أستيقظت ......
فتحت عيناى لأجد نفسى فى قسم الشرطة .....
كان يوجد حولى العديد من العساكر والضباط و المجرمين المكبلين بالأصفاد ، لم أستوعب ماذا حدث بعد .....
فقلت بصوت ضعيف :-
أنا فين ؟ أيه اللى حصل ؟
جاوبنى شخص يرتدى ملابس مدنية قائلا :-
أنتى فى قسم الشرطة ، دخلتى بتجرى من البوابة وبعدها وقعتى مغمى عليكى ..... أنتى فى مكتبى دلوقتى
قبل أن يعرف نفسه قائلا :-
الرائد ( محمد سمير ) متقلقيش أنتى أغمى عليكى حوالى عشر دقايق ....قبل أن يكمل قائلا :-
هجيبلك ليمون وبعد كده هسمع من كل اللى عاوزه تحكيه
قلت سريعا و دون تردد :-
أنا كنت محبوسة مع ناس منتحلين شخصية عيلتى ، بس هم مش عيلتى .... أنا معرفش مين دول ؟ وعاوزين منى أيه ؟
جلس خلف مكتبه وهو ينظر لى بتشكك واضح قبل أن يقول :-
خلاص نعمل محضر رسمى بالكلام ده وبعد كده هنعمل تحرياتنا ونشوف الموضوع ده ..... بس فى الأول اسم حضرتك أيه ؟
( سلمى سليمان السعيد )
ساكنة فين ؟
فيلا 9 شارع الفردوس .... فيلا الفيروز .... أيوه أسمها الفيروز
سنك ووظيفتك ؟
ليسانس حقوق ومش بشتغل حاليا وسنى 25 سنة
نظر لى بدهشة وهويردد خلفى قائلة :-
25 عام .... حضرتك متأكدة ؟
أستغربت من صيغة السؤال قبل أن أقول بحده :-
طبعا متأكدة .
طيب مع حضرتك بطاقة ؟
أيوه معايا البطاقة وجواز السفر كمان .
أخرجت من جيب معطفى الداخلى حيث أحتفظ بهم جواز سفرى وبطاقتى قبل أن أقدمهم له ، تناولهم منى بهدوء قبل أن يقلبهم بين يديه وهو يتفحصهم ويقول بتحفز:-
حضرتك البطاقة الورقية ده أتلغت من زمان أوى ..... حضرتك معملتيش بطاقة الرقم القومى الجديدة ؟
أحنا كنا بره مصر ولسه راجعين من أسبوعين .... حضرتك شوف جواز السفر و.....
قاطعنى قائلا :-
مكتوب أنك مواليد 1975 الكلام ده صحيح .
أيوه صح 1/3/1975 وأحنا 18/12/2000 يبقى عندى 25 سنة ، مش فاهمة أيه المشكلة فى كده .
نظر لى لعدة ثوانى قبل أن يقول ببطء :-
المشكلة حضرتك أن أحنا 18/ 12/ 2019 يعنى حضرتك كده عندك 44 سنة مش 25 سنة زى ما بتقولى ..... ثانيا ، الختم اللى موجود على جواز السفر اللى منتهى برده من 1/12/ 2000 يعنى من أكتر من 19 سنة مش من أسبوعين زى ما بتقولى .... يعنى حضرتك دخلتى لمصر من 19 سنة تقريبا .
توقفت عن ألتقاط أنفاسى .... توقف الزمن بى وتجمدت الموجودات من حولى ....شعرت أننى أنفصلت عن العالم تمام ..... حاولت أن أتحدث أو أن أدافع عن نفسى لكن الكلمات لم تسعفنى ، .... كان ما سمعته صدمة جديدة تضاف للصدمات التى تلقيتها أخيرا ، حياتى كلها أنهارت تماما من حولى ، كل ما كنت أظنه حقائق ووقائع ومسلمات لم تعد كذلك ، ها هو لغز جديد يضاف لمجموعة الألغاز الموجودة حاليا فى حياتى .... هل تكون هذه خدعة جديده تحاك ضدى ..... لكن هذا غير معقول لا يمكن أن تكون هذه خدعة بكل هذه الدقة والأحترافية ، أم هو وهم جديد من صنع عقلى المريض .....
وهل عقلى مريض بالفعل أم هناك شخص يحاول أن يقنعنى بهذا ..... نظرت حولى كان كل شىء يبدو مختلف ، كأن كان هناك ضباب يحيط بعقلى وينقشع الأن.....
