AmanyAlsagheer

Share to Social Media

* 13 *
*** انتبهت منى على صوت إحدى زميلاتها تناديها، فالتفتت متسائلة لتجدها تبتسم وتقول مشيرةً إلى ما أمامها: لقد مات الفأر منذ زمن.
نظرت منى إلى الفأر الملقى أمامها على منضدة المعمل والتقى حاجباها في ضيق.. كانت تعلم أنه سوف يموت فقد حقنته بمادةٍ توقف قدرته على التنفس، لكنها شردت تمامًا ولم تنتبه إلى الأعراض التي تظهر عليه قبل موته والتي كانت موضوع الدراسة وأساس التجربة!
تنهدت في عمق وقالت لزميلتها مازحة: فأرٌ قصيرٌ نفَسه!
ضحكت زميلتها وقالت: إذًا فقد مات والذنب ذنبه!
ثم أشارت إلى قفص الفئران في نهاية المعمل قائلة: مازال هناك فأرًا متبقيًا.. فلتحاولي مرةً أخرى.
تطلعت منى إلى الفأر الضخم المتبقي في القفص وقالت: ما هذا.. إنه يبدو شرسًا.
ثم تلفتت حولها تبحث بعينها عن بسمة قائلة: سأبحث عن حلٍ أسهل.
فوجئت بسمة تقول من خلفها: هكذا إذًا.
التفتت إليها منى مبتسمةً وهزت كتفها بمعنى "وماذا أفعل؟" فعادت تقول: حسنًا.. فأري لم يمت بعد.. تعالي.
تبعتها منى إلى حيث تقف وهي تقول: وا بسمتي العزيزة.. لست أدري ماذا كنت سأفعل بدونك.
ضحكت بسمة وقالت: حاولي التركيز قليلًا إذًا فلا توجد فئرانٌ أخرى سوى هذا المتوحش المنتظر بالقفص.
راقبتا الفأر سويًا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ثم انهمكتا في تدوين الملاحظات.. وبينما هما كذلك، تأملتها بسمة وذهنها يعود إلى الوراء بضعة أيام.. إلى يوم افتتاح مطعم البيتزا تحديدًا..
لقد شعرت وهي تراها عند نهاية الدرج تنتظرها وعلى وجهها أعقد مزيجٍ ممكن من المشاعر وقد تجمعت فيه دماء جسدها كله تقريبًا، أن اتفاقهن المسبق مع باقي الصديقات لتناول الغداء يوم افتتاح المطعم، كان من أجل أن تذهب هي بالذات فقط لتقع بين ذراعي فارسها الوسيم!!
حينها، لم تتحدث كلتاهما.. عادتا سويًا يومها دون أن تتبادلا كلمةً واحدة تخص الأمر..
كانت تعلم أن منى تخشى الحديث فالانفجار، ثم أنها كانت تدرك كل شيءٍ دون الحاجة إلى سماعه، لكنها وبعد مرور بضعة أيام باتت بحاجةٍ إلى الاطمئنان.. لذا سألتها بغتة: كيف حالك الآن؟
فهمت منى ما تقصده على الفور فقالت بعد تنهيدةٍ حارة: بخير.
ثم أردفت: هذا إذا اعتبرنا الأرق شيئًا عاديًا!
أطلقت بسمة ضحكةً خافتة وقالت مازحة: هوني عليك.
ابتسمت منى وقالت: هذا لا يضايقني على الإطلاق، أنا سعيدةٌ به!
- لماذا لا أراك كذلك إذًا ؟
- لأنى متعبة.. مرهقة.. ولا أعرف ماذا أفعل.. قلبي يشعر بشيءٍ متأكدٌ منه تمامًا، وعقلي يخاف التصديق.. لكن هذا لا ينفي شعوري بالسعادة.. بل على العكس، أجد هذا لذيذًا.
- مجنونة!
ردت منى ضاحكة: هذا ليس جديدًا.
حارت بسمة في البحث عن مصطلحٍ أقوى من الجنون لتصفها به دون جدوى، فهزت رأسها في استسلامٍ ولاذت بالصمت!

