tafrabooks

Share to Social Media

تبدأ قصة كفاح دكتور فارس في منتصف سبعينيات القرن الماضي
بقرية كفر الصالحين، وهي قرية بجنوب الصعيد محافظة أسيوط تطل على نهر النيل بها عشرات المقامات والأضرحة لأولياء الله الصالحين، وهم في حقيقتهم لا أولياء ولا صالحون، ومعظمهم من نسج خيال أهلها أو كما يطلقون عليهم أصحاب الكرامات، بل إن هناك أولياء لازالوا على قيد الحياة يقدسونهم، وحكوا عنهم العديد من القصص فهذا من تراب المقام يعالج العقم، وهذا من قطرة القنديل لتصحيح البصر، وتلك تعالج الشلل، وهذا للزواج، وهذا
لعلاج الغضروف وذلك بلمسة يده يعالج كل الأمراض المستعصية، وكلما زَادَتْ القصص زادَ ثراء القرية بسبب الموالد والزوار وأعمال السحر والشعوذة، ويأتيها الناس من كل المحافظات من أول
الإسكندرية حتى أسوان.
فالقرية بها فنادق وشقق مفروشة، ومطاعم بكل المستويات، وكافيهات وقهاوي والتجارة بها رائجة لكل ما هو مشروع وغير مشروع من مخدرات وتجارة الآثار، والبحث عنها وبلطجة حتى الدعارة لها بيوت مخصصة لها ذات الرايات الحمراء يذهب إليها كل من يبحث عن المتعة المحرمة.
فالوحوش ليست كائنات تعيش بالغابات أو تظهر في الكوابيس أو في ظلام الليل فحسب، ولكنها أيضاً تتوغل في عمق النفس البشرية.
تعيش في كيانه. وعلى الجانب الآخر (الصالحين) هم من عاشوا لنشر السعادة والابتسامة بين البشر بكل ما أوتوا من علم وعمل. أملهم الوحيد هو الرخاء والنماء للإنسانية جمعاء دون تمييز.
ومن رحم الألم يولد دائماً الإبداع.
فالنهار ليس نهاراً إلا بالضياء.
والورد ليس ورداً إلا بالعبير .
والبحر ليس بحراً إلا بالأمواج.
وكذلك الإنسان... ليس إنساناً إلا بعقله وفكره والجانب المتسامي منه... الجانب الذي يفيض بالعطاء والإحسان... والخلق والتدين.
وتنقسم القرية إلى ثلاثة عزب فهذه عزبة الأمراء، وكانت بالماضي البعيد يطلق عليها عزبة المساخيط كان يقطنها بنو إسرائيل، ودريس كان أعظم كاهن في عصره، ولكنه كاهن باع نفسه للشيطان، وكان يطلق على أبنائه بني إبليس فهم عبيد للشيطان ومنفذي مخططاته بكل إخلاص، وتقول الأسطورة أنهم تحولوا إلى ثعابين تلدغ بعضها البعض حتى ماتوا جميعاً.
والآن يقطنها أثرياء القرية من تجار الآثار والمخدرات والبلطجيه والمشعوذين وأبنيتها أبراج وفِيلاّت بل قصور أيضًا وفنادق ومطاعم على أعلى مستوى.
وهي تأخذ شكل مستطيل كأنها الجزيرة تحيطها أشجار الموالح والمانجو والعنب والرومان، وعليها نقاط حراسة وكلاب مدربة تمنع دخول غرباء إلا بعد التفتيش الذاتي.
أما المنطقة الثانية فهي عزبة الموظفين فبيوتها من دورين أو
ثلاثة من الطوب الأحمر، وسكانها مهندسون وموظفون ومعلمون، وطلاب وهم أناس طيبون مسالمون، وفي حالهم ومتوسطي الحال.
والمنطقة الثالثة فهي عزبة العمال ببيوتهم وأثاثها متواضع. وينتشر فيها الفقر والجهل والمرض، ومعظمهم يعملون عند الأثرياء كعمال أو خدم أو مزارعين بالأجر يذوقون منهم الذل والهوان .