الناس كانوا يرتدون ملابس لم أعتاد على رؤيتها ، يتحدثون فى أجهزة صغيرة يحملونها فى أيديهم كنت قد رأيتها من قبل بالخارج لكنها لم تكن بهذا الصغر أو هذه التقنية ، حتى أجهزة التلفاز أصبحت شاشة فقط معلقة على الحائط ، حتى هذا مختلف عن التلفاز الموجود لدينا بالمنزل ..... شعرت كأننى أنتقلت عبر الزمن ..... قمت من مكانى أبحث عن أى مرآة حتى ألقى نظرة على نفسى .... حتى وجدت مرآة صغيرة فوقفت أمامها وأنا لا أكاد أصدق عيناى من هذه .....
هذه ليست أنا ......
ليست سلمى التى أعرفها .....
ليست أنا التى أتذكرها ......
لقد أصبحت أكثر نحافة ووجهى به العديد من التجاعيد ، الهالات السوداء أسفل عيناى المنتفخة والعديد والعديد من الشعيرات البيضاء التى أنتشرت بغزارة فى شعرى ، ويبدو على الأرهاق والأجهاد ..... لم أكن أتوقع أن يكون شكلى هكذا عندما أتجاوز الأربعين من العمر .....
كان يبدو على أننى فى الخمسينات أو أكثر ..... ماذا حدث لى ...؟
ما الذى مررت به وجعلنى بهذا الشكل ....؟
أين كنت طوال هذه السنوات ....؟
ماذا حدث ؟ هل يعقل أن تكون كل هذه خدعة ...؟
كل شىء يؤكد أن هذا حقيقى .... كل ما حولى يؤكد هذا .
سمعت صوت الرائد يأتى من خلفى وهو يقول :-
أحنا حاولنا نبحث عنك على السيستم بس أنتى مفيش أى معلومات عنك بعد سنة 2000 ولا بلاغات ولا عنوان ولا جوازات سفر أومغادرة لخارج البلد ولا قضايا ولا أى حاجة خالص ....
نظرت إليه والدموع تنهمر من عيناى بغزارة وأنا أشعر بغصة مؤلمة فى حلقى وأنا أقول بصعوبة :-
و ( حمدى ) جوزى ... و( فريدة ) بنتى .... فين ؟ راحوا فين ؟
هنحاول نبحث عن أسمائهم على السيستم ونعرف أى حاجة عنهم أو أيه اللى حصل ليهم ....ده لو ليهم وجود فعلا ....؟
طيب والفيلا لازم تشوفوها .... هتلاقوا الناس اللى كانوا حبسينى هناك ، أكيد هم عارفين أى حاجة عنى
أحنا بعتنا دورية هناك ومفيش أى بنى أدم هناك أو دليل أن حد كان عايش هناك .
أزاى .... يعنى أيه مفيش أى حد هناك .... يعنى أنا كان بيتهيئلى وكل ده وهم ...كل ده مش حقيقة ....؟
أو كذب .... ممكن يكون كل ده كذب أنتى ممكن متكونيش ( سلمى ) أصلا وواحده عاوزه تنتحل شخصيتها لسبب ما .... لو أنتى ( سلمى ) فعلا فأنتى واحدة ساقطة قيد حاليا ، محدش يعرف حاجة عنك السنين اللى فاتت ده كلها او كنتى فين أو بتعملى أيه ..... ممكن تكونى مجنونة وممكن تكونى أرهابية وبتدخلى وبتخرجى من البلد بطريقة غير شرعية السنين ده كلها .... فللأسف أنتى هتتحجزى عندنا شوية حلوين لحد ما نعرف قصتك أيه والبلاوى اللى ممكن تطلع وراكى .
حاولت أن أفكر ...أن أتكلم .... حاولت أن أتحرك أو أبحث عن مهرب لكنى وجدت رجل يسحبنى من يدى وأنا أسمع الرائد يقول له بحزم :-
حطها فى الحجز يا بنى لحد ما نعرف قصتها أيه ....
أستسلمت ليد الرجل حتى وصلنا لمكان الحجز قبل أن يلقى بى وسطهم ويغلق الباب من خلفى .....
كان المكان مزدحم بطريقة بشعة وممتلىء بنسوة ذات أشكال وأحجام غريبة ....
