tafrabooks

Share to Social Media

عبلة وخولة


وما زال يجري بهم القارب في موجٍ كالجبال، وكلُّ واحدٍ منهم متشبِّثٌ بأطراف القارب يخشى على نفسه من الغرق، وما زال أيوب يروي لمصعب قصة الشيخ محمد المصري، الذي أفاد بأنه يشبهه كثيرًا، كأنَّه يشقُّ بكلماته غمائم الخوف، ويصهر بحديثه جليد الرعب، الذي يحيط بهم من كلِّ مكانٍ، فبالرغم من أنَّ البحر يحتضنهم، ويضمُّهم من الحين إلى الحين ضمَّةً كضمَّة القبر، إلَّا أنَّ السماء ما زالت تظلُّهم، وتعرج إليها دعواتهم، تعرج إلى ربٍّ لطيفٍ، يجيب دعوة المضطرِّ إذا دعاه، واستمرَّ أيوب يروي قصة الشيخ محمد المصري قائلًا:
ـ كلَّفني الشيخ الطواف بمتابعة الشيخ محمد المصري في خلوته، وإعداد التقرير اليومي بحالته، ومراقبة مدى التزامه بواجبات الخلوة من عدمه، فكان يقضي نهاره في النوم على هيئة الجنين في رحم أمه، وكأنَّه يشير إلي شيءٍ يفقده ويتمنَّاه، ويشقُّ سكون الليل بصرخاته المقرونة بلفظ الجلالة الله، مرَّاتٍ عديدةً ومتباينةً إلى إدبار النجوم، وكان يتناول لُقيماتٍ تقمن صلبه من خبز الشعير ومرقة العدس مرَّتين اثنتين آناء الليل وأطراف النهار، وكان يتسلَّل عبر الظلام إلى غرفة تجهيز وإعداد الطعام، وأهل التكية نيامٌ، حتى أنا كنتُ أحيانًا تأخذني سِنةٌ من فرط الإرهاق والأرق، وما كنت أفيق إلَّا على همس قدميه الحافيتين أو صيحاته التي اعتدت عليها، كان يبحث في البرَّاد عن شيءٍ يريده، في بادئ الأمر كنت أجهل مراده إلى أن وجدته ذات مرَّةٍ يمدُّ بوصةً مجوَّفةً ويمرِّرها كأنَّها أنبوبةٌ من ثقبٍ صغيرٍ بخزانة الغذاء المؤصدة، والتي أُعدَّت خصيصًا لحفظ الألبان وترويبها ومنتجاتها من جبنٍ وقشدةٍ وسمنٍ، ثم يأخذ نفسًا عميقًا ويمتصُّ اللَّبن بشراهةٍ، فلحقتُ به، وباغتُهُ قائلًا:
ـ ماذا تفعل؟
اضطرب قليلًا، وازدادت نبضات قلبه، وتملَّكه الخوف، ولكنَّه لمَّا اطَّلع إليَّ اطمأنَّ شيئًا ما، وأخذ يتنفَّس ببطءٍ وارتياحٍ، ثم تأوَّد قائلًا:
ـ إنَّه اللَّبن يا أيوب.
ثمَّ استطرد قائلًا:
ـ العشق، العشق..
نظرت إليه نظراتٍ يغلِّفها التعجُّب، ويصاحبها الاستفهام، أيُّ عشقٍ يقصده؟ أوَ هو شهوتُهُ للَّبن؟ أم هو إشارةٌ لشيءٍ يريد أن يبوحَ به؟ فكان الشيخ محمد المصري دائمًا يرنو بألفاظه إلى معاني لا يدركها غيره، ودائمًا كانت تبدو المفردات التي كان يتداولها كأنَّها طلاسم، يملي عليه حلَّها، فهو ضليعٌ في علم الإشارة، كما هو ضليعٌ في علم العبارة، وتكرَّر هذا المشهدُ الذي أراه غريبًا أكثر من مرَّةٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ أطرح عليه السؤالَ ذاتَهُ، ويجيبني بالإجابةِ ذاتِها: إنَّه اللَّبن يا أيوب. العشق، العشق. وومضتْ بمخيلتي فكرةٌ أدرتها، فتذكَّرت معجزتي الإسراء والمعراج، واختيار سيدنا النبي محمد-صلى الله عليه وسلم-لكأس اللَّبن، وجواب جبريل عليه السلام، أصبت الفطرة، فربما كان الشيخ محمد المصري يقصد الفطرة بشربه للَّبن، فلم أستطع أن أمنعَ نفسي من البوح له بهذه الخاطرة، وعلى الفور وبدون أدنى تردُّدٍ توجَّهت إليه في خلوته، وأخرجت له ما دار بمخيِّلتي بصيغة عرضٍ، ما رأيك في كأسٍ من الفطرة نتذوَّقه معًا؟ فتبسَّم الشيخ محمد المصري ضاحكًا، وكان جاثيًا على الأرض، فانتصب واقفًا، وقد تخضَّبت لحيته بالدموع، فبدت وكأنَّها غمامةٌ تمطر، وأخذ يجفِّف دموعه بطرف قميصه، وثغره ما زال باسمًا كقوس قزحٍ، ولم يفتر يردِّد:
ـ الفطرة.. الفطرة..

