"مملكة الجود"
أفاق إياد من إغماءه؛ ليجد نفسه في سوق كبير وأناس غرباء يرتدون من كل الألوان، يرتدي الرجال جلباب قصير مزركش، بالعديد من الألوان وبنطال من نفس لون الجلباب، أما النساء فيرتدن فساتين منقوشة زاهية، كانوا غرباء ويشبهون بعضهم كثيرًا، مما أثار دهشته وهو يتساءل يا تري نحن في أي عصر؟
جاء الرجل الذي شاهده إياد بالأمس قبل أن يفقد الوعي سأله بخوف: أين أنا، ومن أنت؟ قال له الرجل ببرود: بالمناسبة اسمي هو ذمروش ولا أحد يستطيع رؤيتي سواك.
فغر اياد فاه من الدهشة؛ فجاوبه الرجل:أنت هنا في مملكة الجود، هذا المكان في قلب المملكة، وهذا السوق يقام كل خمسة أيام يقوم الأهالي ببيع كل ما فاض منهم ويتبادلون التجارة.
كان عقل إياد مشوش وسؤال يلح عليه بشده أين اصدقائي؟ قالها بصوت اشبه بالهمس أجابه الرجل: يجب أن أوضح لك أنك أتيت إلی هنا باختيارك، ويجب عليك أن تقوم بمهمتك التي تبدأ من الآن لتساعد من في هذه المملكة، وتقوم بعمل يفيد البشرية وإذا لم تنجح في اختبارك فإنك ستسجن هنا وإلى الأبد، ولم يستطع أحد مساعدتك وأعلم أن أصدقائك مثلك.
ترنح إياد هو ينهض ثم كاد أن يسأله فلم يجده، اختفي كأنه من العدم تخبط في افكاره وحيرته، وفي ما علمه للتو من هذا الرجل الذي لم يراه أحد غيره، أخذ يجول في المدينة العجيبة على غير هدى، وكل واحد من هؤلاء الناس مشغولًا في ما يقدمه من أعمال، وما يعرضه من بضائع، لم ينتبهوا له على الإطلاق أخذ يتجول في المملكة، ويتأمل البيوت التي تحتوي على طابق واحد أو طابقين، ملونه بأزهى الألوان مما أعجبته وبشده البيوت متراصة بجوار بعضها البعض بنفس الألوان المزركشة والزهور الفواحة تعبق المكان برائحة عطرة، كان السوق بجوار المنازل من الناحية الغربية فأخذته قدماه؛ لاستكشاف المكان أكثر سار من أمام المنازل إلى الداخل حيث قل ازدحام السوق وصخبه، توجه إلى الداخل لمح بحيرة علی بعد خطوات منها قصر مهيب تعلوه قبب مدببة، وعدد كبير من الشرفات والنوافذ، وعلى الجهة الأخرى غابة كبيرة لم يتسنى أنه رأي مثلها من قبل.
كانت الشمس تعكس أشعتها الذهبية على الأرض؛ فتعطي دفئ محبب للنفس عكس الصحراء الباردة، تغطي أشجار الكافور كل مكان في المملكة، والورود تُزين المكان كأنها صنعت خصيصًا؛ لتُضفي البهجة على المكان وزهرة اللوتس الفواحة برائحتها العطرة، ذهب إلى السوق مرة أخرى، لا يدري أين يذهب، وما الشيء الذي عليه فعله في ذاك المكان الغريب. انتبه له الناس وكانوا ينظرون له بتعجب ومن ملابسه الغريبة بالنسبة لهم، وقع نظره علی شاب يسترق النظر إليه خلسة؛ فذهب إليه وقال له بشيء من الود: مرحبًا، اسمي إياد. نظر له الشاب ولم يُعيره أي اهتمام انتبه إلى الشاب الذي تجاهله، كان قصير وقوامه ممشوق له عينان حادتان كالصقر، انتظر إياد قليلًا، يعلم أنه لن ينتظر منه رد، عندما اتجه ليذهب سمع صوت يقول: مرحبًا أنا أشتون. ومد يده ليُصافحه فصافحه إياد بارتياح: كنت أود أن أطرح عليك بعض الأسئلة أنا غريب و..
قاطعه اشتون بإشارة من يده، انتظر قليلًا، لأنتهي من عملي، وسأذهب معك. أومأ برأسه موافقًا، ثم ذهب ليتفقد أحوال أهل المملكة العجيبة.
كان الملك ميسور يجلس في قصره أمام حاشيته ومستشاريه ووزيره أمرد يناقشهم في موضوع هام: يجب أن نستورد التوابل من مملكة أمشور؛ فهم بارعون فيها يا مولاي.
قالها وزيره ومستشاره أمرد الذي يستعين به الملك في جميع قراراته.
قال الملك بحزم: لن نستورد أي شيء نحن نصنع كل شيء بأنفسنا.
قال له أمرد: ولكن يا سيدى.. قاطعه الملك بحزم: أمرد لن أوافقك الرأي اذهب الآن وأتى بكل العطارين من المملكة لأناقشهم بالأمر.
أمرد بيأس: أمرك يا مولاي.
" الحل"
انتهی إياد من تجواله ووقف أمام البحيرة يتأملها سارحًا بخياله في أصدقائه
- يا تری أين هم الآن؟
سمع هسيس من خلفه، نظر فلم يجد أحد، عاود النظر إلی البحيرة، وجد صورة ذمروش علی الماء بملامحه المخيفة
- ذمروش أين كنت؟ بحثت عنك ولم أجدك!
- ستجدني
- وكيف سأجدك؟
- عندما تفكر بي.
صمت قليلًا ثم عاود النظر في البحيرة، لم يجده فغضب عليه كثيرًا وألقی بحصا في البحيرة، سمعه أشتون وهو قادم إليه
- ماذا حدث لك يا إياد، هل أنت بخير؟
إياد بارتباك: نعم، ولكني مُتعب قليلًا
- ما قصتك، وما هذه الملابس الغريبة؟
تنهد وحكی له القصة كاملة عندما تعطلت بهم السيارة إلی أن قابله في السوق، أصغي أشتون لما حكاه إياد في ذهول وحيرة: ولكن كيف حدث هذا؟
إياد وهو يجلس تحت شجرة بلوط وارفة كبيرة ليستظل بظلها: هذا السؤال الذي أتمنى أن أجد له إجابة، كيف جئت وماذا أفعل، لا أعرف.
جلس أشتون بجانب إياد ووضع يداه علی كتفيه: لا تقلق، سنجد لك حل يُعيدك إلی عالمك أو بلدتك، لكن إلی أن يئن الأوان لذلك عليك أن تتأقلم هنا، لكي تستطيع أن تعيش.
رأی أشتون الحيرة علی وجه إياد فقال بهدوء: أعني أن تعمل لتعيش هنا، لا حياة بدون عمل.
المملكة هنا تقدر من يعمل، أما من لا يعمل لا يستحق الحياة.
- من أين لي بعمل الآن؟
فكر أشتون قليلًا ثم قال: تعال معي
أخذه إلی بيته الذي يقع بالقرب من السوق، اقتربا من منزل بسيط مكون من طابق واحد ملون، أمامه حديقة صغيرة تحيط بها زهور تزين المكان ،وأعشاب لا يعرف كنهها.
كان البيت مرتب ونظيف لا يخلو من لمسة أنثوية.
- أعيش وحدي في المنزل، إن أردت أن تمكث معي هنا إلی أن تجد عمل
- لا أحد يعيش معك هنا
- لا
- لكن هذا البيت نظيف ومرتب يدل علی يد ماهرة و..