كانت الدموع تملىء عيناى ولا أستطيع التقاط أنفاسى ، وسمعت العديد من الهمهمات من حولى والهمسات والضحكات الخليعة والمريبة وأنا أبحث بعيناى ولا أكاد أرى أمامى عن أى مكان يصلح للجلوس والأنزواء به .
تلقيت العديد من الدفعات والصفعات والركلات ، أمتدت إلى العديد من الأيادى التى حاولت أن تخلع عنى دبلتى التى كنت أرتديها بأصابعى ....
كنت بحالة أستسلام غريبة ولم يكن لدى رغبة للمقاومة ، أخذوا دبلتى وما معى من أموال وحذائى قبل أن يتركونى لأجلس منزوية بجانب الحائط وقد دفنت رأسى بين قدمى وأبكى فى صمت .
لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذا الوضع ....
لا أدرى أن كنت نائمة أم مستيقظة .... هل ما أعيشه الأن هو الواقع أم أنى محتجزة داخل كابوس لعين .....
لم أدرى بنفسى الا على صوت أجش يردد أسمى ، فرفعت رأسى بضعف ورأيت العيون مصوبة نحوى بنظرات متفحصة مترقبة ، قبل أن يتابع قائلا بصوته الخشن :-
يلا ياست قومى شكلك هتروحى
أستندت على الحائط قبل أن أقف على قدمى وأتحرك خلف هذا الصول متجهة إلى مكتب الرائد ، حيث وجدته جالسا خلف مكتبه ويجلس أمامه بمن يفترض به أنه والد زوجى العميد (أحمد السعدنى ).... نظرت له بخوف وأنا لا أدرى ماذا ينتظرنى بينما تكلم الرائد بهدوء وبلهجة مشفقة على حالى :-
الدكتور بتاعك حكالى حكايتك كلها وقدم التقارير الطبية بتاعتك والظروف اللى مريتى بيها وأنك بتتعالجى عنده فى المصحة من فترة طويلة ، وتقديرا لظروفك أحنا هنحفظ المحضر ومش هنتهمك بالبلاغ الكاذب وأزعاج السلطات وهنمشيكى .... مفهوم ؟
بس ده واحد من الناس اللى كانوا خاطفينى ... صدقنى ده منتحل شخصية حمايا العميد (أحمد السعدنى ) .... ده مش حمايا .
ألتفت إلى والد زوجى الذى نظر لى بسخرية وأخذت ملامحه تتبدل ببطء لتتشكل مكانها ملامح شخص أخر لا أعرفه لرجل فى منتصف الخمسينات ، أصلع وبدين و ذو شكل مغاير تماما .
صرخت فى فزع وأنا أتراجع فى رعب وأقول :-
ده بيغير ملامحه ..... ده بقى واحد تانى
نظر لى الرائد بنظرة أشفاق وهو يقول :-
لا حول ولا قوة الا بالله .... حماكى مين و ( أحمد السعدنى ) مين بس .... لاحول ولا قوة ألا بالله ..... ده الدكتور ( وائل الخطيب ) أستاذ الطب النفسى ، للأسف والد زوجك العميد ( أحمد السعدنى ) مات ....
مات من عشرين سنة فى نفس الحادثة اللى حماتك وجوزك ماتوا فيها ولحق بيهم بنتك بعدها فى المستشفى و أنتى كنتى الناجية الوحيدة .
لم أحتمل ما سمعت ، ففقدت توازنى بعد أن مادت الأرض بى قبل أن أسقط أرضا والرائد يكمل قائلا :-
للأسف ده اللى موجود على السيستم عندنا والدكتور كمان معاه شهادات الوفاة والتقارير الطبية الخاصة بحالتك واللى كنتى بتتعالجى علشانها فى المستشفى عنده بس شكله كده مفيش فايده من العلاج .
قال له الدكتور ( وائل ) :-
نقدر نمشى دلوقتى حضرتك ...؟
أه ... أتفضل بس ياريت متهربش من عندكم تانى ، المرة ده ربنا ستر وجيت لحد عندنا الله أعلم المرة الجاية ممكن تعمل مصيبة أيه وحضرتك اللى هتبقى المسؤول .
أن شاء الله مفيش مرة جاية .... متقلقش حضرتك .
قيل أن يقوم واقفا ويعدل ثيابه ويتجه ناحيتى وهو يقول بنبرة حنونة :-
يلا يا ( سلمى ) .... يلا يابنتى قومى ، يلا بينا .