ثمَّ مدَّ ذراعيه وأسند كفَّيه على كاهلي، وأخذ يشبُّ على أطراف قدميه، ثمَّ أودعني قبلةً حانيةً فوق جبيني، ثمَّ همس في أذني:
ـ الآن يا أيوب، الآن فهمت.
وتأمَّلت كثيرًا في حال الشيخ محمد المصري، ذلك الحال الذي أدهشني كثيرًا وجذبني إليه بشدَّةٍ كأنَّه جرمٌ سماويٌّ مضيءٌ، وأنا كوكبٌ معتمٌ مجذوبٌ إليه، يدور في فلكه، ذلك الحال الذي انحصر ما بين الابتسام والدموع، ما بين الوضوح والغموض، يسمع أصواتًا تناجيه خفيةً، ويرى أحيانًا ما نخفيه خلسةً، ويتنبَّأ بأمورٍ تقع كفلق الصبح، ممَّا دعاني إلى أنْ أجريَ مقارنةً بينه وبين الشيخ الطواف الذي نحن جميعًا في رحابه، ننعم جميعًا في خيراته وعطاءاته، ذلك الشيخ الجليل الذي قبض بكفِّه على يدي وكانت كلتا يدينا فارغتين فإذا بيدي تمرةٌ رزقني إيَّاها من حيث لا أدري، والأعجب من ذلك، عندما تناولتُها وحاولت أنْ أنزعَ النوى منها وجدت النوى عبارةً عن حبَّة فستقٍ، أجريت المقارنة، وأعلم مقدمًا أنَّها من أصعب المقارنات، ولكنِّي لم أكمل حيث أفتاني قلبي، وأخذ بناصيتي نحو الشيخ محمد المصري، فأصبحت خلوته مجلسًا لي أنا وزوجتي عبلة وأختها خولة، فكنتُ أجالسه في خلوته كلَّ ليلةٍ، وأنهل من علمه ويجود عليَّ بعطاءاته الربانية، وكانتا عبلة زوجتي، و خولة أختها يستمعان إلى المجلس من خارج الخلوة من ناحية القرية عبر تلك النافذة الضيِّقة بالخلوة، وكان من أوائل حديثه مع خولة قوله:
ـ آهٍ يا خولة عندما استرقت أذناي حروف اسمك تناهى إلى سمعي حديث خولة بنت ثعلبة وهي تعظ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "مَنْ أيقن بالموت خاف الفوت، ومَنْ أيقن بالحساب خاف العذاب"، وهو واقفٌ يسمع كلامها، فقِيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوزِ هذا الوقوفَ؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلَّا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوزُ؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سمواتٍ، أيسمع ربُّ العالمين قولها، ولا يسمعه عمر؟
وكانت استهلالةً قويَّةً، كانت الميثاق الغليظ الذي جمع بينهما، وذات ليلةٍ كنتُ قد غادرتُ فيها التكية لاقتناء بعض الكتب التي وصَّى بها الشيخ محمد المصري؛ للاستعانة بها في تحصيل العلوم التي تبرز الفطرة السليمة، وتنمِّي شجرتها بالوجدان، عقد الشيخ محمد المصري مجلسه، فوق سطح منزلي متَّخذًا من البدر في تمامه مشكاةً يضيء سناه مجلسهم العامر بالنفحات والعطاءات، وكان المجلس الحادي والأربعين بعد انقضاء مدَّة الخلوة، وسلبت خولة لواحظ الشيخ محمد المصري في هذا المجلسِ، وكأنَّه