***************

*** أضاء عمرو أنوار حجرة مكتبه ودلف ليجلس على مقعدٍ جانبي وثير بعدما التقط مرجعًا ضخمًا..
ألقى نظرةً ساخطة على ساعته، ثم التقط نفسًا عميقًا وفتح كتابه بادئًا المطالعة..
لم يكن في مزاجٍ رائق للدراسة، لكنه لم يجد شيئًا آخر يفعله عندما فشل في النوم!
لم يكن ممن يعانون الأرق إلا فيما ندر، لكن أنّى له أن يصرفه عنه الآن وأشياءٌ كثيرة تشغل تفكيره.. تحيره.. وتطير النوم بعيدًا..
وكل هذه الأشياء تدور وتصول وتجول في فلك نجمٍ صغير يضيء قلبه..
هـي..
تحرك بصره على الكلمات والسطور دون تركيزٍ حقيقي، وكان يدرك ذلك فتساءل بحيرة..
ما الذي حدث له؟!
كيف أصبح هكذا؟!
كيف احتلت كيانه إلى هذا الحد؟!
هل حقًا ما يشعر به الآن هو حبها؟!
وإن لم يكن يحبها، فلِمَ يخفق قلبه بهذه الصورة وتثور مشاعره ليس فقط عندما يراها، بل حتى عندما تطوف بتفكيره ولو للحظة؟!
لماذا يكون وجهها أول شيءٍ يراه عندما يغمض عينيه؟!
حينها يكتشف أن هناك ابتسامةً لا يدري بالضبط متى ارتسمت على شفتيه!
كان في البداية يشعر بالضيق من نفسه ويحاول الهرب من أفكاره..
أما الآن، فلم يعد يقاوم..
لقد استسلم عقله تمامًا لقلبه ومشاعره، ولكم أشعره هذا بالارتياح..
وإن كان أحبها، فمتى فعل؟!
لا يدري.. لقد التقاها مراتٍ قليلة، وفي كلٍ كان هناك شيءٌ ما يحدث في أعماقه..
شيءٌ بدأ صغيرًا، فلم يشعر به.. نما، فتجاهله.. زاد يعلن عن وجوده، فلم يستطع التجاهل لكنه لم يفهمه.. فقط مشاعر مبهمة لا تترك له سوى الحيرة..
كبر وتعاظم ولا يدري كيف، حتى احتل قلبه كله الذي أدرك وخفق مستسلمًا..
لكن الحيرة لم تتلاشَ.. مازال لا يعلم عنها أي شيء..
مازال لا يعلم حقيقة مشاعرها تجاهه..
ترى.. هل تحبه حقًا كما قال باسل ؟!
أحيانًا يشعر أن افتراضه منطقيٌ جدًا، وأحيانًا يشعر بأنه واهٍ لا أساس له من الصحة..
أحيانًا يريد أن يصدقه، وأحيانًا يشعر بأنه ساذج..
ترى.. ما الذي تحمله له عيناها؟!
ذلك الكم الهائل من الغموض والعمق و...
والجاذبية..
ذلك المزيج الساحر الآسر الذي لم يستطع قلبه أن يقاومه كثيرًا..
لا يعرف..
ما يعرفه فقط أنه فعلًا.. يحبها!!
يحب عينيها..
يحب رقتها وملامحها..
يحب صوتها وضحكتها..
يحب خجلها وارتباكها..
يحب وجودها معه..
يحب اهتمامها به..
يحب كل شيء.. كل شيء..
يحبها!!
لقد أدرك مشاعره هذه فجأةً يوم رآها في الجامعة..
أدرك أن هذا الكيان الرقيق الذي يقف بجواره ويحادثه ليس كأي شيءٍ قابله في حياته كلها..
ثم تأكد منها تمامًا يوم رآها في المطعم..
لم يعد يهمه كيف وجِدت بين ذراعيه، لكنه أدرك أن هذا الكيان أرق مما تصور بكثير.. أجمل مما تصور بكثير.. ومشاعره هو تجاهه أكبر مما تخيل بكثير حتى كادت تنفلت من سيطرته..
