* 15 *
*** تطلعت بسمة إلى منى في إشفاق وهي تحاول جاهدةً التظاهر بأنها على ما يرام والتركيز في إجراء التجارب..
عندما أخبرتها أن كل شيءٍ قد انتهى بالنسبة لها، أدركت تمامًا أن هذا ما تحاول به الخروج من أزمتها لا أكثر.. ولكن ماذا بيدها أن تفعل؟ ليس أمامها سوى احترام رغبتها ومساعدتها فيما تريد فعله..
قرارها المزيف هذا جعلها لا تستطيع إخبارها بأمر عمرو الذي جاء أمس ليبحث عنها.. أحست أنها لو عرفت ستعود إلى حالة الاضطراب التي تجاهد الآن للخروج منها..
لكن ماذا لو جاء اليوم أيضًا كما أخبرته؟!
ستحاول قدر الإمكان أن تغادر معها الكلية بعد انتهاء المعمل مباشرةً تفاديًا لما قد يحدث..
لكن.. هل من الأفضل لها ألّا تراه حقًا؟
ماذا لو كان يريد أن يصارحها بشيءٍ ما وهذا ما تعتقده هي أصلًا..
قاطع أفكارها اقتراب منى وهي تمسك راحتها في قوة وقد بدا عليها الانزعاج، فتساءلت بسمة عما حدث..
قالت منى في ضيق: مسمارٌ غبي في حافة الطاولة جرح يدي.
أسرعت بسمة تلتقط منديلًا ورقيًا وبللته ببعض الكحول الموجود في المعمل ثم أعطته لها لتنظف به الجرح وهي تقول: جرحٌ سطحي.. أليس كذلك؟
- ليس تمامًا.. المشكلة أن ذلك المسمار صدئٌ للغاية.
تنهدت بسمة وقالت: هذا مُقلق.. أعتقد أنه من الضروري أن تحتاطي لتلوثه بجرعةٍ من المصل المضاد للتيتانوس.
مطت منى شفتيها في ضيقٍ قائلة: أكره الحقن.. وأكره أن اُضطر لهذا المصل للمرة الأولى في حياتي.
ربتت بسمة على كتفها ثم قالت: لا بأس.. هذا أهون من تلوث الجرح.
بعد انتهاء وقت المعمل، ذهبتا بالفعل إلى إحدى الصيدليات القريبة من أسوار الجامعة..
وبينما هما هناك، توقفت سيارة عمرو في ساحة الكلية وظل بداخلها يبحث بعينيه عن منى بين الطلبة المتناثرين هنا وهناك وهو يلقي نظرةً على ساعته بين الحين والآخر..
لازمه التوتر أيضًا هذه المرة مقترنًا بالقلق الذي لم يفارقه لحظةً منذ الأمس..
تُرى هل سيتحمل أن يرى في عينيها نظرة حزنٍ يعرف جيدًا أنه سببها؟
سحب نفسًا عميقًا وأطلقه، ثم غادر السيارة ووقف مستندًا عليها ينتظر..
كان وجوده ملفتًا جدًا للأنظار، وبدا واضحًا للغاية أنه ليس أحد الطلبة.. لهذا لم تمضِ لحظات حتى تعالت الهمسات بين الفتيات من حوله عمن هو ومن ينتظر، لكنه لم ينتبه إلى كل هذا.. كان ذهنه مشغولٌ بأمرٍ واحد..
منى..
مضى بعض الوقت حتى لمحها قادمةً من بعيد بصحبة صديقتها التي رآها أمس عند جدول المحاضرات..
غلبه الانفعال وهو يتطلع مشفقًا إلى وجهها الذي بدا عليه الحزن والإرهاق..
تضاعف توتره، وتضاعف ارتباكه.. في حين اقتربت هي في بطءٍ غريب حتى أن صديقتها سبقتها بعدة خطوات! حاولت اللحاق بها لكنها عادت تتوقف.. التفتت إليها صديقتها وتحدثتا لحظات.. يبدو أنها تخبرها بأنها ليست على ما يرام.. بدا القلق على صديقتها ثم أمسكت يدها تساعدها على الوصول إلى أقرب مقعد..
اعتدل عمرو في مكانه وانعقد حاجباه في قلقٍ شديد وهو يراها تواصل تحركها بصعوبة ثم تترنح، لتهتف صديقتها بصوتٍ عالٍ: منى.. ماذا بك؟
انتزع هتافها عمرو من مكانه ليندفع نحوها عدوًا، وأمام عينيه رآها تضع يدها على صدرها وتشهق وكأنها لا تستطيع التنفس وتحاول قول شيءٍ ما لكن ترنحها يزداد و...
وتهوي بين ذراعي صديقتها التي هتفت مرةً أخرى باسمها بصوتٍ ملتاع وهي تتشبث بها في قوة كي لا تسقط على الأرض..
انتبه كل من كان في ساحة الكلية إلى ما يحدث، وتحرك بعضهم محاولًا المساعدة، لكنهم فوجئوا بمن يندفع نحوهما في سرعة ليلتقط منى من بين ذراعي بسمة ويحملها متجهًا بها نحو أقرب مقعد..
كان قلق بسمة وانفعالها في هذه اللحظة أكبر من أي دهشةٍ أو أي ذهول، لذا تبعته بسرعة إلى حيث أجلس منى في رفق مسندًا رأسها وجذعها إليه..
وبقلبٍ يخفق بمنتهى الاضطراب والقلق، رأته يتفحص تنفسها ونبضها ثم يلتفت إليها قائلًا بانفعالٍ شديد: أي عقارٍ تناولته منذ قليل؟
انهمرت دموع بسمة وهي ترى وجه منى وقد بدأ يتورم وتظهر فيه بقع حمراء، بينما تنفسها يزداد صعوبةً وقالت: يا إلهي.. ماذا حدث؟
عاد عمرو يهتف بها مكررًا: أي عقار؟؟
انتفضت مع هتافه وقالت بسرعة: إنه المصل المضاد للتيتانوس.
هبط قلبه بين قدميه وأسوأ توقعاته يتأكد، وهو أن يكون عقارًا ما تناولته عن طريق الحقن!
ليس لديه الكثير من الوقت.. الوضع سيئ.. سيئٌ جدًا وخطير..
وبصعوبةٍ بالغة أزاح انفعالاته جانبًا وهتف ببسمة: أسنديها إليك.
ثم التفتت إلى المتجمهرين حولها صارخًا: وأنتم ابتعدوا.. ابتعدوا.. دعوها تتنفس.
