ربيع ألفين وتسعة عشر...
رغم الربيع، وتبسم الأزهار، وإطلالة السماء بثوبها الأزرق المبهج، ظلَّ مصعب غارقًا في أوهامه، يسبح نحو شواطئ من الجليد القانع بسطوة الشمس وحرارتها، ظلَّ مصعب تائهًا في أروقة خياله، ينظر إلى الشاطئ الغربي من اليمِّ يتساءل، هل هذا البحر العريض هو سبيله إلى الجنة؟ فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وبدت له الأرض رغم فضائها الممتدِّ كسمِّ الخياط، وقف ومن أمامه البحر، ومن خلفه أطنانٌ من الهموم التي تنوء من حملها الجبال، هموم خلت من أعباء الرزق، ومن طلب الشفاء، كانت همومه وما زالت محلُّها العقل والقلب، خلَّف وراءه نبوءاتٍ لم تتحقق يظنُّها قرناؤه وأحبَّاؤه دربًا من الجنون. وقف مصعب ذو البشرة السمراء، والجسم النحيل، والقامة العالية مرتديًا بنطالًا ممزَّقًا، وقميصا باليًا. تبدو على وجهه علامات الخصاصة والحرمان، قد أرهقه التفكير المستمرُّ في أحواله ومآله، وقف بهدوئه المعتاد، وعدم قدرته على التعبير، ورغبته الملحَّة في الانفراد بذاته يتأمَّل هذا القالب المتهالك. هل سيكون جسرًا يعبر من خلاله الى جنَّته؟ وأدار في مخيِّلته كلَّ الاحتمالات الممكنة والمستحيلة بدءًا من بلوغه غايته، وانتهاءً بغرقه واستقراره في أعماق البحر الأبيض المتوسط طعمةً لقاطنيه، واستقرَّ في وجدانه أنَّ طرفي الاحتمالات كلاهما بلوغٌ لغايته، فالموتُ في ذاته كهذا القالب وسيلةٌ ينتقل بها إلى جنَّته.
مرفأ دمياط
وبعد هنيهةٍ تحرَّك القارب من مرفأ دمياط، وعلى متنه بضعةٌ وثلاثون شابًّا تحمله الأمواج إلى عرض البحر، وجرى القارب بهم في أمواجٍ هادئةٍ، تلفح وجوههم أشعَّةُ الشمس الحارقة، ممَّا اضطرَّهم جميعًا بلا استثناءٍ إلى خلع ستراتهم، واستغشوا بها وجوههم، وبدوا جميعًا وكأنَّهم جنودٌ في طريقهم لأداء مهمَّةٍ فدائيَّةٍ، وتلقَّفتهم ستائر رحمة الله، فكان منسوب القالب قابَ قوسين أو أدنى من منسوب المياه بسبب الأوزان الزائدة على متنه، فكلَّما ارتطمت الأمواج بجسم القارب تناثرت قطراتها في مساهمةٍ منها في تلطيف هذه الأجواء الملتهبة، جرى بهم القارب ولسان حاله وهو معكم أينما كنتم، فمعيَّة الله لا تنقطع، تشمل كلَّ ما خلق، وفي مرمى البصر رأى مصعب شابًّا جسيمًا هجانًا أحمر البشرة، شديد جعودة شعر الرأس، كأنَّ رأسَهُ وشعره غصنُ شجرةٍ، وكأنَّ رأسه تشبه رأس أفعى الأصلة، أجلى الجبهة قصير، يتجافى فخذيه، وفيه انحناءٌ في ظهره، تبدو عليه علامات الذلَّة والمسكنة، فتأمَّله قائلًا لنفسه:
ـ آه. إنَّ هذا الشابَّ يشبه كثيرًا الدجَّال لولا أنَّ عينيه صحيحتان،
ثمَّ أردف قائلًا وهو يحاور نفسه:
ـ تُرى أيكون هو الأعور؟ ولاحقًا ستنطفئ عينه اليمنى، أو ربَّما يكون من أعوانه.
وكان بجواره رجلٌ يُدعى أيوب تجاوز الخمسين من عمره، فارع الطول، مسترسل اللحية قد غزاها الشيب، وكان كثير الحركة يبغض الخمول رغم تقدُّمه في السنِّ، قد استرق بنظراته حركةَ شفاه مصعب ونظراته المتردِّدة على شبيه الدجال، ففطن لِما يجول بخلد مصعب، وتوجَّه إليه بناصيته مقتحمًا عليه خلوته:
ـ هذا الذي تراه يشبه الأعور، هو الشيخ معروف أحد أتباع الشيخ الطواف من سوريا.
انتبه مصعب لحديث أيوب، ووجم هنيهةً، ثمَّ رمقه بنظراتٍ حدادٍ:
ـ كيف تسلَّلت إلى وجداني، كيف.. كيف؟
ثمَّ أتبعه بنظراتٍ حانيةٍ:
ـ أنت مأمورٌ إذًا.