التقى حاجباه بانفعالٍ وهذه اللحظات بالذات تمر بعقله، فتحركت يده تقلب صفحاتٍ من الكتاب لم يقرأها أصلًا محاولًا التركيز ولكن.. عبثًا..
كم يتمنى أن يراها الآن..
بل كم يتوق شوقًا إلى أن يراها الآن..
آه.. لقد بدأ يستخدم كلماتٍ جديدة عليه تمامًا لم يكن يتصور قط أن تقتحم قاموسه..
بل لم يكن يدرك أنه لم يعرف معناها حقًا سوى الآن..
أدرك أيضا أن هذا سيجعله يفعل أشياء غريبة لم يكن ليتخيل قط أن يفعلها..
ترى.. كيف يجدها.. وأين؟
هل ينتظر صدفةً أخرى؟ حسنًا.. ولكن ماذا لو لم تحدث قريبًا؟
لا.. لن ينتظر.. لقد مضت أيامٌ عدة ولم يعد يحتمل..
أيبحث عنها؟ لا يوجد سوى مكانٍ وحيد من الممكن أن يجدها فيه.. الجامعة!
مط شفتيه في هذه اللحظة وغمغم قائلًا لنفسه: ها قد بدأت أتصرف كالمراهقين!!
ابتلعه الصمت والتفكير لبرهة، ابتسم بعدها وقال: لا بأس.. سأذهب.
وكان هذا هو قراره..
لا يدري إن كان سيجدها أم لا، وبماذا سيحدثها عندما يراها..
لا يدري كيف يعرف حقيقة مشاعرها، ولا كيف سيخبرها هو بمشاعره..
لا يدري إن كان يستطيع حقًا فعل ذلك أم لا..
ولكن.. لا بأس.. سيؤجل التفكير في كل هذا لما بعد..
غدًا الجمعة.. حسنًا يوم السبت وليكن ما يكون..
ارتاح قلبه لهذا القرار وهدأ..
وأخيرًا.. استطاع قراءة شيءٍ ما في الكتاب الذي يحمله..
لم يكن يعرف أنه في هذه اللحظة بالذات، تلقى فتاته التي كان يفكر فيها برسالةٍ ثالثة تقول له فيها أيضًا..
"أحبك"

*****************

*** استيقظ عمرو في اليوم التالي من نومه مبكرًا كعادته، ولكنه ظل راقدًا في فراشه متكاسلًا بعض الوقت فقط ليُشعر نفسه بأن اليوم عطلة ومتمنيًا ألا يأتيه استدعاءٌ عاجل من المستشفى كما يحدث غالبًا..
كان لا يتريض يوم الجمعة عادةً، ومن ثم تناول إفطارًا خفيفًا وأمضى الوقت في القراءة في بعض المراجع الطبية حتى حان وقت الصلاة..
لم يكن آذان الجمعة قد انطلق بعد عندما خرج متأنقًا في جلبابٍ أبيض فاخر قاصدًا المسجد والذي لم يكن يبعد كثيرًا عن المنزل، لهذا اتجه إليه ماشيًا..
طبعًا ما إن خرج حتى لمح الورقة ذات المشبك الأحمر على سيارته، فابتسم وهو يلتقطها قائلًا: آه.. لقد مضى وقتٌ طويل.. لقد افتقدتك.
أودعها جيبه في تلقائية دون حتى أن يفتحها مغمغمًا: أخشى أنه لم يعد هناك جدوى من ذلك.
واصل طريقه في هدوء وتقابل أثناء ذلك مع اثنين من جيرانه في المنطقة تبادل معهم ىرالحديث في ودٍ حتى بلغوا المسجد..
كانت علاقته جيدةً جدًا بكل من عرفهم من جيرانه، وبدا هذا واضحًا والكل يتجمع بعد الصلاة يتبادلون الحديث ويتساءلون عن أحوال بعضهم البعض، ولا يخلو الأمر بالطبع من الكثير من الاستشارات الطبية..
وفي طريق عودته، كان برفقته أحد هؤلاء الجيران.. مهندسٌ يدعى الأستاذ محمد، يسكن في البناية المواجهة لمنزله وكان يكبره سنًا بكثير، لكنهما كانا متفاهمان إلى حدٍ كبير وتجمعهما أحيانًا الكثير من الأحاديث..