لهجته شديدة الصرامة جعلت أقربهم يبتعد بالفعل لمسافةٍ لا تقل عن مترين والكل يدرك بشكلٍ أو بآخر أنه طبيب، في حين ترك هو منى لبسمة واندفع ركضًا نحو سيارته واستقلها لينطلق بها بسرعةٍ شديدة عائدًا إليهما.. ثم غادرها بعد أن فتح بابها الأمامي من الداخل وأمال ظهر مقعده إلى أقصى مدى..
وفي انفعالٍ شديد قال لبسمة وهو يُلقي إليها محقنًا وأمبولًا: أفرغيه بسرعة.. هيا.
كانت منهارةً بشدة لكنها نفذت ما قال، في حين حمل هو منى ثانيةً ووضعها داخل السيارة مستلقيةً على المقعد الأمامي، بينما صوت أنفاسها الذي تحول إلى شهقات يمزقه تمزيقًا..
عاد يتجاهل مشاعره وتناول المحقن من يد بسمة التي وقفت بجواره يعصف بها القلق والبكاء، ثم استند بركبتيه إلى الأرض والتقط يد منى وضم قبضتها إلى الأسفل في قوة إلى أن ميزت عيناه فيها وريدًا واضحًا أفرغ فيه المحقن ببطء..
ورغم فقدانها الوعى، تأوهت منى بصوتٍ خافت جعل بسمة تزداد بكاءً، وكاد يدفع عمرو إلى سحب المحقن من يدها قبل انتهائه، إلا أنه سيطر على نفسه بصعوبة وواصل حقنه وهو يعض على شفته السفلى في ألم..
ما إن أفرغ المحقن حتى ألقاه بعيدًا واندفع يستقل السيارة بينما بسمة تهتف: لن أتركها.
قالتها واحتلت بالفعل المقعد الخلفي قبل أن ينطلق بها كالصاروخ..
كان المشهد في ساحة الكلية بعد أن غابت سيارة عمرو عن الأنظار صورةً مجسمة للصمت الذي استمر لثوانٍ قبل أن يقطعه أحدهم قائلًا في حيرة: ماذا حدث لها؟!
انتشر بعدها الكلام بين الجميع كما النار في الهشيم.. الكل يعلق.. الكل يتحدث.. الكل يسأل.. في حين رد أحدهم على السائل قائلًا: ألم تفهم يا عبقري.. إنها صدمة حساسيةٍ حادة.. إن لم يستطع ذاك الوسيم الذي يبدو طبيبًا إنقاذها في الوقت المناسب فـ...
لم يكمل عبارته.. لكن المعنى كان واضحًا.. جدًا.
**********************
*** قلق.. انفعال.. توتر.. خوف.. حزن..
امتزجت كل هذه المشاعر داخل عمرو وهو يقود السيارة بسرعةٍ جنونية متجهًا نحو المستشفى..
مع كل شهقة.. مع كل أنّه.. ينتفض قلبه بين ضلوعه..
لكنه يتماسك.. يتماسك من أجلها..
كان يعلم جيدًا أن حياتها الآن تتوقف بعد مشيئة الله عز وجل وإرادته، عليه هو.. وهو لن يخذلها أبدًا.. سيحاول بكل ما أوتيَ من قوة..
وبأقصى سرعةٍ ممكنة للسيارة، انطلق بها مطلقًا نفيرها بشكلٍ شبه متصل..
أخذ يتجاوز كل السيارات.. يسير عكس الاتجاه.. يتجاهل صياح المارة وسائقي السيارات بل وسبابهم أيضًا.. يتخذ طرقًا مختصرةً ضيقة.. يفعل أي شيءٍ ممكن ليصل إلى المستشفى قبل فوات الأوان..
وفي ارتياع هتفت بسمة وهي تمسك بمنى حتى لا يتحرك جسدها مع حركة السيارة العنيفة: أنها لا تتحسن.. ألم يفعل ذلك العقار الذي حقنته أي شيء؟
- لقد فعل.. لكنه ليس كافيًا.. إنه يمنحها فقط بعض الوقت.
قالها بتوترٍ شديد وهو يلقي نظرةً على وجهها متوقعًا ما سيرى، فقد ازداد تورمه وظهرت البقع الحمراء في يدها مما يعني أنها قد انتشرت في جسدها كله.. أما تنفسها فأصبح مجرد شهقاتٍ قصيرةٍ متلاحقة..
عادت بسمة تصرخ فيه: إلى أين أنت ذاهب؟ لماذا لم تذهب إلى مستشفى الجامعة؟ إنها الأقرب.
هتف عمرو بعصبيةٍ شديدة وامتزج صوته بصوت صرير إطارات السيارة وهو يدور بها في منحنى خطِر: لو ذهبت إلى هناك فستموت قبل أن تجد لها مكانًا في قسم الطوارئ.. هذه ليست مستشفى أصلًا..
قالت بسمة في انهيار: أرجوك.. تصرف بسرعة.. لقد بدأ وجهها يزرق.
صرخ فيها عمرو هذه المرة مشيرًا إلى رأس منى: افعلي أنتِ شيئًا واخلعي عنها هذا الشيء.. ساعديها لتتنفس.. لا أريد شيئًا حول عنقها.. هيا.
نفذت بسمة ما قال واندفعت تخلع الدبابيس التي تمسك حجابها واحدًا تلو الآخر بأقصى ما تستطيع من سرعة ولكن كلما حاولت فكه عن عنقها وجدته مثبتًا بالمزيد من الدبابيس، فهتفت في غيظ على الرغم منها: اللعنة على دبابيسك يا منى.. ستموتين بسببها يا حمقاء.
كان عمرو في هذه اللحظة يمسك بهاتفه يجري اتصالًا ثم يسنده إلى أذنه بكتفه حتى يستطيع التحكم في عجلة القيادة بكلتا يديه.. مرت لحظاتٌ قليلة قبل أن يهتف: باسل.. مازلت في المستشفى أليس كذلك؟ نعم.. نعم.. باسل أرجوك.. أريد منك تجهيز قسم الطوارئ بسرعة لاستقبال حالة صدمة حساسية حادة.. أنا قادمٌ خلال دقائق.. سأعتمد عليك.
أنهى الاتصال قبل حتى أن يصله رد باسل، وألقى الهاتف جانبًا وهو يدعو الله في أعماقه أن يصل في الوقت المناسب..
لم تمضِ دقائق حتى وصل إلى المستشفى مقتحمًا ساحتها الأمامية بسيارته في عنف، ومطيحًا بكل ما اعترض طريقه من حواجز المرور البلاستيكية الموضوعة لتنظيم دخول السيارات.
انتفض حراس الأمن لهذا الدخول العنيف، لكن ما إن لمحوا عمرو يقفز من السيارة حتى تراجعوا جميعًا، إلا أن أقربهم إليه صاح في اعتراض: د. عمرو.. ماذا...
