من قبل كثيرًا وفي النهاية يظهر ويخبرنا أنه كان في إجازة سرية ولا يريد من أحد أن يزعجه أو كان يقوم بالتفتيش على أحد المواقع بصورة فجائية وسرية أو حتى أنه كان في إحدى مغامراته النسائية السرية، إن السيد كمال رغم سنه إلا أنه يعيش كشاب طائش.
قلت: ولكن الحادث حدث منذ بضعة أشهر، تقريبًا ثلاثة أشهر، أعتقد أن هذا وقت طويل على اختفاء كهذا.
قالت السيدة فردوس: أنا لا أخفيك سرًّا أن أقول أنني قلقة عليه كثيرًا هذه المرة، ولكني لا أملك الحق في تقديم بلاغ عن اختفائه.
قال محمود: وهل توجد له أية عائلة أو أقارب؟
قالت السيدة فردوس: لا، إن معارفه الوحيدة كانت السيدة ألفت وهناك أحد أقاربها من طرف والدتها من بعيد وهو اللواء عادل الذي كان من أصدقائها المقربين وهو من كان يتابع الحادث مع الشرطة واشترك في التحقيقات قبل أن يغلق الملف سريعًا احترامًا لها وليسمح بدفنها في أسرع وقت.
قلت: وهل كان للسيدة ألفت أية عداوات؟
قالت السيدة فردوس: لا، نهائيًّا، إنها لم تكن تعرف أحدًا غيري واللواء عادل والسيد كمال ولم يكن لها أي علاقة بأي شخص آخر، فلقد كانت تكره العلاقات الكثيرة، ولكنها كانت محبوبة من كل الخدم هنا ومن كل العاملين في شركاتها ومؤسساتها الخيرية.
قل علي: وهل كان لها أي أنشطة ما ورائية، أقصد اهتمام بالسحر أو الأعمال السفلية.
قالت السيدة فردوس بسرعة مستنكرة: مستحيل طبعًا، إنك تتكلم عن سيدة أرستقراطية درست في الخارج وتتكلم خمس لغات كما أنها شديدة التدين وقامت بالعديد من الحجج والعمرات، ممكن السيد كمال من تقول هذا عليه فهو شخصية تحب تجربة كل شيء وعيش الخطر، ولكنني لم أرَ شيء كهذا منه.
قلت: سأطلب منك خدمة يا سيدة فردوس، هل تستطيعين إحضار ملف التحقيق وصور الحادث تقرير المعمل الجنائي من اللواء عادل؟
قالت السيدة فردوس بتردد: لا أعرف اذا كان سيوافق أم لا ولكن سأتصل به وأخبره عنكم وعن طلبكم.
قلت: جيد والآن هل تسمحين لنا من التجول في القصر ومعاينته فنحن نريد دراسة الأماكن التي سيركب فيها علي بعض المستشعرات.
قالت السيدة فردوس: المكان كله تحت أمرك ولك مطلق الحرية لتذهب إلى أي مكان.
قامت السيدة فردوس وانصرفت من الغرفة تاركة لنا المجال لإخراج أجهزتنا وبدئ العمل.
قال محمود وهو يقترب مني: يبدو أن هناك الكثير من المشتبه بهم هنا.
قلت: لا يوجد أمامنا غير كمال وفردوس واللواء عادل فقط.
ابتسم محمود وقال: هؤلاء هم المشتبه بهم الأساسيين، ولكن هناك الكثيرين أيضًا ممن لا نعرفهم.
قال علي: لا أعتقد ذلك، فمن له مصلحة في قتل مثل تلك السيدة.
قال محمود: بعيدًا عن الإرث والأموال أعتقد أن هناك دافعًا آخر لا يزال غامضًا.
قلت: أنا أيضًا أشك في هذا، ولكن هل تعتقدون أن عملنا الأول هو إثبات أن الأمر جريمة قتل وليس حادثة انتحار، فلو الأمر حادثة انتحار فلا يوجد أية شكوك في أي شخص.
قال محمود: أعتقد أن أول ما نريد عمله هو الاتصال بشبح السيدة ألفت.
قلت: الاتصال بالشبح لن يكون ذو فائدة كبيرة لنا فلا تنسى أنه مذبوح ولن يستطيع الكلام.
قال علي: هذا ما أكرهه في موضوع الأشباح هذا، فما علاقة الشبح بطريقة قتل البشري؟
قلت: إن القتل أو الانتحار حادث شديد التأثير والقسوة، فالطاقة الخارجة منه تؤثر بشدة على القرين الشبحي وشكله ولا سبيل للخلاص من هذا الأذى الذي يتعرض له إلا من خلال ظهور الحقيقة أو تحقيق مطالب ذلك القرين الشبحي.
قال محمود: إذن ما هي خطتك الآن للبدئ؟
قلت: لا يوجد خطة، فقط ننشر أجهزتنا في كل مكان في القصر وبعدها نتجه لمعاينة الحديقة.
كان ما أقوله حقيقة تامة، فأنا لا أملك خطة ولا أعرف كيف سنبدأ، ولكن خبرتي كانت تخبرني أن القادم سينزع اللثام عن الكثير من الأمور الغريبة.

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.