"أنا لا أعيش في الأحلام، بل في تأملات الواقع الذي ربما يكون المستقبل".
- راينر ماريا ريلكه
سارة
أين أنا...؟
عقلي مُهشم، لا أستطيع التركيز، عيناي ثقيلتان، وكأنني كنتُ غارقة في بحرٍ من الكحول...!
جمعت كل ما تبقى من قوة لأفتح عينيَّ لأجد نفسي جالسة على أحد الكراسي الخشبية وأمامي سرير والدتي، السقف قريبٌ جدًّا يكاد يقع فوق رأسي، وبعيد إلى الحد الذي يجعلني تائهة، مُحاطة بأربعة حوائط لا أعلم هل هي سجن أم ملاذ!!
جسدي مُلقى على الفراش ولا أستطيع تحريكه، هنالك شخص ينظر إليَّ، إنها أمي، لا أستطيعُ تذكُّر ملامحها، أعتقد أنني لا أستحق ذلك...
كذلك الصور المرسومة على الحائط لا أستطيع تمييزها!!
نهضت من فوق ذلك الكرسي بقوة كأن به مغناطيسًا يرفض خروجي من الغرفة، اتجهت إلى الباب بسرعة، ولكنني لاحظت بطء الوقت كأنه يأبى أن يمضي، دقات تلك الساعة المقلوبة على الحائط تثير أعصابي، لونا الأرضية الأسود والأبيض يجعلانني أزداد قلقًا، توقف كل ذلك فور أن وصلت إلى مقبض الباب أخيرًا!!
فتحتُ الباب لأجد هواءً ثقيلًا قد ارتطم بي يكاد يقتلعني أنا والباب معًا، خرجت لأجد ردهة طويلة تختلف عن ردهة المنزل، سرت قليلًا ثم لاحظت أن قدميَّ مُبتلتان، وجهت نظري لأسفل فوجدت الأرض كلها مُلطخه بالدماء كأنني بداخل بِركة من الدماء وليس ردهة...
تملك الخوف مني، بالكاد كنتُ أستطيع التنفس متسائلةً ماذا ينبغي لي أن أفعل!!
صببتُ تركيزي لأسفل، كانت الدماء بها أسماء كثيرة لا أعرفها، ركضتُ بكل ما تبقى لديَّ من قوة من شدة الخوف لنهاية الردهة، ودلفت إلى بابٍ يبدو أنه قديم ومريب بعض الشيء، عندما دخلت الغرفة شعرت بألمٍ في رأسي شديد لم أستطع مقاومته، وجثوت على ركبتي، وصرخت بأعلى صوتٍ لي حتى وقعت...
لا أعلم كم مر من وقتٍ ولكن ألم رأسي قد زال، فتحتُ عينيَّ بغير تركيزٍ محاولةً أن أتفحصها بيديَّ لأكتشف أن كلتا يديَّ مقيدة!!
نظرت أمامي، كان هنالك "زين" صديقي الجديد واقفًا وبيده شيء صغير، أعتقد أنه كتاب، وفي الزاوية الأخرى شخص وبيده شيءٌ لامع، إنها سكين!!
حاولت أن أحدث زين ليفك وثاقي، لكن صوتي في تلك اللحظة كان ثقيلًا كأنني طفلة صغيرة لم تتكلم مطلقًا...
كانا يتمتمان بكلماتٍ لا أفهمها وبنبرة صوتٍ تكاد تنزع قلبي من مكانه، لقد كنتُ مرتعبة لكن وجود زين كان يبعث الطمأنينة بداخلي رغم أنني لا أعرفه جيدًا.
ذلك الشخص الذي بيده السكين لا أتذكر وجهه، ولكن أتذكر بعضًا من كلماته مثل "ريلينكويم"، "إيجوسيرفابويم".
أعتقد أن تلك الكلمات تعود للغة اليونانية القديمة أو المصرية أو حتى اللاتينية، ولكن ما أثار دهشتي هو أن زين كان يجاريه ويتمتم مثله ببعض الكلمات مثل: "ريكسم"، "‘يجوتيميكم".