أعتدلت واقفة قبل أن أسير بجانبه بضعف ونحن نغادر مخفر الشرطة معا .
كان فى أنتظارنا شاب تجاوز منتصف العشرينات ببضعة سنوات كان ينظر لى بتمعن وكره لا أدرى كنهه وبجانبه تقف سيدة فى أوائل الثلاثينات ترتدى نظارة طبية وملابس أنيقة لم أتعرفها هى الأخرى .
قبل أن أسمع صوت الدكتور ( وائل ) يقول موجها حديثه لى وهو يفتح باب سيارته :-
أركبى يا بنتى ، متخافيش .
نفذت كلامه دون تفكير ودلفت إلى السيارة قبل أن يحتل الدكتور ( وائل ) مقعد القيادة .... لينطلق بالسيارة ، بينما أستقل الشاب والفتاة سيارة أخرى لينطلقوا خلفنا .
ساد الصمت التام ولم نتبادل أى حديث حتى وصلنا أمام الفيلا بعد بضعة دقائق ، لتتوقف السيارتان ونهبط جميعا منهما .....
دلفنا إلى الفيلا ليبدء الشاب فى الحديث ليكسر حاجز الصمت قائلا :-
طبعا أنتى مش عارفة أنا مين ...؟ أنا اللى كنت شايفانى خلال الأسبوعين اللى فاتوا بصورة جوزك .
ضحك بسخرية وأستهزاء قبل أن يكمل قائلا :-
مستغربة طبعا وممكن تكونى كمان مش مصدقة .... مش كده ؟
ثم أشار للقتاة الثلاثينية وهو يضحك بأستهزاء مجددا :-
و ده اللى كنتى بتشوفيها وبتتعاملى معاها على أنها حماتك تبقى ( نورهان ) ممرضة الدكتور( وائل )..... وطبعا دكتور ( وائل ) هو نفسه اللى كنتى بتشوفيه على أنه حماكى .
قبل أن يقهقه ضاحكا بجنون ويكمل قائلا :-
تقدروا تمشوا دلوقتى يا دكتور ( وائل ) أنت والأنسة (نورهان) .... فلوسكم أتحولت على حسابكم فى البنك خلاص وجالكم رسايل بكده على موبايلتكم .
قال الدكتور ( وائل ) بقلق :-
بس أحنا لسه موصلناش لحاجة .... مفيش أى جديد ، أحنا لسه عند نقطة الصفر .
لا خلاص ، كده خلصت .... أحنا بقالنا 4 شهور بنحاول ونخطط ومشينا ورا فكرتك السخيفة وموصلناش لحاجة برده ، أنا قررت أن النهارده هتكون الليلة الأخيرة ..... زى ما كل حاجة بدءت هنا من عشرين سنة برده كل حاجة هتنتهى هنا والنهاردة .... أتفضل يا دكتور دورك خلص خلاص .
نظر الدكتور ( وائل ) إلى نظرة مشفقة قبل أن ينظر إلى الشاب بتمعن وهو يقول بنبرة يأس :-
يا بنى أنسى وسامح وحتى لوكانت هى السبب فى اللى حصل ليلتها أنسى .... أنسى وعيش وسبها هى كمان تعيش .... هى نسيت كل حاجة ومرتحتش و أنت فاكر كل حاجة ومرتحتش برده ... يبقى كملوا حياتكم واللى حصل حصل و أنتهى مين غلطان ومين برىء معدتش هتفرق ولا هترجع اللى راح ... أنا مش هقدر أمنعك أنا نصحتك وخلصت ذمتى ، أنا لو أشتركت معاك من الأول فكان علشان أثبتلك أنها بريئة وأن شكوكك مش فى محلها بس للأسف معرفتش أثبتلك الكلام ده علشان أريحك ، فأنا همشى وأسيبك أنت وضميرك ، بس نصيحة أخيرة منى كل اللى بتعمله ده مالوش ولا فايدة ولا لزوم ، هى مش فاكرة حاجة خالص ومش هتفتكر .....
قبل أن يلتفت إلى الممرضة ويقول لها فى حزن :-
يلا يا( نورهان ) .... يلا بينا نمشى من هنا .