يراها لأول مرَّةٍ، وجذبه إليها لباسُها الطويل المغزول من الحرير المرقَّش، ذي اللَّونين الأخضر والأحمر، وأكمامها الواسعة الشفافة التي تكشف عن ساعدين كضوء المصباح في غرفةٍ مظلمةٍ، وخصرها الذي يعانقه حزامٌ من المخمل المزخرف بصفائح معدنيةٍ، وكراتٌ صغيرةٌ مجدولةٌ، تنزلق ثمَّ ترتاح على ركبتيها، ووشاحها الصغير المطرَّز بالفضة، والذي يبدو كتاجٍ فوق رأسها، وعنقها اللَّامع كالمرآة يعكس حقيقة جماله، وحليُّها المرصوص حول معصمها، والآخر المجدول فوق ناهديها، وهذان القرطان كنجمتين بأذنيها، وخصائل شعرها الزاحفة على عارضها، هكذا ظنَّتا عبلة زوجتي وخولة أختها، وقرأ عيني الشيخ محمد المصري على نحوٍ رانَ عليه ما يطلبه الرجل لنفسه من النساء، ولكنَّ الشيخ محمد المصري كان يتطلَّع إلى خولة بالحجاب الذي يحافظ على كلِّ هذا الجمالِ، ويحتويه كلؤلؤةٍ ناعسةٍ في محارها، فأومأ إليها قائلًا:
ـ رغم بروزك من الحصن، وتبرُّجك إلَّا أنَّك تتدثَّرين بالحياء، الذي أظهر كلَّ ما فيك من جمالٍ.
قالت خولة على استحياءٍ وعيناها شاخصتان في موضع قدميها:
ـ الحياء هو عرش المرأة المرصَّع بالياقوت والمرجان، بدونه تفقد المرأة تاج أنوثتها.
وتوالت المجالس كلَّ ليلةٍ أكثر من مرَّةٍ فوق سطح منزلي، واندلع الحبُّ بين الشيخ محمد المصري وبين خولة أخت زوجتي عبلة حبًّا أراه مختلفًا، حبًّا يداعب الروح والوجدان، كأنَّهما ملكان تحابَّا، حبًّا منزوعٌ منه الشهوةُ، خاليًا من المآرب، أحبَّته، نعم أحبَّته كشيخٍ يطعم روحها الجائعة، وأحبَّها، نعم أحبَّها كمريدٍ يعرج به سلَّم المقامات. رأته خولة في منامها يمتطي سحابةً بيضاء، تقلع من الأرض، وهي تهرول نحوه، ويمدُّ الشيخ محمد المصري يده إليها، ويلتقطها من الأرض، ويرفعها على متن السحابة بجواره، وتعرج بهما السحابة طبقاتِ السماء، ولم تلبثْ أن قصَّت عليه رؤيتها، فتبسَّم ضاحكًا، ثمَّ تمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، كأنَّه يتحدَّث مع أحدٍ لا نراه، ثمَّ قال بوضوحٍ:
ـ هو كذلك.
كأنَّها إجابةٌ لسؤالٍ طُرح عليه لا ندري مصدره، ولم يفتر يردِّد، هو كذلك.. هو كذلك.. نعم، يا سيِّدنا. نعم.. نعم.. كذلك.. كذلك، ثمَّ تولَّى بوجهه نحو خولة، وانفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ عريضةٍ، ثمَّ أغمض عينيه بشدَّةٍ، وعبس قليلًا، ثمَّ انهمر في البكاء، ثمَّ أخذ يقلِّب وجهه في السماء، وهو يزمُّ شفتيه، وفي الأخير تلفَّظ بكلمةٍ واحدةٍ:
ـ الجائزة.
ثمَّ أردف قائلًا:
ـ يكافئني ربِّي، أراني فيك نصيبي وقسمتي.
ثمَّ همهم قائلًا:
ـ رضيت يا ربّ.