بتر عبارته بغتة وابتلع لسانه على الفور عندما رمقه عمرو بنظرةٍ صارمة محملةً بكل ما يحتمل في نفسه من انفعال دون حتى أن يتوقف..
أمام أبواب قسم الاستقبال الرئيسية، كان باسل ينتظر يضرب أخماسًا في أسداس عندما رأى عمرو يدخل المكان فجأة حاملًا فتاة، اتجه بها بخطواتٍ أقرب إلى العدو نحو قسم الطوارئ بينما تعدو خلفه فتاةٌ أخرى، فتحرك بسرعة ليلحق بـه مشيرًا بيده إشارةً خاصة فتبعته اثنتين من الممرضات..
اندفعت بسمة تدخل معهم إلا أن إحداهما منعتها قائلة في صرامة: ممنوع.
حاولت الاعتراض لكن الممرضة أغلقت الباب بسرعة، فعاودت دموعها الانهمار في غزارة وألقت نفسها على أقرب مقعد تدعو الله أن يكتب لها النجاة..
لم تدرِ كم مر من الوقت بالضبط.. أيًا ما كان، فقد أحست به يمر ثقيلًا بطيئًا إلى أن خرجت إحدى الممرضات مسرعة يبدو عليها الحنق.. وقبل حتى أن تسألها بسمة عن أي شيء، كانت قد ابتعدت تاركة إياها غارقةً في قلقها، فعادت تنتظر..
دقائق أخرى وخرجت الممرضة الثانية، فاندفعت بسمة تعترض طريقها هذه المرة قائلة: كيف حالها.. أخبريني أرجوك.
ابتسمت الممرضة ابتسامةً روتينية وقالت: بخير.. لا تقلقي.
تنفست الصعداء وتركت الممرضة تواصل طريقها، ثم غمغمت بارتياحٍ شديد: حمدًا لله.. حمدًا لله.
لم تكد تتم عباراتها حتى خرج اثنين من الأطباء وهما يتبادلان الحديث فتساءلت في نفسها مندهشة.. متى دخل هؤلاء؟!
التقطت أذنها بعض حديثهما قبل أن يبتعدوا.. كان أحدهم يقول: عمرو.. أجل.. لقد كان غريبًا اليوم!
- كان عصبيًا جدًا.. لم أره قط بهذا الانفعال.. يبدو أنها قريبته وأمرها يهمه جدًا.
عاد الباب يُفتح فالتفتت في لهفة متوقعةً ظهور عمرو، لكنه كان الطبيب الذي لحق به عند وصوله..
استوقفته قائلة: إذا سمحت يا دكتور.. طمئني أرجوك.
تأملها باسل لحظات ثم ابتسم قائلًا: هي بخيرٍ والحمد لله.. لقد تجاوزت الخطر وستستعيد وعيها خلال وقتٍ قصير إن شاء الله.
تهلل وجهها بالفرح والارتياح فاتسعت ابتسامته وقال: أنت أختها.. أليس كذلك؟
كان في الواقع يتصنع السذاجة، فقد أخبره عمرو بالداخل أنها صديقتها، لكنه كان يحاول إخراجها من حالة القلق الشديد التي تمر بها..
ابتسمت ابتسامةً باهتة وقالت: كلا.. أنا صديقتها.
- حقًا.. هناك شبهٌ كبير بينكما.
كانت هذه مبالغةً منه بالطبع!
- ليس إلى هذا الحد.
- حسنًا.. لا تقلقي.. إنها بخير تمامًا.. بعد قليلٍ ستنقل إلى إحدى الغرف وهناك ستستطيعين رؤيتها.
عادت تتساءل في قلق: هل سيتم احتجازها في المستشفى؟
- ليس لوقتٍ طويل اطمئني.. فقط ريثما تستعيد وعيها ويطمئن عليها عمرو.
ثم تنهد مستطردًا: عمرو هذا.. لقد كان مرعبًا اليوم.. لهذا تركته معها ليهدأ قليلًا حتى لا يتسبب في إقالة نصف ممرضات المستشفى.
هزت بسمة رأسها بمعنى "لقد رأيت بنفسي" فاستطرد في حماس: لكنه طلب مني أن أعتني بك ريثما يأخذك بنفسه لرؤيتها.. تفضلي معي إلى مكتبي.
بابتسامتها الباهتة قالت: لا داعي لذلك.. من الممكن أن أنتظر هنا.
- لست مشغولًا الآن.. ثم إنك مررت بوقتٍ عصيب فلتسترخي قليلًا.. عمرو سيأتي حالًا.
كانت فعلًا تشعر بإرهاقٍ شديد فقالت مستسلمة: حسنًا.. شكرًا لك دكتور....
- باسل.
- أشكرك جدًا د. باسل.
قادها باسل نحو مكتبه وهو يواصل الحديث بلا انقطاع.. الحق أنها أحست بأنه ثرثار لكنه ظريف، ثم إنه ليس أمامها سوى انتظار عمرو.. حسنًا.. ستنتظر في صبر حتى تطمئن على منى..
وهناك..
في غرفة الطوارئ، وبعد أن خرج جميع الأطباء والممرضات، ووسط الفوضى التي تعم المكان من عشرات الأمبولات والمحاقن الفارغة وزجاجات المحاليل المعلقة، وقف عمرو يضبط معدل سريان أحد هذه المحاليل لى أوردتها.. رفع يدها يتأكد من سلامة القناة الوريدية المثبتة إليها ثم أراحها إلى جوارها برفق..
وأخيرًا.. التقط نفسًا عميقًا.. عميقًا جدًا.. وهو يمرر أصابعه في شعره ويحمد الله ويشكره من أعماق قلبه..
وفي صمتٍ طال لدقائق عدة، وقف يتأملها حيث رقدت على فراش الفحص الصغير غائبةً عن الوعى وأنفاسها تتردد بهدوءٍ وانتظام داخل قناعٍ صغير للأكسجين مثبت على وجهها، ثم لم يلبث أن دار حول الفراش وجذب كرسيًا صغيرًا وجلس إلى جوارها..
التقط يدها الأخرى واحتضنها بكلتا يديه مستندًا بمرفقيه إلى الفراش..
يدها باردةٌ كالثلج تمامًا كما عهدها، وقد أدهشه هذا في الواقع فجسدها منذ دقائق كان وكأنما ينفث النيران! لكنها برودةٌ لذيذة سرعان ما تكتسب الدفء المحيط بها، لذا لم تمضِ ثوانٍ حتى اكتسبت دفء يديه بالفعل..
مد يده يزيح قناع الأكسجين بعد أن راقب تنفسها للحظات واطمئن إلى انتظامه، ثم عاد يحتضن يدها ويتأمل وجهها..