اشتون: نعم، أمي تأتي يومًا واحدًا من كل أسبوع تنظفه وتذهب.
- إلی أين، ولماذا لم تعش معك؟
أشتون وهو يخلع سترته: قوانين المملكة، عندما يبلغ الابن يعطوه منزلًا، ليستقل عن أهله، هي تعيش مع اخوتي إلی أن يستقلوا بدورهم
إياد: كل يوم أكتشف أشياء أغرب من سابقتها في هذه المملكة.
أشتون: لا يهم الآن، اعتبر أن البيت بيتك.
إياد: ولكن
أشتون: عندما تعمل سيعطونك منزل أيضًا، قلت لك أن العمل أهم شيء في المملكة، الآن استريح
هز له رأسه بالإيجاب.
توقف حارس الملك ميسور أمام منزل أشتون ففتح له وإياد بجانبه
نظر الحارس بدهشة إلی إياد وملابسه
قطع عليه أشتون حبل أفكاره، قائلًا له: كيف حالك يا جاد
جاد: بخير، الملك ميسور أرسلني إليك وإلی كل العطارين بالبلدة، جئت لأُخبرك
أشتون: لا تعرف لماذا؟
جاد بتأفف: لا أدري، تعال معي لكي تعرف
أشتون: انتظر لحظة.
فأغلق الباب عندها سأله إياد بتعجب: لما أرسل الملك إليك
انهمك أشتون في البحث عن ملابس أنيقة تناسب تلك الدعوة
لا أعلم سأذهب وأری !!
"ملك العطارين"
وقف أشتون مع جميع العطارين الذين امتثلوا أمام الملك الصارم الذي قال لهم بحزم: أهناك عجز في التوابل والأعشاب البرية؟
رد أحد العطارين يُدعی عموري: يوجد عجز في عشبة القرنفل.
جلس الملك ومستشاره أمرد متسائلًا: هذه العشبة ضرورية لصناعة دواء السعال، يجب أن تكون وفيرة.
كان العطارين في هذه المملكة بمثابة أطباء، فهما الذين يقومون بدمج الأعشاب وتجربتها ليستنتجوا دواء للأمراض المزمنة التي تكتظ بها المملكة ويُعاني منها الناس
إلی الآن قاموا باكتشاف دواء فعال للسعال بدمج عشبة القرنفل مع أعشاب أخری، وشجر الجوافة، ودواء للربو والطفح الجلدي وعلاج آلام الأسنان باستخدام الأذخر وهو نبات عشبي له أغصان كثيرة
وقف الملك أمام أشتون الذي انحني، قائلًا له: وأنت يا أشتون ما هي مشكلتك؟
أشتون وعيناه أمامه في الأرض: لا توجد مشكلة أيها الملك.
سر الملك لسماعه ذلك: إذًا لا توجد مشاكل في عطارتك!
- سوف أحل كل شيء لا تقلق جلالتك، ولكن لي طلب إذا سمحت لي.
تنحنح أمرد ولكن بإشارة من الملك أسكتته: لك ما شئت
- يوجد شخص ماهر في العطارة أريده أن يعمل معي.
- إذا أثبت كفاءته، فلا توجد مشكلة
أشتون بحماس: جربه إذًا
- أرسله لجاد كي يرسله إلی مجمع العطارين
كان العطار الجديد في المملكة يُرسل إلی مجمع العطارين، كي يبقي فترة تدريب وتأهيل ثم وجوده مع عطار ماهر فترة بعدها يفتح عطارة ليستقل بنفسه عندما يتمكن من المهنة
مجمع العطارين يشبه إلی حد كبير سكن الطلاب في جامعته ينقسم إلی ثلاث أقسام مباني كبيرة يسكن بها التلاميذ المتدربين
ومبنى يقيم فيه الطلبة المُتأهلين، وهناك مبنى أخر صغير يقيم فيه ملك العطارين الذي يعلمهم أصول المهنة تحت إشراف الملك ميسور كانت الأعشاب مزروعة في كل مكان، وكل مبنى يحوي حديقة كبيرة يزرعون فيها كل شيء من النباتات بجميع أشكالها وأنواعها،
وصل إياد إلی مبنى ملك العطارين الذي عرف أن اسمه ناسك، يُطلق عليه لقب ملك العطارين، نظرًا لأنه المسئول عن تدريب الطلبة وهو الذي يُرشح لهم عطار ماهر يُعلمهم.
لاحظ إياد أن المجمع لا يتواجد فيه نساء، وعندما سأل أشتون قال له "هذه المهنة للرجال فقط، أما النساء فكانت مهنتهم الخياطة والطبخ والأعمال اليدوية"
سار وراء الوجيه الذي يخدم ناسك إلی أن وقف أمام ممر طويل له ردهة واسعة ثم باب مذهب بمزلاج حديدي ضخم، فُتح ليجد أمامه رجل ممتلئ القوام، له شارب كث، خط الشيب مقدمة رأسه، أشار له أن يدخل معه، بعدها قدم له شراب قرمزي اللون، غريب الشكل والطعم، أخذه وقربه من شفتاه ثم رشف رشفة صغيرة تقززت له خلجات وجهه، ثم بصق في كوب أخر كان ممدود له نظر له ناسك قائلًا بحزم: أكمل الكوب
- الشراب طعمه مُقزز.
- إنه دواء لكل داء، ستتعود عليه
- هذا أغرب مشروب شربته في حياتي.
- هذا هو بيت القصيد، إنه يمنع تشتت الذهن، وسيكتشف ما بك من أمراض، ثم جاء الوجيه إلی ناسك، فأشار له الأخير بأخذ الكوب، وضع الوجيه بالكوب أداة تشبه المحقن ثم خرج بعدها جاء الرجل ومعه كُتيب صغير أعطاه لناسك الذي تناوله لينظر فيه برضا.
نظر إليهم وعلی وجهه أعتی علامات الغباء فتساءل بحرج، جلس ناسك قبالته وقال: أنت محظوظ لا تعاني من أي أمراض
في عينيه تساءل عن ما فعلوه قرأه ناسك مُردفًا: الشراب الذي أعطيناك إياه هو دواء أعشاب مُختلطة تشربه ثم تبصقه فنحلله لنعلم بك علة أم لا، حيث أن من يصنع الأدوية يجب عليه أن يكون سليم مُعافى.
إياد: كيف؟
- بالمحقن، عند تحوله للون الأخضر معناه أنه ليس بك شيء
أما عندما يتحول للون الأحمر القاتم فبذلك يدل علی المرض.
شبهه إياد باختبار الممنوعات في عالمه.
أخرجه ناسك من شروده: الخطوة التالية أن تذهب مع الوجيه لاختبارك في الأعشاب.
نهض إياد وهو يفكر أنه سيبقى فترة طويلة يحتفظوا به كما يُحتفظ بالزهور بين دفتي كتاب عتيق.
انقضت ثلاث أسابيع علی وصوله إلی مجمع العطارين، تعلم فيها كل شيء عن الأعشاب وأسماء النباتات، أحبه ناسك وعلمه أشياء كثيرة لدرجة تفكيره في أن يبق معه فترة التدريب، كان من المحتم عليه أن يبق فترة طويلة في المجمع دون أن يخرج منه ولكنه اضطر عندما طلب منه ناسك أن يشتري بعض البذور من السوق.
سر لذلك، وانتهز الفرصة بدلًا من أن يبق حبيسًا في المجمع الذي يشبه بالسكن الجامعي.
علم في قرارة نفسه أنه أتی إلی هذا العالم عن طريق الخطأ، وأقتنع أن يدمج نفسه ويستقر رويدًا رويدًا، إلی أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويستطيع الخروج.