** ** **
الشيخ الطواف

عبَّر الشيخ محمد المصري عن رغبته في الزواج من خولة بتلك الصورةِ، وكأنَّه إلهامٌ تلقَّاه، كوحي أمِّ موسى عليه السلام، وهذا النمط الذي يغشاه من الحين إلى الحين، ألفناه واعتدنا عليه، فهو صاحب حالٍ لا ينكره إلَّا جاحدٌ، وألزمت خولة نفسها الصمت، في حين ضحكت زوجتي عبلة حتَّى ظهرت نواجذها، وتبسَّمتُ أنا قائلًا:
ـ السكوت علامة الرضا،
ثمَّ أردفت قائلًا:
ـ بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.
هكذا طافت الفرحة علينا جميعًا، ولم نكن نعلم بأنَّ الشيخ الطواف طلب خولة لابنه الأوسط، ولا كنَّا نعلم بأنَّه قرأ فاتحتها في الحضرة البارحة، ويعدُّ ذلك في عُرْف التكية تكريمًا لخولة وأهلها، وعطيةً لا تردُّ، واحتدم الصراع بين الشيخ محمد المصري والشيخ الطواف، واشتدَّ وطيسه، عندما بارز الشيخ محمد المصري الشيخ الطواف بحقيقة حبِّه لخولة وحقيقة حبِّ خولة له، وكان الشيخ الطواف يجلس فوق كرسيه بوسط التكية في مجلسه بعد صلاة العشاء، والتكية مكتظَّةٌ بالمريدين، ولم يكتفِ الشيخ محمد المصري بمجرَّد أن يجهرَ بالحبِّ الذي اندلع بينه وبين خولة وكأنَّه جهر بكبيرةٍ من الكبائر، ولكنَّه شقَّ جدار الرهبة الذي يتحصَّن به الشيخ الطواف بتلك الكلمات:
ـ استقمْ كما أُمرت، وليس كما رغبت.
فتصدَّع جدار هيبته، وغضب الشيخ الطواف غضبًا شديدًا، واستحال حلمه إلى حممٍ مستعرةٍ، وانتفخت أوداجه، وألقى عصاه على الأرض بقوَّةٍ، فأحدثت هزيمًا كهزيم الرعد، ثمَّ وثب من فوق كرسيِّه واقفًا، وجذب إليه طرف عباءته وشدَّ به خصره النحيف، وانتفض كلُّ مَنْ في التكية واقفًا، كأنَّه يومُ الحشر، وهرولت أنا أيوب الذي ضعضعه الخوف نحو العصا والتقطتها من فوق الأرض، فتناولها منِّي الشيخ الطواف بقوَّةٍ وصوَّبها نحو الشيخ محمد المصري، واتَّجه نحوه في خطٍّ مستقيمٍ، بخطواتٍ منتظمةٍ، ثمَّ وكز الشيخ محمد المصري بالعصا، وكأنَّه يرميه بها، وفي هذه اللَّحظة شعرت بضآلة الشيخ الطواف الذي لم يكظم غيظه، وحرَّرته ثورة الغضب من حِلمه، فبدت سوءته، ولم ينتبه، ولم يحاول أنْ يسترَ عورته، بل تمادى في غضبه، وروع آمنًا، واستمرَّ الشيخ الطواف في غضبته كماءٍ يغلي في قِدرٍ محكم الغلق إلَّا من متنفَّسٍ يخرج منه سيلٌ مستعرٌ، وتحدَّث بصوتٍ صرصرٍ قائلًا:
ـ الآن يا مصري حرَّرت بيدك وثيقةَ وفاتك من هذه التكيةِ.
ثمَّ ارتعد قائلًا:
ـ اخرجْ منها مطرودًا مذمومًا. ثمَّ تنهَّد الشيخ محمد المصري وابتلع ريقه وأشرق وجهه، ولبث قليلًا يتأمَّل كلَّ الوجوه التي في التكية:
ـ الآن فقط حرَّرت وثيقة مولدي، إنَّما طُرد آدمُ -عليه السلام-من الجنَّة، لينفِّذَ الإرادة الإلهية في إعمار الأرض.
وانسدل الستار على هذا الصراعِ بمغادرة الشيخ محمد المصري التكية، وإيابه إلى وطنه منفردًا كما جاءنا منفردًا بعد أن أودعني تلك الحقيقة:
ـ لكي تبلغ الذات، اترك الذات.


0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.