تحرك ذلك الشخص الذي كان بالزاوية، أعتقد أنه يريد قتلي ولكن زين كان له بالمرصاد، ثم نظر إليَّ وبدأ بالركض نحوي، صرخت بكل خوفٍ إلى أن سمعت صوت أحدهم، ثم أظلم المكان!!
لقد كان صوت المنبه، إنه الحلم ذاته الذي يتكرر في الآونة الأخيرة!!
تقول والدتي إن لكل شيء رمزًا أو إشارة، ولكنني لا أفهم ماهية هذا الحلم الغريب، العجيب في الأمر أنه يتكرر ولا أتذكره بتفاصيله!!
نهضتُ من فراشي وذهبت لأنظر إلى السماء في الخارج، كانت الأمطار قد توقفت عن الهطول منذ وقتٍ ليس ببعيد ما جعل الأجواء تبدو كأنها كما لو كنا نشاهدها التلفاز، بينما أتأمل جمال قوس القزح اهتز هاتفي برنين أحدهم، لقد كان زين.
اتفقنا على الخروج معًا في عصر يومنا هذا، ذهبت للاستحمام سريعًا ومن ثم ارتديت ملابسي وخرجت لمقابلته...
أثناء الطريق كنت أفكر في علاقة زين بذلك الحلم، لطالما أردت إخباره بتلك الأحلام التي تراودني، فالأحلام تقودنا جميعًا إلى الأحاسيس، ولكنني كنت أتمهل دومًا ريثما نتعارف أكثر أنا وهو، فزين قد تعرفت عليه من فترةٍ ليست بكبيرة، كنتُ مع إحدى صديقاتي وقد التقينا به مصادفة، ومن يومها أصبحنا نتعارف أكثر من باب الصداقة، وربما يحمل القدر في جعبته أشياء كالارتباط رغم أنني لا أفكر بذلك ولكن اهتمامه بي جعل ذلك يحدث...
التقينا في المقهى الذي كنا نذهب إليه مع أصدقائنا، وجلسنا ثم بدأ حديثه بنبرةٍ هادئة:
- كيف حالك؟
- بأفضل حالٍ، وأنت؟
رمقني بعينيه حالكتي السواد وابتسم بخفة ثم قال:
- بخير، ولكنك لستِ كذلك، وجهك يقول عكس ذلك، تبدين عابسة!
رغم أنني حاولت إخفاء ذلك ولكنه يبدو ظاهرًا كثيرًا، وبمحاولةٍ بائسة أجبت عن سؤاله:
- لا، ليس هنالك شيء يُذكر...
ضم شفتيه ومن ثم نظر إليَّ بعطف وسأل:
- هل هو الحلم نفسه الذي يتكرر؟
لقد كنت غبية بما فيه الكفاية لأطلعه على تفاصيل حياتي رغم عدم تعارفنا جيدًا، ولكنني لم أخبره قط بتفاصيل تلك الأحلام التي تراودني...
- نعم، الحلم نفسه ولكنني لا أتذكر منه شيئًا...
وقتئذ تذكرت تفاصيل ذلك الحلم ما جعلني أشعر بالصداع فحاولت تغيير الموضوع وأردفت:
- أخبرني، كيف هي أحوال عملك في العقارات؟!!
جاء النادل وقدم إلينا القهوة التي كنا قد طلبناها سلفًا، احتسيت بعضًا منها، شعرت بأنني أملك العالم وما فيه من دفء رغم برودة الطقس، فالقهوة ورغم كل شيء هي الرفيق الوحيد لعقولنا، العنوان الأسمى لشتائنا، وبالتأكيد هي الملاذ الأخير لطمأنتنا!!
- هنالك بعض المشكلات المتعلقة به ولكنها ستُحل بالتأكيد...
أجاب بتحفظ كعادته، زين شخصية متنوعة، غامض بماضيه وقنوع بمستقبله، يعشق معرفة تفاصيل الشخص الذي أمامه، يتحاور بطريقةٍ فلسفية تجعل من يجادله إما خاسرًا وإما خاسرًا، رغم حديثنا الكثير فإنني لا أعرف عنه بقدر ما يعرفه عني، كل ما أعرفه أنه محاسب أو شيء يشبه ذلك بالعقارات، عمره ثلاثون عامًا أو كما أظن، أي أنه أكبر مني بعدة سنوات فقط...