قبل أن ينصرف الأثنان من المنزل ويغلقوا الباب خلفهم ، رفعت نظرى إلى الشاب فوجدته يحدق بى بنظرة الكره المعتادة فقلت بهدوء :-
أرجوك ، أنا عاوزه أفهم .... عاوزه أعرف أنا مين ؟ وأنت مين ؟ وكل اللى حصل ده أيه ...؟ كل ده تهيؤات وهلاوس ؟ أنا مجنونة فعلا .... عيلتى ماتت كلها من عشرين سنة بجد ... ؟ أرجوك جاوبنى .... أبوس أيدك ....
نظر لى بأحتقار قبل أن يقول :-
برده لسه مش فاكره ... برده لسه هتنكرى .... ماشى أنا هقولك كل حاجة .... بس بعد ما نطلع فوق الأول .... يلا قومى وهتعرفى كل حاجة علشان تجوبينى على السؤال اللى قعدت عشرين سنة ببحث عن أجابته .
تحرك ليصعد السلم إلى الدور العلوى وتبعته أنا فى صمت قبل أن يتوجه إلى الحجرة المغلقة ، التى لم أدلف إليها من قبل .... ليفتحها بهدوء ويدلف إليها وأتبعه أنا فى صمت قبل أن ينتفض جسدى فزعا عندما رأيت ما رأيت .....
كانت الحجرة ملطخة بالدماء المتناثرة فى كل مكان والأشياء بها مبعثرة وتوجد رسمتين على الأرضية تحدد أماكن وجود ضحايا على مايبدو ...
ألتفت إلى الشاب وهو يقول :-
ما تخافيش ده مش دماء حقيقية .... لسه برده مش فاكرة .... المنظر ده مفكركيش بحاجة ....
لا مش فاكرة حاجة .... والله ما فاكرة حاجة .
تنهد بعمق وهو يقول :-
فى الأوضه ده من عشرين سنة أمى و أختى أتقتلوا .... و أنا الوحيد اللى نجيت .... عارفه نجيت ليه ...؟
أكمل كأنه لا ينتظر أجابة منى :-
نجيت علشان القاتل مقتلنيش .... شافنى وكان عمرى وقتها سبع سنين ومقتلنيش ، بس ده كانت غلطة عمره .... علشان صورته أتحفرت فى راسى وعمرى مانسيته ولا هنساه .
توقف عن الكلام قبل أن يوجه لى سؤال أخر قائلا :-
عارفه القاتل يبقى مين ؟
قالها ونظر لى منتظر أجابتى :-
صدقنى معرفش .
هكذا أجبته والدموع تتجمع فى مقلتيى وهو مستمر فى النظر لى قبل أن يقول :-
القاتل يبقى أنتى .... أنتى اللى قتلتيهم و دمرتى حياتى .
تراجعت بظهرى و أنا أقول بفزع :-
أنا ... أنا ... أنا مقدرش أقتل حد .... مستحيل أكون أنا اللى قتلتهم ... أكيد أنت غلطان ، والله العظيم غلطان .
تساقطت الدموع من عيناى فى آلم لتتساقط على وجنتيى وأنا لا أصدق هذا الأتهام الباطل ... لا يمكن أن أكون قاتلة .
أقترب منى ببطء قبل أن يتوقف على بعد خطوات منى وهو يقول بغل وحقد :-
أنا متأكد تماما أنك أنتى اللى قتلتيهم ، أنا قعدت أدور عليكى سنين ورا سنين ....أنتى أختفيتى تماما بعد الحادثة ، محدش عرف يوصلك والبوليس قيد القضية ضد مجهول ....وأنا كنت الشاهد الوحيد .... لحد ما أخيرا عرفت طريقك ....لقيتك مرمية زى الكلبة فى مصحة للأمراض النفسية ..... بتاكلى وبتشربى وبتنامى وناسية كل حاجة .... ناسية بنتك وعيلتك اللى أتدمرت وناسية عيلتى اللى قتلتيهم بدم بارد .....
تراجعت بظهرى حتى ألتصقت بالحائط وأنا أردد فى خوف وعدم تصديق ومازالت دموعى منهمرة لا تتوقف :-
مستحيل ..... مستحيل يكون كل ده حصل .... مستحيل أكون عملت كده ومش فاكره حاجة خالص .... أنا ... أنا .... قتلت ...؟!!
أه ...أنتى قتلتيهم ، بس مش ده المشكلة ، السؤال الوحيد اللى فضل محيرنى السنين ده كلها هو ليه ....ليه عملتى كده ...؟ أيه الدافع من ورا كده ...؟ السرقة ....مسرقتيش حاجة ، الأنتقام .... أنتى مكنتيش تعرفيهم أصلا ولا هم كانوا يعرفوكى ، حد دفع ليكى فلوس .... كان بان عليكى ..... طب ليه وعلشان أيه .... هو ده السؤال اللى عاوز أجابته ....
