tafrabooks

Share to Social Media

إنَّه "نوريس"، ذلك الطفل الذي حَيَّر والداه بسبب فضوله. بدأ الأمر عندما منعه والداه- وهو في سن العاشرة- من الاقتراب من عالم البشر. حيث يكبر كل جني على معرفة تلك القوانين الصارمة والتي كان يتبعها الجميع دون مخالفتها؛ فلم يكن أغلب الجن يكترثون لوجود عالم آخر أو عدمه، كلٌ في حياته الخاصة وانتهى الأمر، لكن "نُورِيس" لم يكن كباقي الجن، بل انطبقت عليه مقولة "الممنوع مرغوب". شغَل الأمر تفكيره منذ اليوم الأول الذي علم فيه بوجود عالم آخر يعيش فيه أشخاص آخرون حياة مختلفة. عندها أكثر التحري والبحث عن كل معلومة قد تخص البشر وعالمهم الغريب، وأصبح هذا الأمرُ شغله الشاغل. ظلت الأسئلة تدور برأسه، لمْ يمنعه والداه من مخالطتهم؛ بل لمْ تمنعه قوانين الجد الأكبر من مجرد الاقتراب منهم، ولم تستطع كل تلك التحذيرات من قتل فضوله بشأنهم. كان يعرف حقيقة أنَّ تعويذة الجد الأكبر تمنعه من الظهور لهم، فهم لا يرونه أو يسمعونه ولا يستطيع اختراق التعويذة والتعامل معهم. لكن لا يوجد قانون يمنع التجول هناك؛ فلا أحد يراه ولا يسمعه على أيِّ حال. لذلك قام "نوريس" لأكثر من مرة بالانتقال إلى عالم البشر سرًّا، وقد أذهله أنها لم تكن مجرد أساطير وأن هناك حقًا أشخاصًا آخرين يعيشون حياة مثل حياتهم هناك. أعجبه الأمر كثيرًا حتى أصبح يقضي معظم وقته - إن لم يكن كله- في مشاهدتهم. يتابع أحداثهم، وسعادتهم، وأحزانهم وكل ما يتعلق بهم بالرغم من ممانعة والداه. مضت به السنواتُ يوازن بين حياته في عالمه وحياته الخفية في عالم البشر. كان يشعر بالمتعة؛ حيث لا يراه أحد أو يسمعه بينما باستطاعته رؤية الجميع وسماعهم. وها هو الآن في العشرين من عمره وما زال يستمتع بجولاته بينهم، أصبح يُطيل المكوث ويكثر الجولات. كانت كل جولة في مكانٍ جديدٍ بمنزلة مغامرة جديدة. وبالطبع لم يكن والداه يعلمان عن هذا الأمر، نعم كانت والدته توبخه في كل مرة تعلم فيها أنه ذهب إلى هناك، وكانت دائمًا تذكره بعواقب مخالفة التعويذة، فتظل تعيد على مَسمعه تلك العبارات التي حفظها عن ظهر قلب. لم تكن تعرف يومًا أنه يتجول بهيئته الخفية في أزقة المدن وطرقها، ويجلس على الأرصفة، وأمام البيوت يتابع أحاديث الجيران ولهو الصِبيان. وبعد جولة أخرى طويلة في طرقات عالم البشر، عاد إلى منزله ودخل بعد أن حرص على إغلاق الباب بهدوءٍ حتى لا يسمعه أي من والديْهِ، نعم لقد تأخر اليوم أيضًا عن موعد عودته. في البداية مرَّ الأمر بسلام ولم يجد من ينتظره عند الباب، ثم وبهدوء أكمل طريقه إلى غرفته، لكن صوت نداءِ والدته قطع الصمت الذي كان يعم المكان، ومع لفظ حروف اسمه توقع سماع الخطاب اليومي المعتاد! لكن اليوم كانت تناديه بهدوء- عكس العادة- فالتفت إليها فأخبرته أنها أرادت التحدث معه. تعجب "نوريس" من لهجتها الجادة وجلس في صمت بلا مشاحنات فقط ليسمعها تحدثه قائلة:
- عزيزي "نوريس"، سأخبرك اليوم أمرًا مهمًا عليكَ معرفته.
- أهو بشأن عالم البشر؟
- أعلم ما يمثله بالنسبة إليك، وأعلم أنك بتَّ تذهب هناك كثيرًا، لكن اليوم سأخبرك بشيء لم تعرفه من قبل. ألم تتسائل قط لِمَ نمنعك من الاقتراب منه؟ لِمَ نحن في غاية الخوف عليك هناك؟
- أخبرني أبي في صغري بأني أشكّلُ خطرًا هناك.