القرية يسير في شوارعها أحدث السيارات وأيضًا عربات الكارو المتهالكة.
بها أبراج عشر وعشرين دور ومصاعد كهربائية، وشقق كل غرفة بها تكييف وشاشة تلفزيون وأيضًا هناك بيوت مبنية من طين يبيت فيها البشر مع المواشي والطيور في مكان واحد.
قرية الصالحين كلّ شيء وضده فيها الجمال وفيها القبح، فيها الخير وفيها الشر، فيها الخلوق وفيها البلطجي، فيها التديّن وفيها الشرك، فيها الثراء وفيها التسول.
ووسط هذا الكم من الغنى يوجد بعض سكانها متمسكين بالطين،
والزراعة، والأخلاق والدين، ومنهم الشيخ فاروق مقرئ القرية والقرى المجاورة أيضًا ومحفظ للقرآن بالكتاب لأطفال القرية مُنْذُ سنين، وإمام للمسجد يخطب لهم ويصلي بهم، تعدى السبعين من عمره وحفيده هو فارس ابن ابنته تظهر عليه علامات النبوغ منذ نعومة أظافره. حفظ القرآن كاملً وهو في الخامسة، والأحاديث النبوية وهو في الثامنة من عمره، ووالدته كانت دائمة التشجيع له، وتحفزه فهي أيضًا حافظة للقرآن وسيدة محسنة لأبعد الحدود رغم فقرها.
وفي يوم جمعة وبعد الصلاة وكعادتها مع ابنها جلست أم فارس تشرح له سورة الكهف وتتحدث معه عن العبد الصالح الخضر، وأن قدر الله نافذٌ لا محالة، ولله حكمةٌ لا نعلمها بأقداره -سبحانه وتعالى-
ومن قصة موسى مع الخضر بدأت تقول له:
لم يكن موسى متعالياً على الناس يوماً مع أنّه نبي ومما يدل على ذلك لقاؤه الخضر، وتحمّله الكثير من التعب من أجل الوصول إليه وأهمية البحث في طلب العلم فقد رحل الأنبياء في طلب العلم مع الاعتراف بأنّ الله- تعالى- الأكثر علمًا، ويجب إجلال أهل العلم وخدمتهم، وكذلك الحثّ على قبول عذر الناس، وبيان أنّ ذلك من خصال الصالحين. وينبغي على المعلّم أن يصبر على تلميذه صبر الخضر على موسى، ولا تنسَ أبدا قول: «إن شاء الله» لمن أراد القيام بفعلٍ معينٍ بدليل قوله تعالى:
«وَلا تَقَوَّلْنَ لِشَيءٍ إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا إِلّا أَن يَشاء اَللَّه وَاذكُر رَبَكَ إِذا نَسيتَ وَقُل عَسى أَن يَهْدِينَ رَبّي لِأَقرَبَ مِن هذا رشدا».
وأن قدر الله واقع لا محالة، ولا يعلم حكمته إلا الله.
وفجأة تميل رأس أم فارس للخلف ينظر إليها ابنها وظن أنها نامت حاول أن يوقظها لكي تذهب إلى فراشها.
ولكنَّها لم ترد عليه بدأ يبكي وهو لا يعي ما حدث.
وبدأ صوته يعلو ويصرخ وينادي عليها. سمعته جارة لهم والتي رأت أم فارس على هذه الحالة هرولت إلى طبيب الوحدة وأحضرته للكشف عليها وبعد الكشف قال لهم بصوت منخفض وكله حزن: "البقاء لله إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"

سأله الشيخ فاروق بعد أن تمالك نفسه قليلًا أن يكتب شهادة الوفاة.
الطبيب كتب فيها أن سبب الوفاة هبوط بالدورة الدموية وسكتة قلبية.
حينها لم يفهم معناها فارس كيف يسكت القلب فجأة احتضن أمه بشدة، وأخذ يحدثها ويحدث قلبها لعل قلبها يتحدث بعد سكوته.
هكذا تخيل وظل يحضنها ويناديها
حتى بعد تغسيلها وتكفينها حضن فارس الكفن ولا زال عنده أمل أن قلبها الساكت هذا سيتحدث وتعود للحياة .
وتشبث بالكفن، وأخذ يصرخ اِدفنوني معها لن أترك قلبها يسكت.
أخذه جده في حضنه وقال له: "يا بني إنه قدر الله وسنتقابل جميعًا بالجنة وهي الآن بالسماء، وما عليك إلا أن تكون ابن صالح يدعو لها وتحقق لها حلمها أن تكون داعية مثل الشيخ الشعراوي أو شخصاً نافعاً للإنسانية"
كان يعاتب أمه كثيرًا مع سكون الليل لتركها له وحيدًا، وعند نزول المطر يتخيّل أن هذا الماء دموع أمه تبكيه وتريده لكنها لا تعرف الطريق، وينادي عليها وهو وسط المطر وتبللت ملابسه وينظر لسحب السماء ويقول: أنا هنا يا أمي.
تسمعه خالته وتأخذه لبيتها بعيد عن المطر، ويتناول الطعام مع
(صلاح) ابن خالته وينام بجواره.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.