معرفش ....معرفش .... والله العظيم ما أعرف .
هكذا رددت بصوت مبحوح من وسط دموعى التى تنساب منهمرة على وجنتيى
قبل أن أكمل قائلة :-
أومال أيه كل اللى حصل ده ..... أزاى كنت عايشة وسطكم وشيفاكم وبتعامل معاكم على أنكم أهلى .... كل ده كانت تهيؤات ؟
لا مش تهيؤات .... ده كانت فكرة د/ ( وائل ) .... أنا لما لاقيتك بتتعالجى عنده فى المصحة الخيرية بتاعته ، حكيت ليه كل حاجة بالتفصيل وقدمت ليه عرض مغرى ما يقدرش يرفضه ده طبعا علشان أنا بقيت غنى جدا بعد ما أهلى ما ماتوا وأنا ورثت كل ثروتهم ، وبصراحة الراجل مقصرش و حاول بكل الطرق أنه يخليكى تفتكرى ، أنك تعترفى وتقولى قتلتيهم ليه ؟ بس أنتى كنتى مصرة على الأنكار .... أنكار مستميت و.....
علشان أنا مقتلتش حد .
قاطعته صارخة من وسط دموعى .
ضحك بسخرية عصبية وهو يكمل قائلا :-
لا قتلتى ، ولازم تفتكرى أنك قتلتيهم وتفتكرى كمان قتلتيهم ليه ...؟
قالها ونظر لى منتظر أى رد فعل منى فلما لم يحصل عليه أكمل قائلا :-
لحد ما د/ ( وائل ) أقترح فكرة عبقرية أو هكذا كانت تبدو فى وقتها ....عقار تجريبى جديد بيخلى اللى بياخده مسلوب الأرادة ، سهل انك تقنعه بأى حاجة .... د /( وائل ) أقترح أننا نجربه عليكى مع تنويم مغناطيسى علشان نقدر نعرف أيه اللى حصل تلك الليلة ، ومين اللى كان وراكى وخلاكى تقتليهم ....بس برده للأسف ذاكرتك كانت بتنتهى عند اليوم اللى نزلتى فيه مصر مع جوزك وبنتك من عشرين سنة ، كل حاجة بعد اليوم ده أتمسحت بأستيكة وهنا أقترحت أنا فكرة تانية ليه أحنا بالعقار والتنويم المغناطيسى منرجعش بذاكرتك ليوم ما عملتى الحادثة لحد ما أنتى فاكره ونمشى مع الأحداث تدريجيا من بعدها ..... نعيشك كل حاجة من أول وجديد ونوفرلك نفس الظروف بنفس مجرى الأحداث ونجيبك البيت اللى قتلتى فيه أمى وأختى وفى نفس الساعة والأجواء ونعيد الجريمة تانى بأدق تفاصيلها وساعتها يمكن تفتكرى كل حاجة .... الصدمة هترجعلك كل الأحداث .... د/ ( وائل ) أيد الفكرة بشدة ومعادش باقى ألا التنفيذ ، بدأنا نظبط كل حاجة ووضبنا الفيلا اللى كانت مهجورة من يوم الجريمة .... أديناكى جرعات الدواء بأنتظام وحجزناكى فى مكان منعزل وبدأ د / ( وائل ) يزرع فى دماغك الأفكار اللى أحنا عاوزينها بالتنويم المغناطيسى ، وكان باقى على اليوم اللى قتلتى فيه أمى و أختى يومين و كان لازم نتحرك بسرعة على الرغم من أن باقى الأستعدادات مكنتش كملت ولا العفش أتنقل والفيلا أتفرشت ..... وبدأنا تنفيذ خطتنا وراهنا على أنك مش هتاخدى بالك من التفاصيل الصغيرة اللى ناقصة دى و أخيرا أديناكى جرعة دواء منوم وحطناكى فى العربية عند النقطة اللى ذاكرتك وقفت عندها وأستنناكى تصحى .....وبالفعل الخطة نجحت والخدعة دخلت عليكى .....