كانا يمران بجوار هذه البناية أثناء سيرهما ولكن ليس من ناحية الطريق بل من الناحية الخلفية.. وبينما يسأله م. محمد عن موضوع رسالة الدكتوراه التي ينوي الحصول عليها، داست قدمه شيئًا ما تكسر بصوتٍ مسموع، فنظر إلى الأرض بانزعاجٍ وانحنى يلتقط هذا الشيء، ثم اعتدل ورفع بصره إلى الأعلى وكأنما يحاول معرفة من أين سقط..
تطلع عمرو في دهشة إلى مشبك الغسيل الأحمر المكسور في يده، بينما ابتسم هو وقال: منى هذه.. لا تكف عن إسقاط مشابك الغسيل كلما حاولت مساعدة أمها!
بدا على عمرو التساؤل فأكمل م. محمد بنفس الابتسامة: إنها ابنتي.. ابنتي الوحيدة.. الشقية والمتعبة.
ابتسم عمرو بدوره وقال: مازال أمام الفتيات الصغيرات الكثير ليتعلمنه.. سيأتي حتمًا يومٌ تكف فيه عن إسقاط المشابك.. لا تقلق.
ضحك م. محمد قائلًا: إنها ليست صغيرةً للأسف وهذا ما يقلقني فعلًا.. لن تصدق إن أخبرتك أنها سوف تتخرج من كلية الصيدلة هذا العام.
ارتفع حاجبا عمرو دهشةً وقال: حقًا؟!
أومأ م. محمد برأسه إيجابًا وقال وهو يواصل سيره: أجل.
عاد عمرو يسير إلى جواره وظل صامتًا لحظات، ثم قال: ولكن قل لي يا م. محمد.. ما حكاية هذه المشابك الحمراء.. هل هي منتشرةً إلى هذا الحد؟ أنا لا أرى سواها هذه الأيام!
قال م. محمد ضاحكًا: كلا مطلقًا.. إنها أيضًا ابنتي منى.. تصر على شراء تلك الأشياء الغريبة ولا أدري لماذا.. إنها تحب اللون الأحمر ولا أعرف ما علاقة مشابك الغسيل بالأمر صدقني.
طالعه عمرو بصمت وهاجسٌ ما يتحرك داخله لكنه تجاهله، بينما تابع م. محمد: إنها حتى تحتفظ ببعض هذه المشابك في غرفتها.. يبدو أنها تلعب بها فهي طفوليةٌ بعض الشيء، لأن والدتها لا تستخدم نافذة حجرتها لتجفيف الملابس مطلقًا.
كانا في هذه اللحظة أمام واجهة البناية وقد قال م. محمد الجزء الأخير من عبارته وهو يشير إلى الأعلى، إلى نافذة الطابق الثاني المواجهة تمامًا لمنزله..
انعقد حاجبا عمرو وهو يرفع بصره إلى النافذة بدوره.. أحس ببعض التوتر وذلك الهاجس ينمو في داخله أكثر.. حاول تجاهله مرةً أخرى، لكنه وجد نفسه يلتقط المشبك الذي وجده على سيارته منذ قليلٍ من جيبه - بدون الورقة طبعًا - ويريه لـ م. محمد قائلًا بهدوءٍ وبساطةٍ مصطنعة: أرأيت هذا؟
بدا م. محمد مندهشًا وهو يرفع يده بالمشبك المكسور ثم قال: إنه يشبهه تمامًا.. أهو يخصك؟ ولماذا تضعه في جيبك؟!
حرك عمرو رأسه نافيًا في بطءٍ وقال: كلا.. لقد وجدته وأنا في طريقي للمسجد.. وجدته على... أقصد وجدته هنا أمام البناية أيضًا.
عاد م. محمد يضحك قائلًا: إذًا فهو مشبكنا حتمًا!
ناوله عمرو المشبك وهو يحافظ على ابتسامته البسيطة مخفيًا عشرات الأفكار التي ثارت داخله..
ماذا يحدث؟!
هل من الممكن أن ... ؟!