وصل إلی عطارة أشتون، ما لفت انتباهه أن السوق كان في حالة هرج ومرج، والبضائع ساقطة علی الأرض، والمكان في حالة فوضی عارمة، دقق النظر فوجد أشتون مُلقي بين البضائع علی الأرض بلا حراك، وعلی وجهه أعتی علامات الألم.
"الموهبة الجديدة"
نظر إياد إلی الجمع المحتشد حول أشتون؛ فساعده علی النهوض بعدما استجمع قواه، سأله إياد بتعجب بعدما رأی الناس سرعان ما انفضوا من حوله سريعًا كأنها عادة يفعلونها دائمًا: ماذا حدث لك، ومن فعل بك ذلك؟
تأبطه أشتون بتعب والجروح تُغطي وجهه كخريطة ثم قال: هذا زولاي كل يوم في نفس الميعاد من كل شهر يأتي ويعلم علی وجهي بهذا الشكل.
بدت علامات التعجب علی وجه إياد ثم قال بعد تردد: لماذا؟
ضحك أشتون رغم تعبه فأجلسه إياد فأردف: زولاي يريد صنع دواء بواسطتي؛ ليضر بالبشر، وعندما لم أتمكن من صنعه يفعل بي ذلك
إياد (بعدما اكتملت الصورة في ذهنه): ما هذا الدواء، ولماذا لم يذهب إلی حكيم المملكة
- ذهب مرارًا ولم يتوصل إلی نتيجة، كنت أصنع عشبة لتسكين الآلام ولكن تلك العشبة لم أجدها مرة أخری لأنها نادرة ولها وقت محدد تزرع فيه، هو يعتقد أنها تشفي من الأمراض وتمنع الشيخوخة وتطيل العمر.
- ولماذا يعتقد ذلك؟
- لأنه ليس منا.. قاطعه دخول حكيم المملكة فقام بتعطيب جراحه وإياد يفكر في طريقة كي يمنع زولاي عن أشتون، جلس بجانبه بعدما انتهی الحكيم من مداواته، فلمس جراحه التي اختفت ما إن وضع يداه عليها، نظر إلی يده باندهاش ثم جرب مرة أخری وكرر ما فعله والنتيجة مثلها، رمقه أشتون بتعجب تحول إلی ذهول: كيف فعلت ذلك؟
- لا أدري
نهض أشتون ومعه إياد فرأی رجل عجوز كان يشكو لأشتون من آلام ذراعه نتيجة كسر قديم، نادی أشتون عليه فسمعه الرجل وحياه
- عم آشور، كيف حالك؟
- كالعادة يا ولدي، ذراعي يؤلمني.
أمسك أشتون بيد إياد ومسح به علی ذراع آشور، في البداية لم يحدث شيء، ترك إياد يد أشتون وحاول بنفسه؛ فاختفى وجعه القديم، وانتهی ألم الرجل الذي نظر إلی يده وإلی إياد، لم ينجح في مُداراة انبهاره؛ فأمسكه وعانقه مرارًا وإياد فلت منه بصعوبة فقال لأشتون وهو يكز علی أسنانه: اجعله يتركني
سار أشتون في الطرقات وهو يقفز بسعادة بجانبه إياد وكلما رأی رجل يعرفه يشكو من جرح يُمسك بيد إياد.
- يكفي، لا أريد أن يذيع صيتي هنا بسببك
- لا تقلق، سوف يكون لك شأنًا عظيمًا هنا، اشتری إياد الأعشاب اللازمة من السوق وذهب إلی مجمع العطارين، مكان سكنه الجديد، وكان يفكر في الموهبة الجديدة التي يملكها ويجربها علی نفسه مرارًا، يجرح نفسه ثم يمرر يداه علی جرحه، فيختفي كأن لم يكن، في اليوم التالي ذهب إلی أشتون ليقضي عنده بعض الوقت.
"عرس ملكي"
مكث إياد عند أشتون بضعة أيام، كان قد تعلم فيهم كل شيء عن النباتات والأعشاب، وكيفية خلطهم لصنع عقار مُعين، لم يستطع أشتون أن يخبأ سعادته بإياد الذي تعلم كل شيء وسر لما أنجز
كان يومه متمثلًا في شراء الأعشاب والأدوات والذهاب بهم إلی مجمع العطارين حيث يمكث، كان الجو شديد البرودة ليلًا والرياح تعصف في الخارج كإعصار، سحره جمال المملكة ليلًا، تلمع بها أضواء النوافذ كقناديل تُضيء عتمة الليل، كان يجلس في باحة المنزل، عندما لمح شيء يُضيء ككرة صغيرة، لم يهتم في البداية؛ فأخرجت الكرة عدة ألوان وصفيرًا لم يعتاد مثلها، اعتقد في قرارة نفسه أن كل ما هو غامض ومجهول مُخيف، نهض من جلسته ثم ذهب ليرى مصدر تلك الأصوات من الكُرة الغريبة، عندما لمسها كأنه لمس قطعة من نار، ألقِ بها بعيدًا ثم عادت له مرة أخری علی شكل شيء طويل مثل المارد بدون ملامح كأنه نور مُتجسد، قاوم كي لا يفقد وعيه، فجاء صوت الكائن الغريب في ذهنه مسموع
- مرحبًا بك في عالمي
لم يفهم إياد هذا الشيء الذي طغى علی ذهنه وكان له وقع مُخيف عليه
- من أنت
- أنت هنا؛ لتعيش بقواعدي أنا، وإن لم تنفذها فلك الويل مني، إن لم تُجلب لي الدواء ستكون طعامًا لحيواناتي
وبإشارة من يده برز وحشان مُخيفان مثل الدببة ولكن لهم أذنان طويلتان وأنياب حادة ثم اختفى فوقع إياد فاقدًا للوعي، رآه أشتون الذي حاول أن ينعشه فقال بتعب:
- أين أنا؟
- هل قابلته؟
- من؟
- زولاي
- من، هل تقصد أنك رأيت ما رأيته؟
- لا، ولكن قابلته قبلك
- أليس بشري؟
قهقه أشتون بمرح: كنت أتمنی، ولكن لست أملك ترف الاختيار.
كان يسير في الطرقات وحيدًا يفكر في موهبته الجديدة، وما حدث له في الآونة الأخيرة، تذكر ذمروش ولكن لفت نظره شيء يحدث في الشوارع من هرج ومرج، حيث الازدحام والصخب والأنوار في كل مكان، وأطفال يغدون ويروحون راكضين في الشوارع مُهللين، وهرة صغيرة تتمطع بكسل، قابل عم آشور؛ فاستقبله بالترحاب، كان الرجل طويل القامة له لحية بيضاء طويلة سمح الهيئة، يرمقه من تحت إطار عويناته
- ماذا يحدث هنا يا عم آشور؟
أخذه آشور وسار معه باتجاه السوق، فجلس ثم قال مُلطفًا: اليوم هو عيد اليُسر، يتوافد الفقراء من كل بقاع المملكة، ويأتون إلی السوق، وكلًا منهم يحمل صندوق؛ فيمن الناس عليهم بالعطايا حتى أن الملك يأتي ويُعطيهم بنفسه.
سَر إياد لما سمع، وطلب من آشور أن يحكي له أكثر عن عادات وتقاليد المملكة.