ساد الصمت قليلًا، احتسيت بعض القهوة وأنا أتأمل بشرته البيضاء كالحليب، كأنه خالٍ من الدماء!!
فكرت كثيرًا أن أعرف شيئًا عن ماضيه لكن جميع محاولاتي باءت بالفشل، فبقدر إيماني الشديد بالخصوصية إلا أن غموض زين قد جعلني أرغب في معرفته أكثر، فسألت الأصدقاء المشتركين بيننا، زملاءه عندما زرته في عمله، وبواب العمارة التي يقطن بها ولكن لا أحد يعرف عنه شيئًا!!
قررت أن أسأله اليوم بالرغم من أنني كنت أنتظره ليتحدث وحده ولكنه سبقني بالسؤال عن والدتي ليقطع انتشار الهدوء بيننا:
- كيف هي حال والدتك؟
- إنها في تحسن بطيء، أخبرني الأطباء بأن حالتها غير مستقرة نظرًا لدخولها في غيبوبة وربما يرجع السبب لكبر سنها...
عندما سألني عنها شعرت بالحزن، وتذكرت ذكرياتي معها عندما كنت صغيرة، وكيف أصبحت علاقتنا مُهشمة عندما كبرت، وربطت ذلك بالحلم عندما لم أستطع تذكُّر وجهها، أعاد السؤال عليَّ مرةً أخرى:
- هل ما زالت بالمشفى؟
أجبته وملامحي بها بعض الحزن:
- نعم...
- حسنًا، لنغير الموضوع، يبدو أن التعاسة ستكون في طريقها إذا أكملنا على هذا النحو!!
قالها مازحًا بينما لم أرد أنا عليه، كنت أفكر في ما يحدث لي في الآونة الأخيرة، فتابع حديثه سائلًا:
- كيف تتغلبين على شعور الوحدةِ يا سارة، بالأخص في هذه الفترة العصيبة التي تمرين بها؟!!
سألته بتحفظ:
- هل هذا سؤال أم إجابة؟!!
نظرت نحوه وحاجبي مقطب فأردفت قائلة:
- حسنًا، لقد اعتدت الأمر، القراءة، الركض قليلًا لاستنشاق الهواء، مشاهدة بعض الأفلام الدرامية كحياتي، وتناول القهوة!!
ابتسم قائلًا:
- يبدو الأمر ممتعًا عندما تقصينه عليَّ...
قاطعته بحزن:
- متعة سوداء، إذا أردت التدقيق، إن الأيام أصبحت تشبه بعضها، لا جديد يذكر ولا قديم يعاد...
قال بأسف:
- إن هذا لأمر محزن، إنني حقًّا آسف لأجلك يا سارة...
ابتسمت بخفة للهروب من هذا الجدال وقلت:
- لا عليك، لنتبادل الأدوار، فقد استنتجت مؤخرًا من خلال حديثك أنك تعيش وحدك!!
تعالت أصوات ضحكات زين من حولنا وقال:
- يبدو أنني مُراقب هنا...
ثم أخذ نفسًا عميقًا وأكمل:
- حسنًا، لقد أوقعتني في الفخ الذي نصبتُهُ لكِ، لستُ وحيدًا كما تظنين أو بالأحرى كما كنت أظن مثلك، إنني دائمًا ما أنفك عن تسلية نفسي، وربما بعض العمل الذي يلازمني على الدوام بالإضافة إلى أنني أزور بعض الأصدقاء القدامى من وقتٍ لآخر، لذلك لا أجد نفسي وحيدًا...