كان تورمه قد زال أو كاد، وإن كانت لاتزال تظهر فيه بقعٌ صغيرة متفرقة من الاحمرار البسيط.. ورغم ذلك، شعر أنه لم يرها أجمل من هذا من قبل وقد تبعثر شعرها حول رأسها ووجهها في نعومة، وبدت ملامحها وهي نائمة أكثر رقةً وجمالًا..
تمر اللحظات.. وتمر..
اتجهت يده ببطءٍ نحو شعرها، لكنه توقف قبل أن يبلغه..
مهلًا.. ماذا يفعل!!
يبدو أنه يحتاج بالفعل إلى أن يهدأ كما قال له باسل.. مشاعره كلها وأعصابه ثائرةٌ للغاية..
عاد يتنفس بعمق، ثم استند بجبهته إلى يديه المحتضنتين يدها وأغمض عينيه..
إنها الآن بخير.. إنها الآن معه..
كل الخطر زال وانتهى..
لن يمر وقتٌ طويل حتى تطالعه عيناها.. ويسمع صوتها..
لن يمر وقتٌ طويل حتى تعود إليه..
شعر بالهدوء يتسرب إلى نفسه شيئًا فشيئًا..
تمر اللحظات.. وتمر..
رفع رأسه وعاد يتأمل وجهها..
مزيدٌ من الهدوء يغمر كيانه..
وأخيرًا.. ابتسم..
ابتسم وهمس: حمدًا لله على سلامتك حبيـ....
توقف بغتةً والتقى حاجباه..
لم يعتد هذه الكلمة ولم يلفظها محملةً بمعناها الحقيقي من قبل قط، لكنها خرجت من أعماقه دون تفكير.. خرجت من قلبه مباشرة.. فاستسلم لخفقاته وترك لها العنان وهمس مكملًا: حبيبتي.
عادت عيناه تحتويان وجهها لدقائق لم يشعر بمضيها حتى قطع تدفق مشاعره وأفكاره صوت طرقاتٍ خفيفة، فاعتدل ملتفتًا نحو الباب الذي فُتح لتدخل منه إحدى الممرضات قائلة: لقد طلبتني يا دكتور؟ د. باسل أخبرني بذلك.
فهم عمرو قصد باسل على الفور، فالتقط نفسًا عميقًا ومرر أصابعه في شعره قائلًا: أجل.
ثم نهض واقفًا وأكمل في حزم مشيرًا إلى منى: انقليها بمنتهى العناية إلى إحدى غرف الطابق الأخير وأخبريني بذلك عندما تنتهي.. سأكون في مكتب د. باسل.
أومأت الممرضة برأسها في تفهم وقالت: فورًا يا دكتور.
خرج عمرو بعد أن ألقى نظرةً أخيرة على منى، ثم اتجه إلى مكتب باسل..
وأمامه، طرق الباب في هدوء ثم دخل بعد أن أتاه صوت باسل يدعوه ليفعل..
استقبلته بالطبع نظرات بسمة المتلهفة القلقة، فأجابها بقوله: اطمئني.. إنها الآن بخير تمامًا والحمد لله.
قالت في لهفة: هل استعادت وعيها؟ هل من الممكن أن أراها؟ أرجوك.
ابتسم عمرو وهو يجلس على أقرب مقعدٍ صادفه وقال: ليس بعد.. دقائق وتستقر في غرفة، وسيمكنك رؤيتها بالطبع.
بدا على بسمة أنها لا تطيق الانتظار حتى تلك الدقائق، في حين التفت هو إلى باسل بنظرة شكر، فأومأ الأخير برأسه بمعنى "أنت على الرحب"..
ساد الصمت لحظاتٍ قالت بسمة بعدها في خفوت: د. عمرو.
التفت إليها عمرو متسائلًا فاستطردت: لست أعرف كيف أشكرك على ما فعلته.. لقد كنت كطوق نجاةٍ أرسله الله إلينا ولولاك حقًا لما...
صمتت لحظةً في انفعال، ثم أكملت: لست أدري ما الذي كان من الممكن أن يحدث.
قال عمرو في خفوت مماثل: لم أفعل سوى واجبي.
- حقًا؟!
التقى حاجباه مستغربًا التساؤل، فعادت تقول في تردد: هل من الممكن أن أسألك عن شيءٍ بخصوص ذلك؟
اتسعت عينا باسل في شغفٍ وفضول، في حين صمت عمرو لحظةً ثم قال في هدوء: تفضلي.
انطلق رنين الهاتف الداخلي لحظتها، فالتقطه باسل في سرعة وهو يرد في روتينية.. استمع لمحدثه لحظات قبل أن يمط شفتيه في ضيقٍ قائلًا: حسنًا.. سآتي حالًا.
سأله عمرو في قلق: هل...
قاطعه باسل وهو يغلق خط الهاتف: كلا.. كلا.. إنه استدعاءٌ لي أنا.
أطلق عمرو ضحكةً خافتة وقد أدرك سبب انزعاجه فهو يعرف كم هو فضولي..
نظر له باسل في غيظٍ مصطنع، ثم نهض من خلف مكتبه وهو يقول محدثًا بسمة: اسمحي لي د. بسمة.. لقد كانت فرصةً رائعة التعرف عليك.
ردت بسمة في حرج: أشكرك د. باسل.. تفضل.
ربّت باسل على كتف عمرو وقال مداعبًا: أريدك أن تعتصريه أسئلة.. إنه يستحق ذلك.. لكن كي لا تصابي بالإحباط دعيني أخبرك بشيءٍ مهم..
مال نحوها قليلًا مكملًا في خفوت وكأنه سيقول سرًا: من الصعب جدًا محاصرته!
ابتسمت بسمة بينما نظر له عمرو معاتبًا، فقال: حسنًا.. حسنًا.. سأذهب.
غادر في سرعة، فعاد عمرو بعينيه إلى بسمة التي تنحنحت ثم قالت: اعذرني د. عمرو.. أعرف بالطبع كيف يتصرف أي طبيبٍ في المواقف المماثلة، ولكن.. أحقًا كل ما فعلته كان من منطلق واجبك كطبيب.. فقط؟!
لم تكن بسمة بالطبع بحاجةٍ إلى التأكد من شيء فقد أيقنت تمامًا كم هو غارقٌ في حبها، لكنها كانت تريد أن تحيط منى بنطاقٍ جاد.. أن تعرف كيف سيصف علاقته بها وكيف سيبرر تصرفاته تجاهها خاصةً في موقفٍ واضح كهذا..
تطلع إليها عمرو في صمت دام للحظاتٍ ثم قال: دعيني أولًا أسألك سؤالًا.