أردف آشور: تقاليد المملكة واضحة وصريحة ولا تتهاون مع ما يُخالفها، تلزمنا بالزواج، لأن العزوبية عندنا نادرة
- لكن أشتون غير متزوج
- سيتزوج عندما يتم العشرون من عمره
سأله إياد وهو يتخذ موضعًا له بجانبه: وما هي تقاليد الزواج؟
- يجب أن تری بنفسك؛ فاليوم زواج نشروان ابنة الملك ميسور مع أمير مملكة أمشور الأمير سائد، ستری بنفسك كيف تتم الأمور
جاء الليل بسكونه المُريح وفي السكون راحة تتخللها همسات البشر، شعر أن الليل يعانق القمر، لكنه هدوء مؤقت حيث تجمع الناس وقاموا بتزيين الشوارع، والعربات التي تجرها الخيول، علم بعدها أن العرس سيستمر إلی ثلاث ليالٍ.
بدأ الحشد يستعد لقدوم الملك وحاشيته، وقف آشور يرمق الجميع بجانب إياد
قال إياد: كيف يتم العرس هنا؟
تنهد آشور ثم قال: العروس تدفع المهر للعريس علی حسب مكانته
قامت الاحتفالات والصخب في كل مكان مع قدوم الملك وحاشيته فاستقبله الناس بالورود، أما الأمير سائد فجلس علی كرسي مرصع بالذهب بجانبه الأميرة نِشروان يُحيط بهم بعض الحرس.
أمسكت نشروان بحذائها ووضعته أمامها علی طاولة صغيرة؛ فتسابق الحشد عليه ليضعوا بعض العملات الذهبية فيه.
راقب ذلك إياد الذي وقف مبهورًا؛ فأمسك آشور بكتفيه قائلًا: من عاداتنا أن تضع العروس حذائها أمامها فيضع كل من يعزها بعض العملات كمباركة منهم لأميرتهم.
شبه إياد ذلك (بالنقطة) في عالمه، استمرت الاحتفالات وعُزفت المقطوعات الموسيقية الرائعة والألوان والزينة في كل مكان
أقبل أشتون ووضع عملة ذهبية في حذاء الأميرة، لمحه إياد وأشار إليه؛ فجلس بجانبه
- ما أعذب عاداتكم يا صديقي!
ابتسم أشتون ثم قال له: أنت لم تری شيئًا بعد
- لم تقل لي ما عليّ فعله، يجب أن أُنفذ ما جئت لأجله كي أعود إلی عالمي
أشتون مُمازحًا: لقد مللت منا حقًا ثم أردف: حسنًا سوف أُدلك علی رجل حكيم ربما يساعدك.
- أرجوك
لفت نظره رجل يحمل كعكة ضخمة ثم وضعها علی طاولة أمام الملك وناوله سكينًا مُذهبًا فقام الملك بتقسيم الكعكة؛ أخذها الرجل ووزعها علی الناس جميعًا.
رأی أشتون الحيرة علی وجه إياد فقال له: يتوجب علی والد العروس أن يُقسم الكعكة، في وسط الكعكة توجد عملة ذهبية من يحصل عليها في قطعته سيتزوج.
- هذا رائع، لم تتوقفوا عن إدهاشي في كل مرة
سمعوا جميعًا صوت ضحك وممازحات فالتفتوا إليه وقال: هذا أزاد لقد حصل علی العملة، دعني أُبارك له علی أية حال.
ثم ذهب وعاد؛ ليجلس
نهضت العروس ووقفت بحذائها علی قدم سائد، التفت إياد لأشتون، فضحك الأخير قائلًا: حسنًا يجب أن أُحكي لك كل ما يحدث، العروس عندما تفعل ذلك، دلالة علی احترام مكانتها
- لماذا وافق الملك علی هذه الزيجة، بالرغم من كونهم مملكتين كان بينهم حروب علی ما أتذكر عندما حكی لي عم آشور
- هذا الزواج من شروط الصلح كي يجلب لنا ولهم السلام
انتهت الاحتفالات بعدما ذهب الجميع إلی ديارهم عدا إياد وأشتون، كانوا يتسامرون فيما بينهم
"الرحلة"
كانت نسمات البرد تغزو المملكة كحليف قوي يأبى أن يترك ساحة القتال.
افترشا كلاهما الأرض فألق إياد كل همومه من وراء ظهره وأخذ يتطلع إلی السماء المُزدانة بالنجوم متأملًا.
قال أشتون: عم أصيل حكيم المملكة
تطلع له إياد بطرف خفي ثم قال مُعتدلًا في جلسته: كيف يساعدني؟
- سيدلك علی كل شيء فإنه خبير وطبيب المملكة، يملك حكمة مئات السنين، يقوم بصناعة الدواء للجميع، لكن قبل بضعة سنين اعتزل الجميع وذهب من هنا
- لماذا؟
- يقول أن هم الناس أكبر من حكمته، فهو الآن يصنع بعض الأعشاب ويرسلها لي، حتى أنه هو من يتواصل معي عند صنعي لأي دواء، وخاصة الدواء الذي يستميت زولاي للحصول عليه، فهو من منع الدواء عن زولاي
- لما؟
- لأنه يستخدمه في الشر فطلب مني أن لا أعطيه، وأنا وافقت إنه بمثابة أب روحي لي
- لقد قلت لي أنه اعتزل الناس فكيف سيساعدني؟
تأمل أشتون النجوم اللامعة كمصابيح ثم قال له: عم أصيل رجل طيب، لم يترك شخص محتاج إلا وساعده
- كيف أصل إليه؟
- يعيش في كوخ علی الأطراف الجنوبية من المملكة، هيا بنا إلی الداخل الجو بارد هنا وبدأ النعاس يزحف عليّ
- سآتي خلفك
نظر إياد إلی الأفق أمامه، وتمنَ أن يكون أصيل سبب لرجوعه إلی عالمه، دلف إلی الداخل، وأغلق الباب خلفه.
مرت بعدها الثلاث ليال علی بدء العرس، خلت بعدها الشوارع من المارة إلا من بعض الباعة الذين يفترشون الطرقات، قرر إياد أن يذهب إلی أصيل بعد يومان بعد يوم أزكم الذي خبره به أشتون، وأزكم تحريف لكلمة إحياء ذكري جنود المملكة، ففي هذا اليوم يقوم كل من في المملكة بالاحتفال تخليدًا لذكری الجنود الذين ضحوا بأنفسهم قبل خمسون عامًا في الحرب ضد مملكة أمشور.
افترشت الشمس قلب السماء وأدلت بجدائلها الذهبية خيوط من ذهب علی الأرض الرملية، فجاء اليوم المُنتظر (يوم الأزكم)
كانت النساء مشغولات في تحضير المأكولات الشهية، كل سيدة أمام دارها تعد الولائم، من عادة الناس عدم أكل اللحوم إلا في هذا اليوم
يقوموا بإعداد شطيرة كبيرة علی عدد الجنود الذين استشهدوا في الحرب كان عددهم ستون جندي فأعدوا ستين شطيرة كبيرة ووضعوها علی الطاولات أمامهم، اتخذ أشتون موضعًا له بجانب إياد؛ فوالدة أشتون قد أعدت شطيرة كبيرة وجلست قبالتهم مثلما فعلن النساء الأُخريات، أما ما لفت انتباه إياد في هذه اللحظة هو خروج كل زوجين من بيتهم حاملين بيض مُلون بلون أحمر قاتم، قال أشتون بدون النظر إلی إياد: هؤلاء الزوجين الذين تراهم، يقومون بكسر البيض في رأس الأخر ومن يكسرها من المرة الأولى، فيكون حظه جيد إذا كان ذكر فينضم إلی جنود المملكة، أما إذا كانت أُنثی تتطوع عند هيلانة التي تقوم بغزل النسيج أو تتطوع عند أي امرأة تعمل.
