بسم الله الرحمن الرحيم
لأن لجيشنا تاريخًا يستحق أنْ يُروى
ربما يكون الحديث في مثل موضوع الكتاب مُكررًا بالنسبة للبعض، لكن في حقيقة الأمر، إنه برغم مرور نصف قرن إلا عام على نصر أكتوبر المجيد، إلا إنه هناك جديد كل عام عن هذه الحرب، شهادات حيَّة ممنْ عاصروا هذه الفترة، مذكرات من شاركوا في هذا النصر، ممن عبروا القناة، ورفعوا العلم، واستردوا الأرض والشرف والكرامة.
الجديد، ربما يكون موجودًا لدى من عاصروا هذه الحرب، ولم يُدلوا بشهاداتهم بعد، ممنْ لم تكن لديهم الفرصة للتحدث. نعم، فهناك أبطال عظام مازالوا على قيد الحياة، نالوا شرف القتال لاسترداد أرضنا المسلوبة، تلك البقعة الطاهرة والأرض المقدسة التي رُوي كل شبر منها بدماء المصريين الطاهرة الزكية، أبطال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
سورة الأحزاب- الآية 23
الذين ولدوا بعد السادس من أكتوبرسنة ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، عمرهم الآن تسعة وأربعون عاما، أي أنهم لم يدركوا مرارة هزيمة يونيو ألف تسعمائة سبعة وستين، ولم يشعروا أو يجربوا مهانة الاحتلال الصهيونى لشبه جزيرة سيناء، هؤلاء وُلدوا وكبروا وهم يسمعون أغاني الانتصار في ألف وتسعمائة ثلاثة وسبعين، لكن أظن أن الجيل الجديد ــ الذي يتعرض لدعايات متتالية في الداخل والخارج تقول له إن إسرائيل هي الأفضل، والأغنى، والأقوى، والأكثر تقدُّمًا في كل المجالات، بل وتطرق مسامعه الآن نغمات مثل أننا لم ننتصر في تلك الحرب، وأن إسرائيل هي التي انسحبت ــ يحتاج لاستخلاص العِبر والدروس المهمة جدا من حرب أكتوبر، خصوصا أنها الحرب العربية النظامية الرئيسية الوحيدة التي انتصر فيها المصريون على إسرائيل منذ نكبة مايو ١٩٤٨.
لقد قرأنا عن بطولات فردية كثيرة من أول «الشفرة النوبية» التي اخترعها المجند إدريس عليه رحمة الله، نهاية بصاحب فكرة استخدام خراطيم المياه لهدم خط بارليف باقي زكي يوسف، مرورا بمئات وآلاف البطولات الفردية الكبيرة.
إن الجيش المصري في حرب السادس من أكتوبر سطَّر أروع الأمثلة القتالية، بل كان محل دراسة ونظر الكثيرين ولفترة طويلة، تميزت خلال هذه الحرب كفاءة كافة الأفرع والأسلحة. يقول لواء "محمد عبد الغني الجمسي" رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر 1973 في مذكراته: (ففي الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم "السادس من أكتوبر"، عبرت الطائرات المصرية خط جبهة قناة السويس، متجهة إلى عدة أهداف إسرائيلية محددة في سيناء، وقد أحدث عبور قواتنا الجوية خط القناة بهذا الحشد الكبير، وهيتطيرعلى ارتفاع منخفض جدًا أثره الكبيرعلى قواتنا البرية بالجبهة وعلى قوات العدو، فقد التهبت مشاعر قوات الجبهة بالحماس والثقة، بينما دبَّالذعر والهلع في نفوس أفراد العدو.هاجمت طائراتنا ثلاث قواعد ومطارات، وعشرة مواقع صواريخ مضادة للطائرات من طراز هوك، وثلاثة مراكز قيادة، وعددًا من محطات الرادار، ومرابض المدفعية بعيدة المدى، وكانت مهاجمة جميع الأهداف المُعادية في سيناء تتم في وقت واحد، بعد أن أقلعت الطائرات من المطارات والقواعد الجوية المختلفة وتطير على ارتفاعات منخفضة جدًا في خطوط طيران مختلفة لتصل كلها إلى أهدافها في الوقت المحدد لها تماما.