لم تتوقع أن يجيبها بسؤال، فقالت بحذر: تفضل.
- من الواضح جدًا أنك صديقتها المقربة.. أليس كذلك؟
- بلى.
قال عمرو وهو ينظر إليها في ثبات: إذًا فقد أخبرتك عني بالتأكيد.
لم تتوقع منه هذا الاستنتاج وأدركت أنه يحاول التهرب من الإجابة المباشرة، فابتسمت قائلة: هذا لا يعني أني أعرفك أو أعرف أي شيءٍ عما بداخلك!
كان ردًا ذكيًا أفسد عليه محاولته ببساطة..
غلفهما الصمت ثانيةً قبل أن يقول عمرو في تردد: وماذا تعرف هي عما بداخلي؟
قالت باستنكار: أنت تسأل أكثر مما تجيب!
جاوبها عمرو بالمزيد من الصمت، فتنهدت قائلة: لا تعرف شيئًا بالطبع.. فقط الكثير من التمنيات والاحتمالات التي تغير تصرفاتك اتجاهها في كل لحظة.
واصل عمرو صمته للحظاتٍ أخرى ثم قال: منى إنسانةٌ رقيقة جدًا وحساسة..
ثم هز كتفه وابتسم مكملًا: ويبدو أنني لن أستطيع أن أحيا بدونها!
ارتفع حاجبا بسمة دهشةً من هذا الرد الأنيق وتأكدت تمامًا من صحة ما قاله صديقه عنه..
همّ عمرو بقول شيءٍ آخر لكن سبقه رنين الهاتف الداخلي، فشعرت بالإحباط وقالت في نفسها.. "لماذا الآن.. كان سينطق ببضع كلماتٍ أخرى"!، في حين أجاب عمرو المتصل في سرعة ثم قال: حسنًا.. شكرًا لك.
ثم التفت إلى بسمة قائلًا: هيا؟
فهمت ما يقصده على الفور، فقالت في لهفة: بالطبع.
تحركا سويًا يتقدمها عمرو واستقلا المصعد إلى الطابق الأخير حيث اتجه إلى غرفة بعينها.. وأمام بابها قال: سأتركك معها الآن.. أخبرني إن استعادت وعيها.. سأكون في الجوار.
نظرت له بامتنانٍ وقالت: أشكرك بشدة.
تركها عمرو تدخل ثم انتقى أحد مقاعد الانتظار وجلس تاركًا لأفكاره العنان..
لم يدرِ كم مر عليه من الوقت قبل أن يشعر ببسمة تقترب.. التفت إليها وعيناه تحملان تساؤلًا واضحًا فقالت: كلا.. لم تستعد وعيها بعد ولكن... تأخر الوقت كثيرًا.. إنها الخامسة تقريبًا.
ألقى نظرةً على ساعته منتبهًا بغتة إلى تأخره هو أيضًا على العيادة التي من المفترض أن يكون فيها الآن، لكنه نحّى هذا جانبًا وقال: تستطيعين أنت الذهاب.. سأكون أنا معها، لا تقلقي.
- أنا أقصدها أيضًا.. لقد تركت حقيبتي في الجامعة وفيها هاتفي، لكن يمكنني الاتصال بوالديّ وإخبارهم بالأمر وبأنني سوف أبقى معها.. لكن ماذا عنها.. أستطيع الاتصال بوالديها أيضًا إلا أنني لا أعرف ماذا أقول لهما.
كانت على حقٍ تمامًا فيما تقول، فصمت لحظاتٍ مفكرًا ثم أخرج هاتفه وناوله لها قائلًا: اتصلي أنتِ أولًا بوالديك وطمئنيهما، ثم اتصلي بوالدها ودعيني أكلمه أنا.
بدا عليها الدهشة، فأردف موضحًا: أنا على معرفةٍ شخصية به وأعرف ماذا ينبغي أن أخبره.
زادها هذا دهشة، لكنها لم تلبث أن أومأت برأسها بتفهمٍ وهي تلتقط الهاتف..
الحق أنها أعجبت بشخصيته.. هناك نضجٌ واضح في تصرفاته وفي طريقة تحمله للمسئولية.. هذا رائع.. لن تقلق على منى إذًا !
لم تُظهر له ذلك بالطبع وبدأت في إجراء اتصالاتها، في حين نهض هو وتحرك مبتعدًا لبضعة أمتار وكأنه يتجول في المكان حتى يمنحها فرصة التحدث بحرية..
- د. عمرو.
بلغه نداؤها، فالتفت ليجدها تمد يدها له بالهاتف بما يعني أن والد منى على الخط..
اقترب مسرعًا والتقط الهاتف ثم عاد يبتعد وهو يتحدث معه..
طال وقت المحادثة هذه المرة على نحوٍ أثار قلق بسمة، لكن عمرو لم يلبث أن عاد إليها مبتسمًا، فقالت: خيرًا؟
- أخبرته بالأمر بالتفصيل وطمأنته، لكني نجحت بصعوبة في إقناعه بعدم المجيء وبتركي أنا أعود بها معكِ إلى المنزل.
ارتفع حاجباها في دهشة بالغة وهي تردد: تعود أنت بها؟!
رد في بساطة: أجل.. هل نسيت أنى جارهم؟
- كلا.. ولكن...
- أخبرته أنها ستستعيد وعيها خلال دقائق وسأعود بها على الفور.. لم يقتنع إلا حينما أخبرته أنه من الأفضل ألا تعلم والدتها بالأمر لأنه لن يكون هناك سبيلٌ لطمأنتها في هذه الحالة إلا برؤية ابنتها أمامها سليمةً معافاة.. سيخبرها أنها تأخرت معك في الجامعة وستعودان سويًا خلال نصف ساعةٍ على الأكثر.
- وماذا لو لم تستعد وعيها خلال وقتٍ قصير؟
أطلق عمرو زفيرًا عميقًا وقال: الحق أن فترة فقدانها للوعى قد طالت.
أخرج هاتفه مرةً أخرى وأجرى اتصالا بالعيادة يخبرهم فيه بتأخره نحو ساعة، ثم تحرك متجهًا نحو غرفتها قائلًا: دعينا نطمئن عليها.
تبعته بسمة في سرعة والتقيا باسل الذي قال فور رؤيتهما: آه.. وجدتكما.
ثم قال موجهًا حديثه إلى بسمة: كيف حالها الآن.
"لماذا تخاطبني أنا! المفترض أن تسأل عمرو !"
هذا ما قالته لنفسها بتعجب، لكنها أجابته باقتضاب: د. عمرو سيطمئننا عليها حالًا.
سبقهم عمرو إلى الداخل، وما إن اقترب حتى أدرك أنها بدأت تستعيد وعيها بالفعل، فقد كانت تحرك يدها ورأسها ما بين لحظةٍ وأخرى حركاتٍ ضئيلةٍ محدودة..