انتهی الاحتفال بانتهاء الغروب فأفسح المجال لليل كي يتسلم ورديته.
كان علی إياد الذهاب إلی أصيل مع شروق الشمس، جلس الليل يقرأ في مكتبة أشتون، كانت جميع الكتب عن مملكة الجود؛ فأمسك بكتاب قديم مُغلف ببدائية اسمه "الخلود في مملكة الجود" لابن باهي، تفحص الكتاب بعناية فكان يتكلم عن الأعشاب، والأدوية التي تُعالج بعض الأمراض والشيخوخة، وبعض الملوك الذين حكموا، لم يشعر بالوقت إلا بانتهاء الكتاب إلی أخره.
مع شروق الشمس والنسمات الباردة، عانقت أولی حبات المطر الأرض، هم الرحيل بعربة يجرها الخيل، صاحبه في الرحلة أشتون وسائق العربة مُزودين بكل ما يلزم الرحلة من طعام وشراب، يكفيهم ليومان، كانت المسافة بين مملكة الجود والمملكة التي يسكن بها أصيل "سرداج" تبعد يومان.
كانت الرحلة مُرهقة والطريق وعر، صحراء جرداء تخطتها العربة بصعوبة، أكملوا السير حتى وصلوا لبحيرة صغيرة.
أمر أشتون سائق العربة أن يستريحوا من عناء الطريق ويتزودوا بالماء، قام سائق العربة بفك الخيل وأنزله كي يرويه بالماء، كانت رائحة المطر والنسيم البارد يُراقص أوراق الشجر القليل الموجود بجانب البحيرة، غزا البرد أطرافهم، فركبوا إلی العربة كي يستأنفوا الرحلة.
"بلدة مايوت"
اتفق أشتون مع سائق العربة أن يوصلهم في اليوم الأول إلی بلدة مايوت وهي الأقرب لسرداج، حيث يُخيمون في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يواصلون الرحلة، انتصفت الشمس قلب السماء، وهم علی مشارف بلدة مايوت، عندما سأله إياد عن هذا القرار المُفاجئ ولما لم يواصلوا الرحلة، رد عليه أشتون برد مُبهم قائلًا: لأن أهل بلدة سرداج لا يحبون الزوار الليليين
لم يفهم فاكتفي بالصمت، طلب السائق من أشتون خمسين باوند كانت العملة غريبة علی مسمع إياد، أخرج أشتون خمسة وعشرون باوند وأعطاهم للسائق قائلًا: تعال غدًا مع شروق الشمس، وسأعطيك باقي المبلغ
تأفف السائق وغادر في الحال، رمقه إياد ثم نظر إلی جيب بنطاله وأخرج خمسون جنيهًا ونظر لها في شوق، حدق به أشتون بذهول: ما هذه العملة الغريبة؟
- كان لابد أن أسأل أنا
- أنت كنت تقول الحقيقة!
- إياد بذهول: إذًا لم تكن تُصدقني من البداية
أشتون بحزن: ما شرحته لي صعب عليّ تصديقه، ولكني رافقتك لأني لمست فيك الخير ونادرًا ما أُساعد الغرباء
نصب أشتون الخيام فكان بارعًا، لم يقضي وقت طويل إلا وقد انتهی سريعًا
أما إياد فحاول إشعال النار بالحجر، نظر إليه أشتون وانفجر ضاحكًا وقال بسخرية: ماذا تفعل؟
إياد بغضب: أُشعل النار
- وهل تُشعلها في عالمك هكذا؟
نظر إياد إلی الحجر وألقاه بعيدًا رامقًا أشتون: كيف تشعلونها؟
جلب أشتون من غطاء البُقجة ورقة كبيرة بها شيء مثل الشمعة ولكنها أصغر حجمًا وحكها في الورقة فاشتعلت النيران في الخشب
حدق به إياد وقال له: كنت أظنكم بدائيون!
رمقه أشتون باستخفاف قائلًا: أرجوك أن تُغير وجهة نظرك عنا
سمع الجميع صوت عواء ذئب فارتجف بدن إياد، وصمت إلا من صوت أنفاسه الذي لم يستطع إسكاته
أشتون بهمس: لا تسمع، لا تری، لا تتكلم
إياد بنفس الهمس: لماذا؟
- بلدة مايوت بها من الغرائب ما يجعل شعر رأسك يشيب لها، تقول الأسطورة في البلدة: أن أحد الرجال كان فلاح يقوم بحصد محصوله؛ فجاء بعض اللصوص وسرقوا المحصول، وذبحوه فارتوى دمه بالأرض في ليلة مُقمرة وتحول بعد ذلك إلی ذئب، وكل يوم في نفس المكان يسمع الأهالي صوته وهو يعوي وينتقم من كل من يمر في أرضه إلی أن أصبحت بور وهُجرت.
- إياك أن تقول لي أننا نُخيم علی أرضه
- بالفعل
سمع إياد ضحكة مكتومة منه؛ فلكزه في كتفه إلی أن توقف
عند شروق الشمس ذهب إياد ليتفقد أحوال البلدة ويتنزه فيها إلی أن يحين موعد قدوم السائق، كانت القرية جميلة وساحرة مليئة بالقصور القديمة التاريخية.
رُصفت شواطئها بالحصى، مظهرها رائع، وجد قلعة كبيرة في وسط القرية، تُضفي مظهر رائع بطرازها المعماري المتميز، بالطوب الملون يُرفرف عليها علم غريب باللون الأزرق تتوسطه صورة للملك ميسور، عاد إلی أشتون فكان سائق العربة بانتظاره، ركب إلی العربة وهو يشاهد البلدة من النافذة الصغيرة
سأله أشتون: أعجبتك البلدة؟
- إنها رائعة
أشتون: عندما تصل إلی قرية سرداج ستنبهر بها
- انبهرت من الآن
ضحك أشتون فنظر من النافذة جانبه في حين بادره إياد: المملكة كبيرة، كم بلدة بها؟
- مملكتنا بها ست بلدان يفصل بينهما بحر الرُفات العظيم، بلدة توفالو تقع شمال المملكة، وبلدة برونات في الجنوب، ونارو في الشرق، وأندوراي في الغرب، ومايوت في الشمال الشرقي التي نحن بها، أما سرداج في الجنوب الغربي.
إياد: لماذا يُطلق علی البحر باسم بحر الرُفات العظيم؟
- لأنه قديمًا، كان الأهالي يأتون من شتی بقاع المملكة؛ ليُلقوا رُفات موتاهم في البحر لذلك سمي بهذا الاسم.
بعد سير يوم ونص بالعربة وصلوا إلی حدود قرية سرداج، بدأت الأكواخ تلوح لهم في الأفق، كانت القرية رائعة تكثر بها الأكواخ المبنية بالطوب الملون والخشب المُزخرف.
إياد: أين يوجد أصيل؟
أشتون: هو في أحد الأكواخ
ما أعجب إياد في هذه القرية أنها كانت مُنعزلة والأكواخ مُتباعدة عن بعضها، ما لفت نظره كوخ بدائي الصنع كأنه مبني من الخوص، تحده من الناحية الأخرى مزرعة، علم بعد ذلك من أشتون أنها مزرعة موز.
وعلم أن هذا الكوخ لأصيل..