أبتلع ريقه وهو يتحرك فى الحجرة وينظر لجدرانها بآسى وحزن قبل أن يكمل قائلا وهو يتنهد :-
أينعم حصلت بعض الحوادث القدرية ، بس قدرنا نتغلب عليها .... زى العامل اللى كان بينقل السجاد ..... ده طبعا مكنش معانا فى الخطة ولما شافك وأنتى عجوزة كده وبتقوليله أنك مراتى وهو كان فاكرك والدتى كان هيعك فى الكلام ويبوظ كل حاجة لولا أنى لحقته ، ده كان كفيل يدمر لينا كل حاجة..... أو مثلا يوم ما كان العمال بتوعنا بيجهزوا الأوضة علشان تبقى مطابقة لموقع الجريمة ووقعوا تمثال وأنكسر و أنتى سمعتى الصوت و أحنا أقنعناكى أنه صوت البرق ..... او لما نسوا النور مفتوح جوه وأنتى شوفتيه قبل مايقفلوه بثوانى .... أخطاء بسيطة كانت ممكن تعمل مشاكل كبيرة وتبوظ كل حاجة بس أحنا قدرنا نغطى عليها ....
توقف عن الحديث ثانيا وهو يضم ذراعيه لصدره ويعقد جبينه وينظر لى بغل وشراسة قائلا :-
وفى اليوم المنتظر لما خرجنا .... ده اليوم اللى حصلت فيه الجريمة .... كان المفروض تتعاد أحداث الجريمة بالكامل فى نفس الأوضة ونفس اليوم والتوقيت حتى نفس الطقس الممطر البارد ، بس أقول أيه .... تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن .... قضية سخيفة ومشاكل بينى وبين واحد من شركائى .... حاجة قديمة وكنت ناسيها وشرطة تنفيذ الأحكام بتوصية من شريكى تيجى تقبض عليا فى الوقت ده بالذات .... سبحان الله سوء حظ غريب ، لما أنتى كنتى فكرانى بتخطف دول كانوا المباحث ، كانوا عاوزينى أجى معاهم بهدوء وأحترام بس أنا رفضت كنت عارف أن كل حاجة هتبوظ لو روحت معاهم كل اللى خططت ليه هينتهى ، فطبعا قاومت وأخدت علقة محترمة وأترميت فى الحبس كام يوم عقبال ما المحامى بتاعى خلص الموضوع وسدد الفلوس وخرجت ، وأنتى أفتكرتينى أتخطفت فمشينا معاكى فى نفس القصة على أمل أننا ننقذ الخطة كلها ، بس للأسف بعدها نفس الجو الممطر مرجعش تانى والأخطاء بدأت تكتر مننا وتأثير الدواء بدأ يقل وأنتى معنديش بتاخديه وباظت كل حاجة وبدأتى تشكى فيا وتراقبينى وشفتى كل حاجة وعرفتى كل حاجة ......
قاطعته قائلة :-
ومين البنت اللى شبه ( فريدة ) بنتى اللى كانت بتظهر وبتختفى ديه ...؟
نظر لى بحنق وهو يقول :-
مكانش فى بنات ولا ولاد ولا فيه ( فريدة ) ولا غيرها .... ده من الأثار الجانبية للدواء ، د/ ( وائل ) ميعرفش سببها أيه .... تهيؤات ... ذكريات ... الله أعلم ... المشكلة أن كل حاجة أتلخبطت وباظت .... باظت
قبل أن ينظر لى بشراسة وجنون وينقض عليا بحركة مفاجئة وسريعة لينهال على بالضرب بعنف وجنون وهو يصرخ قائلا :-
لازم تفتكرى ... لازم تفتكرى .... لازم أعرف ليه عملتى كده ؟ ودمرتى حياتى ...ليه ؟ ... ليه ؟
أستسلمت تماما لركلاته وقبضاته التى تنهال على كل جزء من جسدى كنت أتألم وأصرخ ....
أحطت رأسى بكفى وتقوقعت حول نفسى والدموع تنهمر من عيناى بغزارة ....
كنت أشعر بألام لا تحتمل و أستسلمت تماما لمصيرى وأنا أستعد للموت وفجأة وكأن شخص ضغط على زر ما بداخلى أضاء ذكرياتى المظلمة وبدأت الذكريات تنساب وتتدفق لرأسى كالنهر الثائر .....
قبل أن أسبح فى ذكرياتى ....
ذكرياتى من عشرين سنة .....
وأنا أفقد الوعى .....
أفقده تماما .....
# # # # #