ثمَّ أقسم عليه قائلًا:
ـ بحقِّ لا إله إلَّا الله، وبحقِّ من أرسلك إليَّ مفسِّرًا لخواطري، مَنْ أنت؟
تبسَّم أيوب ضاحكًا، ثمَّ قال:
ـ أيوب.
ـ سألتُكَ: مَنْ أنت؟ ولم أسألك ما اسمك؟ وشتَّان بين السؤالين. أليس كذلك؟
فكان جوابه:
ـ أيوب بما يتضمَّنه الاسم من معنًى.
ثمَّ استطرد قائلًا:
ـ مدرِّسٌ من حلب بالجمهورية العربية السورية، أذكر أنَّني التقيت وتآخيت بشابٍّ من مصر يشبهك كثيرًا في الحال، وهذا ما شدَّني إليك للوهلة الأولى عندما أصابتك لواحظي بنظرةٍ واحدةٍ تذكَّرت الشيخ محمد المصري.
** ** **
خريف ألف وتسعمائة وخمسة وتسعون...
استمرَّ أيوب في سرد قصته مع الشيخ محمد المصري بإسهابٍ قائلًا:
ـ كان الشيخ محمد المصري شابًّا في العشرين من عمره وقتئذٍ، معتدل القامة، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير الذاهب، ممتلئ البنية بغير إفراطٍ، أسمر البشرة، مليحًا باسم الوجه تظهر نواجذه كأنَّها الأهلة في السماء، ورغم تجافي شفتيه طول الوقت عن الابتسام إلَّا أنَّه كان يخبِّئ بين ضلوعه أحزانًا تعانق طموحه، أتى إلى تكية سيدي الشيخ الطواف بسوريا في أحد المناطق الحدودية؛ ليقضيَ الشهر الفضيل- شهر رمضان المعظَّم- في رحاب حضرة الشيخ الطواف، ويؤدِّي سنَّة الاعتكاف بها، وتتألَّف التكية من حرمٍ للصلاة، وباحةٍ واسعةٍ تحيط بها أروقةٌ وغرفٌ تغطِّيها قِبابٌ متعدِّدةُ، وملحقٌ بها عمارةٌ ضخمةُ البنيان على النسق التركي القديم، مستقلَّةٌ خاصةٌ بإقامة الشيخ الطواف وأسرته، وكان الشيخ محمد المصري كثير الجدال لا يفوت على الشيخ الطواف مجلسٌ إلا ورد عليه فيه من جنس ما نطق به الشيخ، فكانت حجَّته ممَّا استدلَّ به الشيخ ذاته، فكانت حجَّة الشيخ محمد المصري تنقض دليل الشيخ الطواف، وكلاهما من أقوال أكابر القوم ممَّا أثار شيئًا من التمرُّد لدى مريدي الشيخ الطواف، وانفضَّ نفرٌ قليلٌ من حول الشيخ الطواف دون الخروج عليه، انفضُّوا على وجلٍ، وفي سريةٍ تامةٍ إلى الشيخ محمد المصري؛ لينهلوا من علمه الذي نمَّت عنه مجادلته في مجالس الشيخ الطواف، وكنت أنا أحد هؤلاء النفر القليل الذين انفضُّوا من حول الشيخ الطواف، وكنتُ أشدَّهم إعجابًا بشخصية الشيخ محمد المصري، وكنت كلما رأيت الشيخ محمد المصري بضآلة قدره الذي لا يعدُّ أكثر من ذبابةٍ يصعقها الشيخ الطواف الذي يعدُّ ديناصورًا بمجرَّد زفيرٍ ينساب من أنفه، وكانت تزداد دهشتي من حلم الشيخ الطواف على الشيخ محمد، وكانت تثب بمخيِّلتي ومضاتٌ أدوِّرها، مَنْ يكون هذا المصري؟ ولماذا أتى؟، وبِمَ أتى؟ أهو مبعوثٌ ومرسلٌ لهدايتنا، أم هو شيطانٌ تمثَّل في شخصه ليفسد علينا عبادتنا؟ ولكنَّني كلما أسهبت في هذا المعنى أم هو شيطان تمثَّل في شخصه ليفسد علينا عبادتنا، أشعر بوخزاتٍ في صدري تهيِّج بصيرتي، لو كان شيطانًا لخنسَ، ولكنَّه كان جلدًا في مناهضته للشيخ الطواف، ولم يبقَ غير هذا السؤال: لماذا أتى من مصر إلى سوريا؟ أو بمعنى أصح، أيَّة أسبابٍ حملته إلينا؟ فأجابني بنفسه عن هذا السؤال ذاتَ ليلةٍ قائلًا:
ـ إنَّ مثلي كمثل الصحابي الجليل سلمان الفارسي، خرجت أبحث عن الحقيقة فأدركتها في الطريق، وذهبت إلى سوريا أبحث عن قرينٍ يتغشى روحي، ألتمس فيه شيئًا من السيدة خديجة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، التمست بأرضكم زوجةً ربَّما وجدت فيها شيئًا ما، ولكنَّه سرابٌ بقيعةٍ حسبته ماءً، ولم أجده شيئًا، ولكنِّي وجدت الله عنده.