كان الكوخ مفتوح علی مصراعيه يدعوهم للدخول، دلف إياد وانتظر أشتون ليُحاسب السائق، نادی إياد بصوتٍ عالٍ (عم أصيل)
كان الكوخ مُمتلئ بالأعشاب والأدوية المصنوعة كأنه دلف إلی محل عِطارة، توغل قليلًا في الداخل، ورأی مكتبة ضخمة مليئة بالكتب، أمسك كتاب فكان عنوانه "صنع الأدوية من الأعشاب" فتفحصه وسمع صوت جهوري من خلفه يصيح: اترك ما بيدك فورًا
فترك الكتاب ونظر خلفه وجد رجل قصير خط الشيب شعره وبدت تجاعيده كأنها أخاديد في أرض صحراوية، يمسك بأسطوانة علم أنه سلاح إذا أطلقه الرجل سيفجر مخه لا محالة.
كز الرجل علی أسنانه بغضب مكتوم: أرسلك زولاي أليس كذلك؟
جاء صوت أشتون من خلف الرجل كنجدة له: هذا إياد يا جدي أصيل، جاء معي.
وأمسك بعدها بالسلاح من يد الرجل وألقی به علی كرسي مُتهالك.
رمق الرجل إياد فقال: لا تؤاخذني يا بني، لا يكف زولاي عن استخدام أساليبه العديدة معي
- لا يهم يا عم أصيل
خرج أصيل إلی الخارج وخلفه أشتون وإياد
كانت القرية تعيش علی الصيد، وقوارب الصيد البدائية تقف علی ضفة النهر كتماثيل في متحف
- حكی لي أشتون في مكتوب ما مررت به
إياد وهو يتخذ موضعًا بجانب صديقه: أريد منك المساعدة.
- لا تقلق، سوف أعلمك ما ينبغي لك أن تتعلمه، ولكن لا تثق في أحد.
دلفوا جميعًا إلی الداخل؛ فقدم لهم الرجل بعض السمك الطازج، وأكلوا حتى اتخمت معدتهم، بعد رحلة شاقة، وجوع قرص أمعائهم، جلس الجميع علی الأرض، فنظر إياد إلی أصيل وهو يتفحص بعض الكتب، ويخلط بعض الأعشاب، ويضعها في زجاجات
- أر أنك صبور علی الوحدة يا عم أصيل
قالها إياد وهو يراقب ما يفعل، لم يسمع رد من أصيل؛ فصمت احترامًا له، قال أصيل بدون أن يترك ما يفعله: ما أنا وحدي، معي جماعة من الحكماء والعلماء يُخاطبوني
وأشار بيده علی الكتب
- ولكن الوحدة أشد أنواع الألم قسوة
- أوافقك الرأي، ولكن الاختلاط بالبشر أشد قسوة، يمكن مع الوقت أن تألف كل المشاعر المؤلمة.. ثم نظر إلی أشتون السارح
- إذًا تأذيت من زولاي يا أشتون
- ليست أول مرة
- إن المُستضعفين كثرة والظالمين قلة
- ما أنا بمُستضعف، لقد وقفت ضده رغم قوته.
- أحسنت صُنعًا يا بُني، هذا ولدي الذي تعلم تحت يدي كل شيء
ابتسم له أشتون برضا
قال إياد لأصيل: أريد أن أتعلم منك كل شيء يا عم أصيل
- ستصبر
- الصبر ظل سمة منذ أتيت إلی هنا.
نظر له أصيل برضا ثم استكمل ما بدأه، أخذ بعد ذلك بعض من الكتب المرصوصة بجانبه، وأعطاها لإياد ثم قال: اجلس واقرأ كل هذه الكتب ثم قل لي ما فهمته، إذا رأيت فيك الصبر، سأُعلمك كل شيء.
كانوا خمسة من الكتب الضخمة غُلافهم سميك، أخذ يقرأ عناوين الكُتب، الكتاب الأول "الأعشاب دواء لكل داء" لأبو رائد الزهري كان اسم غريب علی مسمعه لم يسمع به من قبل.
الكتاب الثاني "التداوي بالأعشاب"
الكتاب الثالث "العلاج من الطبيعة"
الكتاب الرابع "اسم الأعشاب وكيفية العلاج بها"
الكتاب الخامس "وصفات ذهبية"
اتخذ إياد موضعًا له بجانب البحيرة وأخذ في قراءة الكتب التي أعطاها إياه أصيل؛ ففهم وقلب الصفحات الواحدة تلو الأخرى، ظل علی جلسته تلك ساعة أو أكثر؛ فانتهی من قراءة أولی الكُتب، أخرج الورقة والقلم، وجلس يُدون ملاحظاته وما فهمه من الكتاب.
خيم الليل عليه، ولم يشعر بمرور الوقت، التفت ليری أصيل يقف علی مقربة منه، حاملًا في يده كوبًا من الأعشاب الغربية، وأعطاه له قائلًا: خذ يا بني، سيساعدك في التركيز
أخذه منه شاكرًا وتصاعدت منه الأبخرة ورائحة عطرة مُميزة
- مما يحتوي هذا الكوب؟
- به بعض الأعشاب المُهدئة مثل الينسون وعسل من صُنع يدي
كان مذاقه رائعًا فأخذ يرشف منه بتلذذ، بادره أصيل بسؤال: ماذا فعلت؟
- انتهيت من قراءة الكتاب الأول
- وما الذي فهمته منه؟
- فهمت أهمية الأعشاب، كل عشب ومهمته، واستخداماته المُتعددة في العلاج.
- مثل؟
- إياد مُفكرًا وهو يمسك مفكرته: مثلًا القرنفل يُسكن آلام الأسنان، والربو
قال أصيل: سوف أُعلمك كيفية صُنعها، والدمج بينهم
أردف إياد: النعناع مُهدئ للأعصاب، والقولون، والصُداع
- ستتعلم مع الوقت كيفية صُنعهما كي يُصبح علاج أو دهان
- أهناك أمل في تعليمي؟
- المهم أن لا تفقد الصبر، اعلم أن الصبر مُفتاح لكل الأبواب المُغلقة، وأنا سأعلمك وأساعدك؛ لتنجح كي تعود إلی عالمك.
- شكرًا لك علی كل شيء يا عم أصيل
- لا تشكرني إلا عندما تصبح مثل أشتون، بالنسبة لأشتون لقد غادر القرية وذهب إلی المملكة؛ لأن الملك استدعاه هو وبعض العطارين للمناقشة.
- لماذا لم يأتِ إلیّ؟
- بُناءً علی طلبي، حتى لا تنشغل، استكمل قراءة لأنه كلما انتهيت مُبكرًا تقلصت المسافة بينك وبين عالمك.
أخذه أصيل إلی كوخ يبعد عنه مسافة ليست بالبعيدة، كان من الخشب، يتكون من طابق واحد به بعض النوافذ الخشبية الصغيرة، يطل علی البحيرة خلفه المزرعة، ما انتبه له عدم خروج أي أحد من كوخه في هذه البلدة، عندما سأل عم أصيل قال له: لا تنشغل بأحد، يكفي أن تفكر في ذاتك.
دلف إلی كوخه الذي امتلئ علی أخره بالكتب، والأعشاب، وغرفة أخری رآها بها زجاجات فارغة، كانت بمثابة مُختبر.
قال أصيل: فيما بعد ستكون هذه الغرفة هي كهفك، والأعشاب ملجئك.