"أبـــــــــــــــــــــــــــــــــــي"
انطلقت هذه الكلمة فجأة مقاطعةً أفكاره يحملها صوتٌ مألوف.. مألوفٌ جدًا..
صوتٌ تعرفه أذناه جيدًا..
صوتٌ قفز بخفقات قلبه بغتةً إلى الذروة وأصابه بقدرٍ هائل من الدهشة جعله يتسمر في مكانه، بينما رفع م. محمد بصره لأعلى وقال في بساطة مخاطبًا قائلة العبارة: ماذا هناك عزيزتي؟
- اتصالٌ مهم على هاتفك يُلح منذ فترة.
- أنا قادمٌ خلال لحظات.
طبقًا للذوق العام، لم يكن من اللائق أن ينظر عمرو إلى الأعلى هو الأخر، لكن تفكير عمرو لحظتها كان أبعد ما يكون عن ذلك.. لقد كان مشغولًا بأمرٍ واحدٍ فقط..
أمرٌ جعله يخرج من تسمره ويتقدم خطوةً للأمام ليصبح بجوار م. محمد وينظر إلى الأعلى ليرى ما يتوقعه ويخشاه..
وجهها!!
وعلى الرغم منه، ارتفع حاجباه في دهشةٍ بالغة..
كانت تطل برأسها ناظرةً إلى أسفل عبر فرجةٍ ضيقة من النافذة بحيث لا يراها المار، بل الواقف أسفل النافذة فحسب..
لم يكن في مجال رؤيتها في البداية سوى والدها الذي ما إن رد عليها حتى قالت: حسنًا.
همت بالانسحاب إلى الداخل عندما اقتحم عمرو هذا المجال بغتة..
وفي نفس اللحظة، وقع بصر كلٍ منهما على الآخر واجتاحته وطأة المفاجأة..
اتسعت عينا منى في ذهول، وزادت من فرجة النافذة التي تنظر من خلالها وكأنما تتأكد من أنها لا تتوهم الأمر، ثم لم تلبث أن أدركت أن هذا الواقف بالأسفل مع والدها والذي ينظر إليها وعلى وجهه أقوى علامات الدهشة هو عمرو فعلًا!!
شهقت شهقةً خافتة وتراجعت على الفور مغلقةً النافذة، ثم شعرت أن قدميها لا تقويان على حملها فتهاوت على أقرب مقعد وهي تغطي فمها بكفها وخفقات قلبها تصل لحدٍ جدير بشخصٍ يمسك بسلكٍ كهربيٍّ عارٍ !
أما عمرو، فكانت دهشته أقوى.. أقوى بكثير..
ليست قويةً فحسب.. بل قاسية!!
أنتِ .. هنا؟!!
هنا أمامي من دون كل أماكن الدنيا؟!!
وأنتِ هي صاحبة الرسائل ؟!!
ترددت تلك العبارات داخله وهو ينظر إليها ذاهلًا دون أن ينبس ببنت شفة..
ثم إن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب، فإلى جانب دهشته كان هناك انفعالٌ آخر..
انفعالٌ لا يقل قوةً ولا وطأةً على قلبه..
هذا لأن وجهها الذي رآه الآن ليس كأي مرةٍ رآه فيها من قبل، فقد زاد عليه شيءٌ مهم للغاية..
شعرها!
شعرها الأسود.. الناعم.. الطويل.. تمامًا كما تخيله.. لكنه لم يتخيل أبدًا أنه من الممكن أن يزيد جمالها إلى هذا الحد، وقد انسدل متموجًا في نعومة حول وجهها بلا نظام وعلى نحوٍ جعلها تبدو حقًا.. فاتنة..
كان م. محمد ينظر لساعته في تلك اللحظات فلم ينتبه لشيء، لكنه لم يلبث أن قال في حماسٍ: هيا يا د. عمرو.. لتتناول الغداء معنا اليوم.. تفضل.
التقط عمرو نفسًا عميقًا ومرر أصابعه في شعره مطلقًا إياه في زفيرٍ أكثر عمقًا ثم قال بابتسامةٍ باهتة: أشكرك يا م. محمد.. أشكرك كثيرًا.. لكن اعذرني.