- ليس هذا كل شيء. اسمع يا بني، جدك الأكبر كان مهتمًا بهم مثلك تمامًا، كانت حياته حزينة وبائسة، وكان يكره الجن كثيرًا، لم يكن له أصدقاء أو عائلة، نبَذه المجتمع وأصبح مكروهًا. لذا قرر أن يختلط بعالم البشر ويتظاهر بأنه بشري، لعله يجد هناك حياة أفضل من كره الجن. بمجرد أن بدأ العيش هناك حتى اعتاد الحياة، كان يعرف بالفعل كيف تسير الأمور في ذلك العالم، لكنه لم يستطع التعامل حقًا. في بداية الأمر كان سعيدًا، تعرَّف على بعض الأصدقاء وتقرب أحدهم منه كثيرًا. كانت علاقتهما جميلة وكان يساعده على الاندماج في المجتمع، أوجد له مكانا للعيش وعملًا، شعر حقًا بأنه كان عوضًا له وكان يشكر الله بداخله على انتقاله لعالم البشر والتقائه بصديقه الوفي. كان يستمتع باختلافه الذي لم يعلم بشأنه إلا هو، ويتجول في الطرقات ويرى ما كان يسمعه من أحاديث حقيقية ملموسة، لكن في يومٍ من الأيام حدثت مشكلة بينه وبين أعز أصدقائه، نعم ذلك الصديق الذي كان السبب في كل خير أصابه، لكنه وبالرغم من الساعات والأيام التي قضاها يراقب البشر لم يكن يعلم أن المشكلات عندهم لا تنتهي! كان يعتقد أن الحياة بسيطة كما هي في عالم الجن، وأن مشكلة ليست نهاية العالم. احتد الأمر بينهما، وحالما أصبح جدك الجني في قمة غضبه أطلق طاقته! أتعلم أن قوة الجن مهولة بالمقارنة مع حياة البشر البسيطة؟ هم مثلًا لا يستطيعون الطيران، أو قراءة الأفكار، أو التحكم بالأشياء عن بعد، أو حتى الاختفاء.
- مهلًا هل يمكننا فعل كل ذلك؟!
- ليس في عالمنا هذا، تظهر هذه القدرات فقط عندما ينتقل أحدنا إلى عالم البشر، كان جدك سعيدًا بها كثيرًا. لكن لم تكن بتلك الروعة عندما كان غاضبًا.
- وماذا حدث؟
- لم يتناسب غضب جدك مع غضب صديقه البشري، كان جدك أقوي بكثير ومع غضبه لم يتحكم في تلك القوة، وتحولت إلى لعنة يتحكم بها غضبه، وفجأة اختفت هيئته البشرية وظهر على شكله الطبيعي كجني أمام صديقه، كاد الفزع يُفقد صديقه وعيه، لكن جدك لم يشفق عليه بل نسي صداقتهما وكل ما فعله صديقه من أجله ثم ...
- ثم ماذا!
- قضى الجني على البشري بما يفوقه من قوة، لم يستطع البشري حتى الدفاع عن نفسه. انتهى الأمر في غمضة عين. لم تكن المشكلة كبيرة لذلك الحد الذى يجعلها تنتهي بهذه الطريقة، لكن انفعالات الجن في عالم البشر أكبر بكثير من حجمها. وعندما ذهب عن الجني الغضب، شعر بحجم خطئه وكمّ الحزن الذي اعتراه، شعر بالندم الشديد فقام بترك عالم البشر إلى الأبد، وفضَّل عالم الجن الملئ بالكره على ذلك الذي يجعله يقتل أحدًا برئ، عاد بخيبة أمله، وحزنه، وبقلبه المكسور، تمامًا كما رحل! علم جدك أنه لا مكان للراحة وأننا خلقنا في الحياة لنُمتحن، وقرر أن يُكمل حياته التي لم يشعر بأي لحظة سعادة فيها بسبب حزنه وندمه، وظل طوال عمره يتمنى أن يعود به الزمن ليصلح خطأه، فأمضى سنوات عمره يتعلم أمور السحر والتعاويذ حتى يجد طريقة يُبعِد بها الجن عن عالم البشر. وأصرّ على إخفاء أمر القوى التي حصل عليها عند عبوره هناك، فقد علِم أنه إن أخبرهم سيكون هناك الكثير من الطامعين بهذه القوى وأفنى عمره في ذلك الأمر، وعندما كان على فراش الموت جمع أبناءه حوله، وكانت وصيته الوحيدة لهم هي عدم الاقتراب من عالم البشر، لكنه لم ينتظر منهم أن يوافقوا أو يرفضوا بل وضع تعويذة! حاجزٌ يفصل بين العالمين لا يخترقه أحد. لم يرد أن يُكرر أحدٌ ما فعله. لذا يا بني لا نريدك أن تذهب إلى هناك. ليس لخوفنا على أذيتك، بل لخوفنا أن تؤذي بريئًا. هل تفهمني يا عزيزي؟
- بعد كلام والدته لم يجد "نوريس" ما يقوله، نظر لها في صمت، ثم نهض باتجاه غرفته، وظل يفكر، هل حقًا لو تبادل هو الأدوار وانتقل لعالم البشر أكان ليقتل صديقه المقرب؟ ماذا لو كان هذا خطأ الجد وحده. ربما هو وحده من لم يستطع السيطرة على غضبه، ربما يكون الأمر مختلفًا إن كان هو في مكانه. لم يجد حلَّا لتلك القصة سوى أنَّها زادته رغبةً في تجربة تلك القصة مع لمسته الخاصة، ليثبت بأنه مختلف ربما يصلح هو تلك النظرة ويثبت لعائلته بأنه يستطيع السيطرة على مشاعره وانفعالاته في ذلك العالم. وفي لحظة متهورة، ترك غرفته بل المنزل كله واتجه صوب عالم البشر ضاربًا بحديث أمه وقوانين عالمه عرض الحائط.
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.