- لماذا لم يأت لك أحد لتُعالجه يا عم أصيل؟
- هنا لم نحتاج لعلاج، نحن علاج لبعضنا
لم يفهم رد أصيل المُلغم، عندما كان يسأله عن أهل القرية كان يرد عليه بردود مُبهمة، فتوقف عن سؤاله عن أحوال القرية، وعزم أن يستكشف ذلك بنفسه، وإلا لن يهدأ له بال، مكث في كهفه ثلاث ليالٍ لم يتوقف أبدًا عن القراءة والتدوين، قاوم جفون عينه المُنتفخة من قلة النوم والراحة، في تلك الليلة كان يقرأ كالعادة، سمع همس تجاهله، وحاول المُتابعة، لكن
فضوله كان أقوی منه؛ فترك الكتاب ونظر من النافذة الصغيرة، وجد أصيل يقف مع شخص لأول مرة منذ أن أتی إلی هنا، لمح أصيل إياد فاختفى بعدها الرجل في لمح البصر، أغلق النافذة، دلف بعدها أصيل من باب الكوخ ثم جلس رامقًا إياد
- من هذا الرجل؟
أصيل وهو يرتعد: لا تهتم، أكمل ما بدأت، لا وقت لدي
إياد بخوف: هل أنت بخير؟
أصيل وهو يستعيد توازنه: بخير يا بني، لا تقلق، افعل ما طلبت منك، لأُعلمك بأسرع ما يمكن ، كي لا تُسجن في هذا العالم إلی الأبد، قبل أن أتلاشى
- ماذا؟
- لا وقت لفهمك، افعل ما أمرتك به، وإلا لك الاختيار إن كنت تريد أن تُكمل حياتك هنا.
- لا أرجوك
- إذًا، امكث هنا حتى تنتهي من تلك الكتب
خرج أصيل دون أن يُضيف شيئًا أخر، بعدما ترك الشك يزحف في قلب إياد، عكف علی كتبه، ولم ينهض إلا عندما انتهی من معظمها
بعد مرور أسبوع كان قد انتهی من جميع الكتب وأضاف عليهم بعض الكتب في الكُوخ، كان حب التعلم ينمو ويزيد في قلبه، تعلم أشياء كثيرة مثل صنع الأعشاب، واستخداماتها في العلاج، أضاف خبرات كثيرة بجانب تعليم أصيل له، علمه كيفية صنع عقار مُعين من الأعشاب، فمكث في المُختبر، وقضی مُعظم وقته في صنع العقاقير التي علمها له أصيل، في غضون شهر تعلم الكثير، ذاع صيته في المملكة، والقرى المُجاورة، بدأ الأهالي يأتون إليه من كل الأنحاء ليُداويهم، لم يبخل علی أحدًا منهم، في تلك الأثناء تدهورت صحة أصيل جدًا، وصار طريح الفراش، حاول إياد أن يصنع له دواء ليُعالجه، وشعر بالحسرة علی حالته كثيرًا.
"الطبيب"
ذات نهار أثناء انشغال إياد في خلط بعض الأعشاب واختبارها، دخل عليه رجل ضخم، هيئته مُخيفة مُلثم لم يظهر منه سوی عيناه، لم يجد إياد بُدًا من مواجهته
قال الرجل بصوت ضخم كهيئته: أريد دواء
- مما تشكو؟
فك الرجل اللثام عن وجهه، فلم يرَ أبشع من ذلك، كان مشوه بطريقة بشعة، قال الرجل عندما لاحظ علامات الاشمئزاز علی وجه إياد: عندما كنت أعمل في صناعة السفن، انسكبت علی وجهي مادة مشتعلة فشوهته مثلما رأيت
ثم أعاد اللثام علی وجهه، تأسف له إياد وقال: أسف علی ما حدث لك، أرجو أن يستجيب وجهك لعلاجي.
أعطاه إياد دهان صنعه من الأعشاب المُخدرة فاختبره، ثم أمسك الرجل بالدهان، تذكر بعد ذلك موهبته المُتمثلة في يداه لإخفاء الجروح، أخذ الدهان من الرجل، وجلس يُدلك وجهه به ووضع يداه علی كل جزء من وجهه، بعد خمس دقائق من التدليك، رفع يده عنه، ونظر له، فوجئ باختفاء الحرق، لم يجد أي أثر له، تعجب الرجل، وأخذ صحنًا كان بجانب إياد ونظر لنفسه فيه ؛ فسقطت علی الأرض من التعجب.
- ماذا فعلت بوجهي؟ إنها لمُعجزة
أخذ يُعانقه ويمسح علی رأسه، تعجب إياد أكثر من الرجل، بعدما فرغ من مُداوة الناس، ذهب للاطمئنان علی أصيل، لم يجده، انتظر بضع ساعات؛ فدلف أصيل وهو يسير ببطء، أسنده إياد، وساعده علی الجلوس.
- أين ذهبت يا عم أصيل؟
- لقد مللت من النوم والجلوس
- أأنت بخير؟
- بخير، لقد نفعني دواؤك كثيرًا
- بالشفاء
- اجلس يا بني، أريد أن أُخبرك ما شغل بالك تلك الفترة.
- كُلي آذانٌ صاغية
تنهد أصيل تنهيدة حارة ثم قال: لقد أصبحت طبيبًا من بعدي، أثبتُ جدارتك بقوة، نجحت، لكنك لم تترك أثرك عندما تذهب، قبل أن تذهب عليك بترك بصمتك، أثر طيب تذكرك به الناس دومًا.
- أفعل كل ما بوسعي
- اذهب إلی المملكة، لن تنفع أحدًا هنا
- لكن فترة تدريبي لم تنتهي بعد
أصيل بابتسامة حانية: لا تقل ذلك، بل أنا من سيتعلم منك
- ستظل معلمي، وسأظل تلميذك
أصيل: لم أخبرك بالسر الذي خبأته عنك
إياد باهتمام: سر ماذا، هل تخفي عني أسرار؟
أصيل وهو يسعل كثيرًا قال بعدما هدأ: أنا لست من البشر يا بني
فغر إياد فاهُ من الدهشة: ما، ماذا؟
صمت أصيل فتوكأ علی عكازه: أنا من عالم أخر، لم تسمع عنه، لقد ضعفت، وقريبًا لن تجدني هنا، وهذه القرية ملجئي أنا وكل جماعتي، لذلك لم تری أي بشر بها، هذا المكان مهجور اتخذته مسكنًا لي تركه لنا الملك ميسور كي لا يُزعجنا زولاي، لأنه مؤمن لنا
لم يفق إياد من صدمته بعد فقال أصيل: أردت قول ذلك لك قبل أن أتلاشى من هذا العالم، وتُفاجئ بعدم وجودي
قال إياد: وهل أشتون علی علم بذلك؟
أصيل بارتياح: بلی، وأشتون تقبلني مثلما تقبل زولاي، احترس من زولاي فهو مكار، معي سلاح لتحاربه به مثلما يُحاربك، انتظر قليلًا
ارتجف بدن إياد وهو يجلس مُنتظرًا إياه حتى عاد، ومعه لفافة كبيرة.
"الخلاص"
هذا سوف يُخلصك منه نهائيًا؛ لتعود بعدها إلی عالمك سالمًا
أخذ منه اللفافة وهو ينظر له، وجد أن بها بعض الأعشاب وورقة بها طريقة استخدامهم
أردف أصيل: عندما تخلطهم، ألقي بهم في وجه زولاي
بعد ذلك أسند أصيل رأسه إلی الوراء
إياد بخوف: عم أصيل
أصيل بتشنج: لا تنسی أن تُعالج كل الناس، وتنفعهم، لم يبقی لهم سواك
ابتلع إياد كلامه، وأمسك بيد أصيل فكأنما أمسك بهواء
إياد بدموع مكتومة: عم أصيل
أصيل وهو يتلاشى وتختلط ذراته بالهواء: وداعًا يا بني
لم يمسك دموعه التي أفلتت وأغرقت الوسادة التي كان يجلس عليها أصيل.