تعجبت من حديثه، فطلبت نصيحته:
- كيف تنصح من هم مثلي، من أرغمتهم الوحدة على العيش بظلالها وصمتها؟
ابتسم بخبث، وأجاب كأنه طبيب بيده الترياق:
- ليس هنالك شيء يُسمى بالوحدة، الإنسان هو من يجلب لنفسه التعاسة عندما يتخلى عن السعادة، يظن أن التعاسة تكمن في شخص ولا يعلم أنها بداخله تنتظر أن يطلق العنان لها، نحن ببساطة عندما نحزن، نُحبط، نشعر بالوحدة نقتبس بعض العبارات من القصص التي قد رواها أحدهم ونمزجها بأسباب تافهة لنخرج منها ونحن راضون بتعاستنا كأنها الملاذ الوحيد، ناسين أنه بيدنا كل شيء، الأمر أشبه بذلك السجين التعيس الذي عاش سنوات يبكي دون أن ينظر تحت قدميه ليجد المفتاح مُلقى أمامه...
ابتسمت وقلت له:
- إذًا أنت ترى أن تلك المشاعر أيًّا كانت سعيدة أو تعيسة فهي بيد الشخص نفسه...؟
- نعم، بداخل كلٍّ منا سعادة عارمة لا نعلم عنها شيئًا على عكس أشخاص آخرين يعلمون كل العلم عنها، ربما ستخرج عن طريقهم أو من تلقاء نفسها ولكنها بالتأكيد ستخرج، إنها فقط تنتظر أن تثور كالبركان...!!
ابتسمت بمرارة وعقّبت على حديثه:
- فلسفي كعادتك يا زين، لكلٍّ منا وجهة نظره المختلفة...
أكملنا حديثنا في ذلك اليوم ثم وردته مكالمة مهمة فغادر ومن ثم غادرت أنا الأخرى بدوري متجهة إلى المنزل...
هكذا وحدي أعيش على الأرجح، أنظر للسماء، يوم كثيف بالغيوم رغم هطول الأمطار مُسبقًا، أبتاع زهورًا وسجائر وبعض القهوة لإضافة بعض الجمال...
تخرج كل تلك الأفكار المجنونة على هيئة دخان فوق رائحة فنجان القهوة الساخن لتودعها الزهور في مشهدٍ درامي بطيء يصور الحياة من عدة جوانب.
كل ذلك وجنوني حاضر، أشاهد تلك الحشود المكتظة على أشياء تافهة كموت أحدهم، أفكر في أشياء لا وجود لها كراحتي ومن ثم أغلق عينيَّ لأجد عالمًا مُظلمًا ولكن ماذا عن عقلي...؟!!
في بعض من الأحيان وفي تأملي باللاشيء أحس بأنني مُراقبة، أنظر حولي، لا أجد شيئًا يلفت النظر، تكرر ذلك عدة مرات حتى أثناء المشي بين الناس في الشارع أتخيل كأن أحدهم ينظر إليَّ...!!
حاولت ربط كل تلك الأحداث ويداي ترتعشان، وكأن يد أحدهم تمسك برقبتي وتكتم نفسي، لا أشعر بشيء حولي إلى أن سمعت صوت اتصال بهاتفي ما جعلني أنتفض حيث أصابتني القشعريرة، ذهبت للإمساك بالهاتف ورؤية من يتصل في مثل هذا الوقت...
أجبت:
- نعم، من المتصل...؟!!
- هل أنتِ سارة مازن السيد...؟
إنه صوت فتاة، اعتراني القلق قليلًا بذكر اسمي بهذه الصيغة ما جعلني أتردد بالرد...
- هل هنالك أحد ليرد؟
كررت السؤال بصيغة أخرى، قررت الإجابة متجاهلةً الخوف الذي تملكني رغم عدم معرفتي السبب، فلربما تكون زميلة قديمة في الدراسة أو أحد معارفي القدامى:
- نعم، أنا سارة مازن السيد...
- حسنًا، آسفةٌ لاتصالي في هذا الوقت المتأخر.
بدأ صوتها يهدأ ويلين ثم تنفست بعمق وأكملت:
- إن السيدة حياة عبد السلام قد خرجت من العناية المركزة وأفاقت من غيبوبتها، لقد نادت اسمك عدة مرات رغم أنها نائمة، يمكنك أن تأتي لزيارتها في الغد...
أصابتني القشعريرة من الفرحة، لقد أفاقت والدتي، سرعان ما رددت عليها:
- حسنًا، غدًا في الصباح سأكون في المشفى...