كانت قلوبنا في مركز عمليات القوات المسلحة تتجه إلى القوات الجوية، ننتظر منها نتائج الضربة الجوية الأولى، وننتظر عودة الطائرات إلى قواعدها لتكون مستعدة للمهام التالية، كما كان دعاؤنا للطيارين بالتوفيق، وأن تكون خسائرهم أقل ما يمكن. إن مثل هذه الضربة الجوية بهذا العدد الكبير من الطائرات ضد أهداف هامة للعدو تحت حماية الدفاع الجوي المُعادي، ينتظر أن يترتب عليها خسائر كثيرة في الطيارين والطائرات يصعب تعويضها.
لقد حققت قواتنا الجوية بقيادة اللواء طيار "محمد حسني مبارك" ـ رئيس الجمهورية الأسبق ـ نجاحًا كبيرًا في توجيه هذه الضربة، وما حققته فيها من نتائج بأقل نسبة من الخسائر التي وصلت في الطائرات إلى إحدى عشر طائرة فقط، وهي نسبة من الخسائر أقل جدا مما توقعه الكثيرون.
كما شهدت معركة أكتوبر تنفيذ أكبر تمهيد نيراني بالمدفعية عرفته البشرية بطول الجبهة، حيث قام ما يقرب من ألفي مدفع على طول خط القناة بإطلاق القذائف في اتجاه الضفة الغربية للقناة تجاه العدو الإسرائيلي، وضرب التمركزات، ومراكز القيادة، والسيطرة على محطات الرادار الخاصة بالعدو الإسرائيلي، وذلك بعد الضربة الجوية المُركَّزة التي قامت بها القوات الجوية على طول خط بارليف،وقد أكدت الإحصائيات أن عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية تم إطلاقها على مواقع العدو الإسرائيلي في الدقيقة الأولى من بدء ضربة المدفعية، وذلك يعني أنه تم إطلاق 175 دانة في كل ثانية، هذا بالإضافة إلى بطولات الدفاع الجوي، وحائط الصواريخ المصري، فلم تشعر مصر بالاطمئنان لقدرتها على اتخاذ قرار الحرب الشاملة، إلا بعد أن نجحت فى إنشاء «حائط الصواريخ» المضاد للطائرات على طول خط المواجهة مع إسرائيل وفي العمق المصري، وقد تم بناؤه في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وحمى الجيش أثناء حرب أكتوبر 1973. استغرق بناء هذا الحائط أربعين يومًا، وكان يضم مجموعات منفصلة من قوات الدفاع الجوي: «المدفعية المضادة للطائرات، ووحدات الصواريخ، وأجهزة الرادار والإنذار»، إضافة إلى مراكز القيادة المشتركة التي أنشأتها مصر عام 1970 بهدف صد الهجمات الجوية الإسرائيلية، وكان لهذا الحائط دور كبير في تقييد القوات الجوية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973، مما سهل عملية العبور واجتياز خط بارليف، وإقامة رؤوس الكباري على الضفة الشرقية لقناة السويس.
وإن تحدثنا عن سلاح الُمُشاة، فلن تكفي صفحات هذا الكتاب؛ إن أبطال سلاح المُشاة دائمًا ما يجسِّدون روح الشجاعة والإقدام، فهم باكورة الموجات التي تنطلق في الحروب، لمواجهة العدو وجهًا لوجه، فعندما حان دور أسود المعارك، من جنود قوات المُشاة، حملوا 750 قاربًا مطاطيًا، ونزلوا إلى قناة السويس قبل أن تفرغ المدفعية من ضرباتها، وقبل ذلك بيوم، استطاع أفراد من قوات الصاعقة عبور قناة السويس سباحة، والوصول إلى مخازن النابالم وتعطيلها – وفق تصريح نجل المقاتل الراحل عبدالمحسن سعودي، أحد عناصر كتيبة العمليات الخاصة 23 صاعقة من العمليات الخاصة- وبدأ هجوم قوات المُشاة المصرية، حينما عبروا القناة، واقتحموا خط بارليف، ورفعوا العلم المصري عليه، بعد أن كانت إسرائيل تقول عنه إنه لا يقهر، ثم بدأت الهجمات المصرية على العدو الإسرائيلى، الذي كان جنوده يفرون وينسحبون من المعركة الضارية، فكانت الغلبة لجنود المُشاة المصريين، الذين أقاموا رؤوس جسور الكباري على الضفة الشرقية من القناة، بعد أن أفقدوا العدو توازنه في ست ساعات.
واحتلوا أكبر مساحة من الأرض داخل سيناء، كما واصلوا فتح ثغرات تقدموا من خلالها إلى عمق سيناء.