ومرَّت الأيام، ومكث الشيخ محمد نزيلًا بالتكية ما يقرب من تسعة أشهرٍ، وما زال يناطح الشيخ الطواف في كلِّ حرفٍ يتلفَّظ به دون أن تأخذَه هدأةٌ أو سِنةٌ، إلى أنْ نفدَ صبره، وبلغ الغيظ الحلقوم، واستحال الشيخ الطواف من كرة ثلجٍ إلى قطعةٍ من جهنَّم تتساقط حممًا، فأمر مريديه بوضع الشيخ محمد في الأصفاد معلَّقًا من قدميه بوسط الساحة، وأذاقه من أصناف العذاب ما لا يطيقه البشر، وظلَّ الشيخ محمد جلدًا صابرًا ومحتسبًا، لم يثنِهِ ذلك العذابُ عمَّا استقرَّ في وجدانه، وانعقد رباطه في قلبه، ولم يفتر يردِّد: سلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم. كلَّما تلقَّى وكزةً من يد الشيخ الطواف أو سوطه، ولم يستطع الشيخ الطواف أنْ يكظمَ غيظه، فقد بلغ السيل الزبى، وحمِي وطيس هذه المعركة التي اندلعت بينهما، فقد ظهر الشيخ محمد المصري في تحدٍّ سافرٍ للشيخ الطواف، فلم يكن يستجيب لتعليماته، ولم يكن يفرُّ من إهاناته، وما كان الشيخ الطواف يراه إلَّا شيطانًا لزم الصراط المستقيم، فأراد أنْ يجعلَ أيام التكية كلَّها رمضان، ويصفِّد ماردها المارق، فأمر بخلوةٍ للشيخ محمد المصري، لا ينقطع عنها لمدَّة أربعين يومًا، لا يرى فيها أحدًا سوى القائم على خدمته، وكنت أنا القائم على خدمته، وكانت خلوته تشبه اللَّحد، غرفةٌ لا تتَّسع إلَّا لفردٍ واحدٍ، وكأنَّها فُصِّلت على مقاسه، ذات بابٍ قصيرٍ وضيِّقٍ يسمح بمرور فردٍ واحدٍ وبالجنب، ومزوَّدٍ بنافذةٍ صغيرةٍ، عبارةً عن شرعةٍ من الحديد، صُنعت كوسيلةٍ للتواصل مع المريد في خلوته، كما يوجد بالخلوة من الناحية القبلية نافذةٌ ضيقةٌ تطلُّ على المجمع السكني خلف التكية، تتمتَّع هذه الخلوة بالسهر، والذكر، وقلة الأكل، والعزلة. وتتمُّ بحضور الشيخ ومباركته له، ولكنَّ هذه الخلوة -في غالب الظنِّ-كانت تهذيبًا، وإصلاحًا، وليست مكافأةً أو نفحةً. فكان دخول الشيخ محمد المصري إلى الخلوة إنَّما ليستريح الشيخ الطواف من شرِّه، ويأمن مريدوه من بوائقه، وكان الشيخ الطواف حريصًا على إنهاء مراسم دخول الشيخ محمد المصري إلى الخلوة، فلم يُجدِ معه الترغيب، ولم يُجدِ معه الترهيب، وإنَّما وجبت عليه العزلة إلى أن يصاب بالعُتْه، أو يلوذ بالفرار، وبالفعل أتمَّ الشيخ الطواف مراسم دخوله إلى الخلوة بواسطته مباشرة، فدخلها أولًا، ثمَّ صلَّى بها ركعتين، ثمَّ سأل الله له التوفيق والسداد، ثمَّ أسلمه للخلوة، ولقَّنه البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، والاستعاذة بالله من شرِّ نفسه، وأمره أن يستمدَّ قوته من أرواح مشايخه، ثمَّ قال له ناصحًا:
ـ اعلم أنَّ الله ليس كمثله شيء، فربما يعترضك الشيطان، ويكيد لك، فردِّد دائمًا: سبحان الله، آمنت بالله، وإياك، ثم إياك أن تتعجلَ ظهور الكرامات، امكث في خلوتك، وتدثَّر بالظلام، وسدَّ على نفسك طرق الحواس الظاهرة، حتى تفتح لك حواس القلب.
قال ذلك الشيخ الطواف، ثم همَّ بالانصراف، ولكنه تذكَّر شيئًا ما، إحدى الوصايا الواجبة للخلوة، فرجع إليه، وأوصاه قائلًا وهو يغادر الخلوة:
ـ اجلس غيرَ متَّكئٍ على شيءٍ، مطرقًا رأسَك، مغمضًا عينيك، فإنك في حضرة الله عز وجل، فهو -سبحانه وتعالى-جليسُ من يذكره، ولا تنسَ أن تضعَ طيفي نصب عينيك، لا تنسَ ذلك.