جلس عمرو على طرف الفراش وأمسك معصمها محاولًا قياس نبضها.. الحق أنه لم يستطيع قياس أي شيء.. تحرك مشاعره وانفعالاته فور رؤيتها أطاح بتركيزه تمامًا، فلم يشعر سوى بنبض قلبه هو الذي أخذ يدق داخله متلهفًا وقلقًا، لهذا تحركت أصابعه من معصمها إلى أصابعها تحتضنها بلهفة..
وقف باسل خلفه ينظر إليه وإلى طريقة إمساكه يدها في دهشة، ثم لم يلبث أن ابتسم وهو يمس جبهته بأصابعه.. التفت إلى بسمة وتبادلا نظرةً خاصة ابتسمت على إثرها أيضًا..
نهض عمرو فجأة والتفت إلى بسمة قائلًا بهدوءٍ مصطنع: من الأفضل أن تكوني أنتِ بجوارها.
ثم تراجع ليقف جوار باسل الذي رمقه بنظرةٍ جانبية دون أن يعلق..
لم تتوقع بسمة منه ذلك في الواقع، لكنها أومأت برأسها متفهمة ثم جلست على طرف الفراش بجوار منى وأخذت تربت على وجنتها برفقٍ وهي تناديها في خفوت..
تأوهت منى بخفوتٍ شديد وهي تحرك رأسها، ثم صدرت منها بضع كلماتٍ غير مفهومة وهي تحاول بصعوبة فتح عينيها..
عادت بسمة تربت على وجنتها قائلة: منى.. عزيزتي.
ظلت منى على صمتها وسكونها لحظات، ثم صدرت منها كلمةٌ أخرى غير واضحة بخفوتٍ شديد..
لكن بسمة سمعتها..
سمعتها وفهمتها والتفتت إلى عمرو الذي وقف يراقب الموقف مواصلًا تظاهره بالهدوء..
ظهر التساؤل في عينيه، فأشارت إليها..
لم يبدُ عليه أنه فهم ما تقصده، فنقل بصره إلى منى ووجهها الهادئ الساكن ثم عاد إلى بسمة وهو يهم بقول شيءٍ ما و...
"عمرو"
كان هذا صوتها..
خافتٌ جدًا.. ضعيفٌ جدًا.. لكنه اخترق قلبه قبل أذنيه..
حدّق في وجهها الذي عاد إلى صمته وسكونه بدهشةٍ بالغة، ثم انعقد حاجباه في تأثرٍ وانفعالٍ شديدين..
إنها تهذي باسمه..
تناديه قبل حتى أن تستعيد وعيها..
تواثبت خفقات قلبه تستحثه أن يندفع نحوها مطلقًا كل لهفته وكل حبه..
لكنه لم يفعل..
بصعوبةٍ شديدة ظل واقفًا في مكانه محاولًا إخفاء مشاعره وانفعالاته وشاعرًا بأنفاسه تخرج بطيئةً ثقيلة..
لحظاتٌ مرت.. قامت بعدها بسمة وتحركت إلى خارج الغرفة وتبعها باسل في صمت مغلقًا الباب خلفه بهدوء..
وهنا أطلق عمرو لمشاعره العنان وتحرك..
تحرك نحوها وجلس على طرف فراشها ببطء محتضنًا يدها في حنان بالغ ومتطلعًا إليها بعينين تحملان الكثير والكثير مما بداخله..
كان من الواضح أنها تجد صعوبةً في استعادتها للوعي، فتارةً تحرك رأسها ويبدو عليها أنها تحاول فتح عينيها، وتارةً تبدو وكأنها غارقةٌ في نومٍ عميق..
تحركت يده تربت على وجنتها برفقٍ شديد، ففتحت عينيها في بطءٍ وضعف..
طالعها بانفعالٍ لم يستطع معه قول أي شيء، في حين تطلعت هي إليه في صمتٍ مماثل قبل أن تظهر على شفتيها ابتسامةٌ باهتة وتقول بخفوتٍ شديد: عمرو.
تهللت أساريره وابتسم في سعادةٍ بالغة شاعرًا بأن اسمه يبدو لذيذًا للغاية وهو يسمعه منها مجردًا مرة أخرى.. وبكل مشاعره المتأججة همس: أنا هنا.. أنا هنا إلى جوارك.
ظلت منى تتطلع إليه لحظات بملامح هادئة، ثم لم تلبث أن أغمضت عينيها ثانيةً وكأنها عادت لغيبوبتها وابتسامتها تتلاشى شيئًا فشيئًا..
عقد عمرو حاجبيه في قلق وقال بخفوت وهو يضغط على يدها: منى.
عادت منى تفتح عينيها في صعوبة وتتطلع إليه وإن بدت الحيرة على ملامحها هذه المرة، فابتسم وهو يدرك أنها لم تستعد وعيها كاملًا بعد، ربما تظن نفسها تحلم أوما شابه..
ولكم كان تخمينه صحيحًا!
وبقلبٍ امتلأ سعادةً وارتياحًا تأمل ملامحها الحيرى، ثم عاد يضغط على يدها ومد يده يلمس أرنبة أنفها بأصبعه قائلًا: حمدًا لله على سلامتك.
التقى حاجباها مع ملامسته أنفها وكأنما تعجبت أن يكون الحلم بهذه الواقعية، وتطلعت في دهشةٍ إلى وجهه المبتسم ثم إلى ما حولها وإدراكها يعود شيئًا فشيئًا..
ما هذا المكان الغريب.. أين هي؟!
يعود شعورها بجسدها فتشعر بالآلام في كل جزء منه..
رأسها أيضًا.. صداع.. صداعٌ شديد..
تأوهت في خفوت وهي تحاول النهوض فتنبهت لحظتها فقط أنها راقدةٌ على فراش..
أتاها صوته يقول: رويدك.
عادت تنظر إليه في دهشة..
أهذا عمرو فعلًا؟!
ما الذي أتى به إلى هنا؟!
بل ما الذي أتى بها هي إلى هنا؟!
كان تفكيرها مازال مشوشًا، لكن تساؤلها انتقل إلى لسانها فقالت: أين أنا؟
خرج صوتها واهنًا.. ضعيفًا.. خافتًا على نحوٍ أدهشها، في حين أجابها عمرو بخفوت: معي.
رددت بحيرة: معك؟!
أومأ برأسه إيجابًا لكنها شعرت أنها لم تفهم شيئًا، فقط تزايد الصداع فأغلقت عينيها في ألم..
كان يقصد بالطبع ألا يجيبها إجابةً واضحة، فماذا سيفيدها أن يخبرها أنها في المستشفى الآن وذهنها لم يستعد صفاءه بعد..