كان لسلاح المُشاة دور عظيم في هذه الملحمة البطولية؛ حيث تصدى جنود السلاح إلى الهجمة المُضادة لسلاح المدرعات الإسرائيلية بعد ساعة تقريبًا من عبور جنودنا للضفة الغربية بسيناء، بعدما تحركت مجموعة من الدبابات الإسرائيلية التي كانت مُتمركزة على بُعد بضعة أميال من الضفة لصد الهجوم المصري الكاسح، وردع الدبابات المصرية التي عبرت من خلال الجسور التي تمت إقامتها على ضفتي قناة السويس، إلا أن رجال المُشاة من قواتنا المسلحة استطاعوا أن يواجهوا تلك الهجمات بكل بسالة ليسيطروا على الضفة، ويساعدوا في رفع أعلام الوطن على أراضينا منتصرين، هذا كله بالإضافة إلى قواتنا المُدرَّعة، والقوات البحرية، وأسلحة الإشارة ورجال المخابرات.
إن تميُّز الجندي المصري المقاتل في الحرب، جعل منه السلاح الرئيسي فيها، بل إن حرب أكتوبر قد أفرزت عاملًا جديدًا، لم يظهر من قبل في حسابات القوى، وهو الجندي المصري، ذلك الجندي الذي يعود له ولإنجازاته في حرب 1973 الفضل في أن تقوم معاهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية بإضافة عامل جديد لحسابات القوى، وهو «النوعية القتالية»، ويُقصد بها الفرد المقاتل، ذلك العامل الذي غاب قبل 1973عن كل الحسابات والتقديرات، مما أدى إلى نتائج مغلوطة عن تفوق الجيش الإسرائيلي.
أبطال وشجعان ضحوا بحياتهم وأرواحهم في حرب أكتوبر المجيدة، وروت دماؤهم تراب هذا الوطن الغالي الذي لا يعظم عليه شيء، فالنفس تهون من أجل الحفاظ على كل ذرة تراب من هذا الوطن العظيم، ليسجل التاريخ قصصًا وحكايات وصورًا حية، وأحرفًا من ذهب لهؤلاء الأبطال الشجعان، وسيظل التاريخ يذكر بحروف من نور أبطال حرب أكتوبر الذين حملوا أرواحهم على أيديهم فداء لمصر، لتبقى هذه الحرب محفورة في قلوب وأذهان من عاصروها ومن لم يعاصروها أيضًا.
لذلك، كان من الواجب علينا أن يكون لنا دور- وإن كان بسيطا- في تقديم مثل هذا الكتاب الذي يحوي تسجيلًالبعض اللقاءات مع أبطالٍ كان لهم دور عظيم في نصرٍ مجيدٍ سيظل مثالًا للشجاعة والنُبل في تاريخ هذا البلد، يأتي هذا الكتاب بالتعاون مع المجموعة 73 مؤرخين، والتي حملت على عاتقها مهمة تسجيل كل شيء عن نصر أكتوبر؛ لقاءات مع أبطال معاصرين، وتسليط الضوء على معارك لم تأخذ حقها من التسجيل والتخليد، وعمليات عسكرية ضرب بها المصريون المثال في البطولة والفداء.ويتناول هذا الكتاب تسجيلات واقعية تمت مع أبطال على قيد الحياة، نالوا شرف العبور والقتال، بل إن الله - سبحانه وتعالى- أمد في أعمارهم ليشهدوا تمام النصر والاسترداد الكامل للأرض، وقبل أن تتعرفوا على أبطالنا وجب علينا الاعتراف أن هؤلاء - وعلى الرغم من عظمة بطولاتهم، ويكفي أنهم كانوا جزءًا ممن قاتلوا وانتصروا- من ضمن الآلاف الذين لم يسعفنا الوقت، ولن يكفي لذكر أسمائهم فقط مجلدات، لكن هذا الكتاب خطوة أولى في التعاون بين المجموعة 73 مؤرخين، وبين مؤسسة سطوع؛ لتسطير تاريخنا العسكري المُشرِّف، حتى يعرفه القاصي والداني -وبالأخص- الأجيال الجديدة والمعاصرة ممن لم يشهدوا الحرب، ولم يعانوا ويلاتها، ولم يذوقوا مرارة الهزيمة، وحلاوة النصر.
وفي النهاية، ندعو الله أن ينال هذا الجهد استحسانكم، آملين من الله -عز وجل- أن نكون قد وُفِقْنا في هذا المنجز.
محمد عوني أحمد