قال م. محمد في إصرار: ليست هذه دعوةً عابرة.. أنا جاد.. هيا تفضل معي.
- أشكرك حقًا.. ربما فيما بعد.. فلدي ارتباطاتٌ كثيرة اليوم.
صافحه م. محمد في قوة قائلًا: حسنًا.. أنا في انتظار فرصةٍ أخرى إن شاء الله.
تركه م. محمد واتجه إلى داخل النيابة مسرعًا ليلحق باتصاله، في حين عبر عمرو الشارع في خطواتٍ بطيئة ثم توقف بجوار سيارته و... والتفتت..
كان يمر بحالةٍ غريبة من الانفعال لم يشعر بمثلها من قبل قط.. قلبه يخفق في اضطراب، بينما يتدافع قدرٌ هائل من الأفكار والأحداث والعبارات في عقله على نحوٍ أصابه بالصداع..
"أهذا المنزل لك أيضًا؟"
"أنا لا أتريض يوميًا كما تفعل"
"منزلي ليس بعيدًا"
القلم الوردي..
رفضها لأن يقلها بالسيارة لأي مكان..
كل هذا ما لبث أن تراص وانتظم ليكون له صورةً واضحة وحقيقةً واحدة..
حقيقةٌ أحنقه بشدة أنه لم يدركها قبل ذلك..
وبينما هو غارقٌ في أفكاره، رأى النافذة تُفتح مرةً أخرى.. فقط فرجةٌ صغيرة جدًا لا يمكن أن يراها من خلالها، لكنها كافيةٌ لتراه هي جيدًا..
يبدو أنها لم تستطع احتمال فكرة ألا تعرف أبعاد رد فعله بالضبط..
وعلى الرغم منه ابتسم مغمغمًا: هكذا إذًا.. حسنًا.. فلتتحملي ما سيحدث.
استند إلى السيارة في مواجهتها تمامًا وعقد ذراعيه أمام صدره، ثم نظر إلى النافذة مباشرةً في ثبات عاقدًا حاجبيه ومتظاهرًا بالغضب..
لم يكن تظاهرًا خالصًا في الواقع، بل كان يشعر فعلًا بشيءٍ من الغضب..
من نفسه.. أو منها.. لا يدري..
ربما من نفسه.. شأنه كشأن أي شخصٍ يكتشف أن ما يحدث حوله ليس كما كان يعتقد فيظن أنه أحمقٌ أو أنه لم يفكر كما ينبغي..
ربما منها.. لأنه لم يتخيل قط أنها من ترسل له تلك الرسائل العجيبة ذات المشابك..
أهي حقًا بهذه السذاجة، أم أنها مجرد فتاةٍ عابثة تسلي وقتها.. تتابعه وتراقب تحركاته من النافذة، ثم يحلو لها أن تتسلى به قليلًا.. وهو لا يدرك ذلك إلا بعدما يخفق قلبه لها ويعترف بحبها معتقدًا أنها شخصٌ آخر تمامًا..
لقد فعلتها مرتين والثالثة اليوم.. ها هي رسالتها مازالت في جيبه وبالتأكيد مماثلةٌ لسابقتيها..
مد يده في هذه اللحظة وأخرج الرسالة الصغيرة وفتحها متوقعًا ما سيرى وقاصدًا أن تراه هي يفعل ذلك وكأنه يقول "أجل.. لقد أدركت هذا أيضًا"، لكنه لم يكد يفعل حتى عاد قلبه يتدافع بخفقاته..
كانت الرسالة تقول أيضًا "أحبك" لكنها لم تكن كسابقتيها على الإطلاق!!
كانت مكتوبة بزخرفةٍ مختلفة تمامًا أكثر جمالًا وتعقيدًا وبحبرٍ أحمر هذه المرة.. أحمر جدًا.. أحمر يلمع ببريقٍ ذهبي براق أعطى للون وللكلمة نفسها وهجًا ناريًا، على نحوٍ يوحي بالقوة دون أن ينقص ذلك من رقتها شيء.. فلو كانت الرسالتان السابقتان تقول "أحبك".. فهذه بالذات تهتف "أحبك"..