عادت تفتح عينيها وتتطلع إليه وقد بدأت تستوعب ما حولها..
يبدو المكان كغرفةٍ في مستشفى، ترقد هي على فراشٍ يتوسطها يجلس عمرو على طرفه بجوارها، ويمسك يدها و...
لحظة.. عمرو بجوارها ويمسك يدها!!
انتابها انفعالٌ مباغت وسحبت يدها من يده في سرعة..
لم تفلتها يده، بل تمسك بها وقال وهو ينظر لعينيها مباشرة: مهلًا..
ثم وبهدوءٍ أكثر وخفوت أكثر أكمل: أنا أجُس نبضك.
عاد حاجباها لينعقدا واحمر وجهها وهي تنظر إليه، في حين أفلت هو يدها في رفق وجس نبضها بالفعل، فدفع تسارعه إلى ثغره بابتسامة..
تضاعف احمرار وجهها، فقال بلهجةٍ حملت الكثير من مشاعره: حمدًا لله على سلامتك.. لقد أقلقتني عليك بشدة.
اضطربت خفقات قلبها مع كلماته، رغم أنها لم تفهم بعد ما الذي يحدث بالضبط..
وفي ارتباكٍ وحيرة، ترددت الكلمات على شفتيها ولم تعرف ماذا تقول، فلاذت بالصمت..
كان عمرو في هذه اللحظة يشعر بأنه في أسعد حالاته.. أسعدها على الإطلاق..
سعيدٌ لأنها بخير.. سعيدٌ لأنه معها..
أما هي فكانت في أكثر حالاتها ارتباكًا وحيرة..
لا تفهم شيئًا مما يحدث حولها، ويربكها بشدة كونها تنظر إليه من هذا الوضع النائم..
حاولت بصعوبة الاعتدال في الفراش، فقال في إشفاق: تشعرين بدوار.. أليس كذلك؟
أومأت برأسها إيجابًا وهي تعتدل بالفعل شاعرةً برأسها يدور بشدة، ثم قالت وهي تمسك رأسها بكلتا يديها: أشعر بصداعٍ شديد.
ابتسم مشجعًا وقال: اطمئني... سيزول كل هذا خلال وقتٍ قصير.
ثم قام من مكانه ودار حول فراشها يوقف سريان المحلول الذي فرغت زجاجته أو كادت..
انتبهت في هذه اللحظة إلى تلك القناة الوريدية المثبتة إلى يدها فرفعتها تتطلع إليها، لكنها فوجئت بعمرو يعاود الجلوس على الطرف الآخر للفراش ثم يمسك بيدها تلك قائلًا وهو ينظر لعينيها مباشرةً: قد تؤلمك قليلًا.
جاوبته بصمتٍ مطبق ووجهها يعاود الاحمرار، بينما أزال هو القناة الوريدية بسرعةٍ واحتراف.. آلمتها قليلًا بالفعل إلا أن شعورها بالألم تاه وسط مشاعرها الأخرى وهي تنظر إليه..
ماذا يحدث.. ولماذا هي هنا؟!
لماذا هو معها.. ولماذا يبدو وسيمًا للغاية هكذا؟!
تدافع قلبها في خفقاته أكثر عندما عاد يرفع عينيه إليها بعدما أنهي ما يفعل بوضع لاصقٍ طبى صغير..
كان لا يزال ممسكًا بيدها فحاولت سحبها، لكنه ولمرةٍ أخرى لم يفلتها، بل مال نحوها قائلًا في خفوت: يدك دائمًا باردة!
ازداد احمرار وجهها ودفء يده ينساب إلى يدها التي ضمها أكثر..
رفعت يدها الأخرى بارتباك تزيح خصلات شعرها عن وجهها لتنتبه لحظتها فقط إلى أنه حرٌ طليق، فاتسعت عيناها لحظةً ثم غمرها الخجل من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها وتحاشت النظر تمامًا إلى عمرو الذي أفلت يدها في رفق وابتسم وهو يتأمل وجهها واحمراره شاعرًا لمرةٍ أخرى بأنه لم يرها بهيئةٍ أجمل من هذه من قبل..
- آسف.. لكنك كنت على وشك الاختناق.
كان هذا ما قاله بعد هنيهةٍ من الصمت، فرفعت عينيها إليه وقالت بصوتٍ حمل على الرغم من ضعفه لهجةً حائرة: ماذا حدث ولماذا أنا هنا؟!
قال بهدوء: ألا تذكرين شيئًا؟
هزت رأسها نافيةً في بطء، ثم قالت: كنت في الجامعة مع بسمة صديقتي و...
صمتت تحاول التذكر، فتنهد قائلًا: المصل المضاد للتيتانوس..
تذكرت أمره بغتة ورفعت يدها لترى جرحها الذي ضُمد بعناية، في حين أكمل هو: لديك تحُسسٌ رهيب منه.
عقدت حاجبيها وقد بدأت تفهم، بينما تابع هو: لم تمضِ دقائق على سريانه في دمك حتى رفضه جسدك تمامًا مسببًا صدمة حساسيةٍ حادة.
اتسعت عيناها في انفعال وقد أدركت أنها كانت بالفعل على حافة الموت..
استطرد عمرو متجاهلًا التفاصيل عن عمد: كنت أنا في الجامعة ورأيتك تفقدين الوعي وسط زملائك فأتيت بك إلى هنا مع صديقتك بسمة، وبفضلٍ من الله عز وجل نجوت في الوقت المناسب.
طالعته منى في صمت وعشرات الانفعالات تتدافع داخلها..
هو مرةً أخرى..
في كل مأزقٍ تقع فيه.. تجده هو!
من كل خطرٍ تواجهه.. ينقذها هو!
طال الصمت بينهما وكلاهما يتطلع إلى الآخر..
كانت شاردة في أفكارها، وكان هو شاردًا فيها..
شعر بانفعالاته تتزايد فقال بغتة: أنت متعِبة!
انتفضت انتفاضةً خفيفة ثم خفضت عينيها شاعرةً بالذنب، بينما أردف هو بلهجةٍ مغايرة تمامًا.. لهجةٍ حملت كل مشاعره: ماذا كان سيحدث لي لو أصابك مكروه؟
لم تنتبه إلى عذوبة كلماته ورقتها وما تحمله من مشاعر واضحة، فقد كانت غارقةً في لومها لنفسها..
"هو على حقٍ تمامًا.. أنا لا أجلب له سوى المتاعب.. ألا يكفي تطفلي السابق عليه"
هكذا قالت لنفسها لائمة وشعورها بالحزن يعاودها.. رفعت إليه عينيها وقد ترقرقت فيهما الدموع وقالت في خفوتٍ شديد: نعم.. أنت على حق.
