في تمام الساعة الواحدة والنصف في حديقة الفسطاط وفي رابع أيام عيد الأضحي المبارك ، وكان الجو في الحديقة أنشودة رائعه ولوحة فنية يعجز رساموا العالم شرقه وغربه أن يصمموا ربعها أو خمسها فضلآ أن يرسموا شبيهآ لهآ .
فما أجمل الطبيعه التي برأها وفطرها خالق الكون ، فيها السحر كله والجمال جله والفن وإبداعه ورونقه وصفائه وصدقه .
فها نحن نجلس في ربوة خضراء من الأرض عالية وفي منحدر من الأرض ومن أسفل منا مجري مائي يملأ الصورة صفاءآ ومن خلفه جبل المقطم يصنع حولنا نصف دائرة نحن مركزها ، وتلمح عيني في أخر مداها فوق المقطم ، القلعة تطل بالذاكرة علي تاريخ مصر القديم العظيم .
هذه كانت بعض ملامح الصوره وجوانبها ، صورة فيها الحياة والنسيم الذي يمنح الروح إشراقا وصفاءآ .
وصدق أمير الشعراء إذ يقول :
يصنع الصانعون وردآ
ولكن وردة الروض لا تضارع شكلا
ولعل هذا المكان سمي بالفسطاط نسبة إلي فسطاط عمرو بن العاص " الفاتح العظيم " الذي فتح مصر أم الدنيا كلها ونشر نور الإسلام في ربوعها وأنحائها ، آه كم تدين مصر لهذا الرجل العظيم الذي كان يحب هذا البلد حبا رائعا ، فمازال يلح علي الخليفه الراشد عمر بن الخطاب " رضي الله عنه " حتي أذن له بفتحها .
وعودا علي بدء إلي موضوعنا وإلي لوحتنا الفنية البديعه ، هذا صديقي الطائر الحزين يجلس بجواري علي تلك الربوه الخضراء ، وأنا الذي أطلقت عليه إسم الطائر لكثرة أحلامه وهذه الأحلام هي التي ضربت عليه فسطاطا من الحزن فهذه طبيعته ولا يتصنعها ، لم أره منذ عرفته يضحك بصوت عال إلا نادرآ وعندما يخطفه الفرح من نفسه ويقذف به إلي الجنه لا يزيد علي أن يبتسم . فنظرت إلي صاحبي وقلبت فيه النظر فرأيته سابحا بفكره , طائرا بجناحي قلبه في أفاق عالمه الفسيح ، فحدثت نفسي وقلت هذه فرصه سانحه في هذا الجو الجميل كي ما أجول في أعماق الطائر لعله يحدثني عن خبره وقصته وحديث قلبه .
فإن في بعض النفوس الحزينه علوما روحانية ليست في الكتب ، فالحياه هي أكبر مدرسة بل هي جامعه عظيمه دروسها كالصواعق , ووهجانها كالبرق , وحكمها كحد السيف ماضي , وتعليمها مرتفع الثمن غالي التكاليف . وعندما تروق الحياه لك وتقبل عليك بوجهها السعيد تشعر وكأنك في الجنه ، وعندما تدير عنك بظهرها الشقي تقذفك بذيلها إلي قعر الهاوية وراء الإنسانية جميعا لاتبالي بك في أي واد هلكت ولا في أي هاوية وقعت .
فالتفت إلي الطائر قائلآ : ألا تغرد لنا أيها الطائر فلعلك طائر ينا فوق السحاب إذا حدثتنا عن رحلة طيرانك بل رحلة عمرك ، فبادرني قائلآ : ماذا تأخذ من إنسان تافه لاقيمة لعمره ولا لحياته . فقلت مسرعآ : هكذا العظماء دائما يشعرون بتفاهة أنفسهم حتي أنك لو سألت الؤلؤ والماس والجوهر عن قيمته ونفاسته وأطاق الجواب ، لقالا إننا نتعجب من إهتمام الناس بنا ونحن كحبات الرمال والحصا الملقاه علي الأرض تتلألأ إذا صادفت ضوء الشمس وأشعتها ، ولا تدري أن قيمتها في معدنها وجوهرها النفيس .
فهذا الشافعي الإمام العظيم يقول :
أحب الصالحين ولست منهم
وأرجو أن تنالني منهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي
وإن كنا سواءآ في البضاعه
فانظر أخي أكرمك الله هذا الشافعي يقول عن نفسه أنه ليس من الصالحين وعلمه قد ملاء جنبات الأرض ، فمن يكون الصالحين إذا لم يكن الشافعي منهم هذا إذا لم يكن سيدهم .
وهذا عمر بن الخطاب الفاروق وصاحب رسول الله والمجاهد بنفسه وماله في سبيل الله الحاكم العادل والإمام الزاهد يسئل حذيفه بن اليمان أمين سر رسول الله صل الله عليه وسلم هل أنا من المنافقين ياحذيفه ؟ فدائما تجد العظماء ينظرون إلي أنفسهم أنها حقيرة ، فهذا التواضع هو سر العظمه .
وهذا أبا سعيد الحسن بن الحسن البصري سيد البقيه من التابعين لم يكن يرى إلا وكأنه أسيرآ أمروا بضرب عنقه من تواضعه وإنكساره وخوفه من الله ووجله .
فانتفض صاحبي كما ينتفض الطائر وقال لي : ليس لهذه الدرجه فهؤلاء الذين حدثتني عنهم نجوم عالية تتلألأ في السماء ، أما أنا فأبسط وأقل مما تتصور . فقلت له : فأنشدك الله أيها الطائر أن تحدثني عن نفسك .
فقال : أما إذا ناشدتني الله وميثاق العلم ووحي الأقدار في حكمتها ، فإني محدثك بغيبي وقصة نفسي .
وقبل أن يتحدث الطائر ويخبرنا بقصته سأخبركم عن شئ عن هذا الطائر
« عمر قد توفي منذ سنه تقريبا وكان صديقا لي ، وأنا جالس بخيالي إستحضرت روحه وكأنه جالس أمامي في حديقة الفسطاط أكلمه وبدء يحكي ويحدثنا عن مشوار عمره . فماذا قال الطائر ؟؟ » ......