أما الشيء المشترك والذي جعل قلبه يخفق أكثر وأكثر، فهو أن ثلاثتهم يحملون نفس المشاعر الفياضة القوية..
حقًا.. كيف نسي؟
لقد أحس بهذا بالفعل في المرتين السابقتين على نحوٍ جعله يلغى فكرة العبث من تفكيره تمامًا..
والآن لم تعد هذه المشاعر مبهمةً لا يعرف ممن تصدر ولمن..
إنها تصدر منها.. منها هي.. ومن أجله هو..
مرت صورتها بقلبه وعقله.. بملامحها وابتسامتها.. بخجلها ورقتها.. وبعينيها..
عيناها التي طالما حملت كل هذه المشاعر دون أن يدرك هو..
كانتا تقولان له منذ البداية "أجل.. إنه أنت من أحب" ولم يفهم..
ورغم ذلك نفذت إلى قلبه.. نفذت إليه لأنها تخاطبه هو..
مجرد فتاةٍ عابثة؟!
ما هذا الهراء الذي يعتقده؟!
لا يمكن أن يكون ما تحمله هاتان العينان عبثًا أبدًا..
يا له فعلًا من أحمق.. تمامًا كما قال باسل..
باسل الذي فهم في لحظةٍ واحدة ما لم يفهمه هو لوقتٍ طويل، لأنه هو الذي يفكر بسذاجةٍ وليس هي..
هي التي ومنذ أن عرفها قلبت حياته رأسًا على عقب.. ومازالت تفعل ذلك وبمنتهى البراعة..
لكنها حقًا متهورة!!
لقد قال عنها والدها أنها طفوليةٌ بعض الشيء، ويبدو أن هذا صحيحٌ تمامًا..
لهذا كان تهورها كتهور الأطفال الذين يتصرفون بجرأةٍ عجيبة دون أن يدركوا أبعاد ما يفعلون، لكن تصرفاتهم لا تحمل في طياتها سوى البراءة..
وكم ينطبق هذا عليها!
لكن.. أحقًا مشاعرها بهذه القوة؟
أحقًا دفعتها للتصرف بمثل هذا التهور؟
تبعث برسالةٍ تحمل كلمةً صريحة لشخصٍ لا يعرفها ولا يدرك حتى بوجودها؟
من أدراها أنه من الممكن أن يتجاوب مع مشاعرها وأنه لن يعبث بها؟
من أدراها أن هذا سيثر اهتمامه وأنه لن يتجاهله..
وحتى إذا أثار الأمر اهتمامه.. كيف يعرف أنها هي؟
ثم إنه أحبها دون أن يعلم أنها من ترسلها له.. أي أنها لم تكن سببًا لتحرك مشاعره نحوها على الإطلاق..
لقد عرف الآن بمصادفةٍ بحتة كان من الممكن جدًا ألا تحدث!
أمن الممكن أنها لم تكن تسعى ليعرف أبدًا؟!
تفعل ذلك دون انتظار نتيجة؟!
غير معقول!!
إنها ليست متهورةً فحسب.. إنها مجنونة..
لكنه حقًا ألذ جنونٍ قابله في حياته كلها..
ابتسم في هذه اللحظة وعاد ببصره إلى النافذة وتمنى لو رآها الآن ليقول لها هو أيضًا "أحبك".. لكنه سيؤجل ذلك للغد، فقراره بالذهاب إلى الجامعة غدًا لم يتغير بل على العكس، وضوح الأمور جعله أمرًا شبه حتمي..
لن يضيع الوقت.. سيصارحها بمشاعره ويخطبها فورًا..
أما الآن، فسيعاقبها قليلًا..
لهذا أخفي ابتسامته وعاد يتظاهر بالغضب وألقى الرسالة في جيبه بلا اهتمام، ثم استدار متجهًا إلى منزله دون أن يلتفت ثانيةً..
وكان هذا فعلًا عقابًا، لكنه ليس بسيطًا كما أراد.. بل قاسيًا..
فخلف النافذة، انهارت منى تمامًا فلم يظهر لها سوى غضبه لإدراكه الحقيقة ثم لامبالاته بالأمر برمته..
وكان هذا أقسى صدمةً ممكنة لمشاعرها.
*************************
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.