كانت تقصد قوله لها بأنها متعِبة وكأن كلماته التالية لم تصل إلى عقلها مطلقًا..
التقى حاجباه في قلقٍ ودهشة، وقبل أن يقول أي شيء انهمرت دموعها في غزارةٍ وهي تقول: أنا آسفة.. حقًا آسفة.. أنا لا أجلب لك سوى المتاعب.. لا أعرف ما الذي...
قاطعها محاولًا تهدئتها وقد أربكه بكاؤها المفاجئ هذا: أية متاعب.. منى.. أرجوكِ لا تبكي.
لكنها واصلت بكاءها وكلامها..
- أنا فعلًا لم أقصد هذا.. لم أقصد أبدًا أن أتطفل عليك.
بارتباكٍ أكبر قال: منى.. اهدئي أرجوك.
- لقد كنت.. كنت فقط أحاول أن...
لم تتم عبارتها.. تضاعف بكاؤها بغتة على نحوٍ لم تستطع معه النطق بحرف..
أما هو.. فكان في أوج انفعاله يتطلع إليها في صمت..
لقد أدرك عما تتحدث.. ليس ما حدث اليوم فحسب، بل عن رسائلها أيضًا..
تعتذر عنها باعتبارها تطفل بسبب ما أظهره لها ساعتها من لا مبالاةٍ وعدم اهتمام..
أدرك حتى ما لم تستطع قوله وتسبب في زيادة بكائها..
أدرك إلى أي حدٍ ارتبكت مشاعرها واضطربت بسببه..
أما ما لم يدركه، فهو كيف يتصرف الآن؟!
دموعها تواصل الانهمار حارةً غزيرة على قلبه أيضًا وليس على وجهها فقط! وعلى نحوٍ يجعله يبذل قصارى جهده كي لا يضمها ويحتويها بين ذراعيه لتفرغ مشاعرها كلها على صدره..
شعوره بأنها تقول مثل هذه الكلمات وهو يعرف يقينًا أنها تحبه يؤلمه ويعذبه..
لا يعرف حقًا ماذا يفعل..
كيف يوقف بكاءها.. كيف يشرح لها حقيقة مشاعره..
أراد أن يهتف يقاطعها "أنا أيضًا أحبك"..
لكنه لم يستطع..
حاول.. لكن لسانه لم يطاوعه، فاندفع قلبه بدقاتٍ عنيفة وكأنه يعترض على صمته..
اندفع يستحثه.. هيا.. انطق..
وقبل أن يحاول قول أي شيء، عادت هي تقول من بين دموعها: أنا...
لم تتم عبارتها هذه أيضًا.. ليس بسبب بكائها، بل بسببه هو..
فوجئت به يحتوى يديها الاثنتين بيديه الاثنتين ثم يهمس: وجودك إلى جواري هو أفضل ما حدث لي في حياتي كلها.
أنّ قلبها بخفقةٍ عنيفةٍ مباغتة وحدقت في وجهه غير مصدقة لما تسمعه، في حين شعر هو أنه لو ظل أمامها واستمرت تنظر إليه هكذا للحظةٍ أخرى فلن يعلم ما الذي يمكن أن يفعله بالضبط.. لهذا ترك يدها على الفور ونهض قائلًا بمرحٍ مصطنع: بالمناسبة.. صديقتك بسمة بالخارج تكاد تموت قلقًا عليك.
لم يبدُ عليها أنها سمعت عبارته تلك وظلت تتطلع إليه على نحوٍ كاد يفقده السيطرة بالفعل، لكنه تحرك مبتعدًا في سرعة وهو يقول: ستكون معك حالًا.
خرج من الغرفة بالفعل وحافظ على مرحلة المزيف وهو يقول لبسمة: إنها تريدك.
قالت بسمة متظاهرةً بالغضب: أخيرًا تذكرتني.
ابتسم كلاهما، فقال: ساعديها لتتحرك في الغرفة قليلًا لتتغلب على الدوار.. سأعود خلال عشر دقائق.
أومأت برأسها متفهمة ثم دلفت إلى الغرفة بلهفة..
ما إن أُغلق الباب حتى أفرغ عمرو صدره كله في زفرةٍ عميقة وألقى نفسه على أقرب مقعد صادفه، فمال عليه باسل وقال بابتسامةٍ كبيرة: كيف حالك الآن؟
جاوبه عمرو بزفرةٍ أخرى ثم قال وهو يستند على ركبتيه بمرفقيه: متعبٌ بشدة.
أطلق باسل ضحكةً قصيرة وقال: هذا رائع!
ابتسم عمرو على الرغم منه قائلًا: وما الرائع في هذا؟
أجابه باسل في سرعة: أنه تعبٌ لذيذ.. أليس كذلك؟
اعتدل عمرو والتفت إليه متسائلًا: كيف تعرف هذه الأشياء؟!
تنهد هو هذه المرة وبدلًا من أن يجيبه قال: أتعلم؟ أنا أحسدك!
تعجب عمرو لقوله، لكنه قال فجأة مغيرًا دفة الحديث: المستشفى كلها الآن تتحدث عنك وعن فتاتك.. حاول أن تتصرف.
- لا تشغل بالك.. هذا لا يهمني.. سأغادر بها المستشفى خلال دقائق.
- حقًا! توقعت أن تُبقيها معك بعض الوقت.
- لقد استعادت وعيها وأصبحت بخير، فما الذي سيبقيها في المستشفى؟
هز باسل كتفه وقال مازحًا: إن أردت لن يعجزك إيجاد الأسباب.
ابتسم عمرو وقال: ليس إلى هذا الحد.. كما أن أسرتها قلقةٌ عليها.
مط باسل شفتيه بمعنى أن هذا شأنه، فقال عمرو: بالمناسبة.. أدين لك بالشكر.
- على ماذا؟
- على اهتمامك.. لقد وجدت كل شيءٍ أردته في انتظاري، ولولا وجودك هنا لضاع الكثير من الوقت قبل أن...
قاطعه باسل وهو يربت على كتفه: ماذا تقول يا رجل.. أيعقل أن يطلب منى أعز أصدقائي طلبًا وأخذله.
صافحه عمرو في قوة قائلًا: هذا ما توقعته بالفعل.. حسنًا.. أنا ذاهب الآن..
أشار باسل إلى غرفة منى وقال: ألم تقل أنك سوف...
قاطعه عمرو: أجل.. لكني سأحضر شيئًا من السيارة أولًا.
تحرك باسل يتقدمه قائلًا: أنا قادمٌ معك إذًا.. هناك بعض الحالات تنتظرني في الاستقبال.
******************