لم يجد إلا الخواء يسيطر علی الكوخ، خرج وعزم أن يستكمل ما بدأه أصيل، أخذ عربة مُتوجهًا إلی المملكة، كان كلما يبعد عن القرية يرَ الأكواخ تتحطم من تلقاء نفسها، وتتلاشى، وأمسك بدمعة فرت من مقلته، مُتذكرًا ما فعله أصيل، نظر إلی الكتب التي أخذها واللفافة، الوحيدة المُتبقية من أصيل، بعد يومان وصل إلی المملكة، وكان في استقباله عم آشور وأشتون، عانقوه بشوق
تجول معهم في السوق، وأخذ ما يلزمه من الأعشاب، قال لأشتون الذي كان ينظر إلی كتاب مُتفحصًا إياه باهتمام: أُريد منك أن تُخبر من يريد العلاج، لأُساعد من يحتاج إلی المساعدة.
ذاع صيته فانتشر الناس حول بيت أشتون، من يريد دواءً للصداع، من يريد مسكنًا، أو دهانًا لجرحه، كان يُعالجهم جميعًا بدون مقابل، دلف عليه أشتون فقال: لما لم تأخذ مُقابل، كي يدر عليك دخلًا
- لا أريد مقابل لمساعدتي
"المُنقذ"
نجح إياد كثيرًا في المُداواة بالأعشاب، فلجأ إليه العديد من الناس، وأكثرهم جاءوا لشكره
في ليلة مُقمرة جاء له زولاي للمرة الثانية وهو يجلس بالخارج
- هل صنعت الدواء الذي طلبته منك؟
تذكر إياد الخليط الذي صنعه من اللفافة، وتوتر بعض الشيء ثم قال: بلی، انتظر لحظة
في هذه اللحظة دلف إلی بيت أشتون، ووجد الخليط أمامه علی الطاولة الصغيرة، فتأكد من خلطها جيدًا، وأضاف عليها الماء، ثم خبأها خلف ظهره وخرج إليه
زولاي وهو يضحك بشر، عندما رآه إياد، فتح غطاء العلبة وألقاها في وجهه، فصرخ صرخة مُرعبة وهو يتوعده ثم تلاشى مثل أصيل كأنه من العدم.
بدأ الغروب يصبغ الموجودات باللون القرمزي والناس مازالوا يتوافدون علی بيت أشتون، بعد قليل خلا الدار من الناس، فجلس في غرفته التي خصصها أشتون له، وعكف علی صناعة دواء جديد لم يجربه بعد، مثلما يفعل في أي دواء جديد، كان يُدمج بعض الأعشاب ويطحنها إلی أن تُصبح خليط مُتجانس ثم يتركه قليلًا ويقوم باختباره علی نفسه، أطلق علی دواءه الجديد "عشبة زنجبال"
ولأول وهلة من استخدام هذا العقار، أثبت فعاليته في علاج أمراض كثيرة، كعادة أشتون عندما يصنع إياد أي دواء يُعلن عنه؛ فيتوافد الناس عليه من كل أنحاء المملكة ليُجربوه
أفاد الكثير مما يُعانون من الأمراض المُزمنة، ونجح معهم مما زاد شهرته في بقاع المملكة، حتى أن الملك سمع عنه فاستدعاه إلی القصر، وقف إياد خارج القصر وتوتره يزداد مع مرور الوقت، وتزايدت دقات قلبه كوتر كَمان تمزق من فرط العزف، استدعاه الملك إلی الحجرة المُخصصة للاجتماعات، كانت الغرفة أشبه بقاعة استقبال واسعة مُمتلئة بالمجالس الأرضية توسطهم كرسي كبير كالعرش، جلس عليه الملك، وأشار إلی إياد أن يجلس
إياد بخجل: أشكرك
الملك وهو يرمقه بتفصيل: أغريب أنت عن المملكة؟
زاد توتر إياد ففكر قليلًا قبل أن يرد ثم قال: أعيش علی الترحال، لستُ في بلد محددة.
مثلما سمع أصيل ذات مرة يخبره فيها أن يقول هذا عندما يسأله أي شخص في المملكة
بدأ الملك يسأله عن الأدوية ومن علمه كل ذلك، كان الملك ميسور حزين؛ فلاحظه إياد ثم سأله بتردد: لما يبدو عليك الحزن يا سيدي؟
الملك بنبرة حزينة: تُعاني أختي من مرض خطير، استدعيتك كي تراها
إياد بحزن وهو يحدق في الأرض ثم نظر إلی الملك وقال: لست بطبيب، فقط أصنع الأعشاب، ولا أستطيع القيام بغير ذلك، هل استدعيت لها طبيب؟
الملك بسخرية مريرة: بالأصح أطباء، لم يفدها أيًا منهم، لذلك استدعيتك، فقد صرت حديث المملكة.
- هذا شرف لي، أردت إفادة الناس بعلمي
الملك: أُريد منك أن تراها
لم يستطع أن يُبعد عينه عن تأمل القصر وهو يسير خلف الملك، حكی له الملك عن قوانين وقواعد المملكة، لم يمنعه فضوله في سؤال الملك عن السجن وإذا خالف أحدهم القانون
قال الملك: لا يوجد سجن هنا، من يُخالف القانون ليس منا، ويُجبر عن التخلي عن المملكة.
دلف الملك إلی ممر طويل، وكلما سار وجد الحراس يلقون التحية علی الملك، بأنهم يضعون أياديهم علی صدورهم إجلالًا
كانت الغرفة في أخر الممر، سار إلی أن وصل إليها فأذن له بالدخول
وجد أخت الملك طريحة الفراش، يلتهب وجهها كجمرة مُشتعلة، ولم تقوي علی الحراك
لم يحتج إياد مجهود ليعلم أنها مريضة بالسُل، من خلال الأعراض التي قالها الملك من سُعال، وفقدان الوزن، وحما
شيء غريب كان يدفعه بمعرفة مما يشكو المريض، وغالبًا ما ينجح في ظنونه، لم يعلم مدی فاعلية العشبة التي صنعها في علاج هذا المرض، لا يريد أن يُغامر، علی كل حال يحتاج المرء إلی المُغامرة أحيانًا، طلب من الملك الذهاب إلی المنزل كي يأتي بالعلاج المطلوب
استدعی الملك الحارس الذي يقف أمام الباب، أخذه إلی غرفة كبيرة بها كل أنواع الأعشاب كالمُختبر ومُجهزة بأحدث الوسائل؛ كالحلم بالنسبة له
صنع زنجبال في سرعة أكبر من المُعتاد، وناوله إلی الملك قائلًا: عليك أن تُخلطه بالماء علی ملعقة واحدة، أعطاها الملك للوصيفة، فركضت في الحال لإعطائها لأُخت الملك
صافحه بحرارة، ووعده إياد أن يأتي للاطمئنان عليها غدًا.
بعد مرور يومان ونصف علی استدعاءه لإياد، سمع ضجة قوية بالخارج في بيت أشتون، ورأی فوج كبير من الحرس يقف أمام الباب، أفسحوا المجال للملك كي يعبر من وسطهم، خرج له إياد ليُحييه، عانقه الملك قائلًا بفرح: علاجك نجح في مُداواة أُختي
إياد بسرور: حمدًا لله، سررت كثيرًا
الملك: أطلب ما شئت
إياد: لا أريد شيء يا سيدي
الملك أمام الحشد المُتجمع حوله: اليوم أُعلن أمامكم جميعًا، بنقل إياد إلی قصري، سأُخصص جناح خاص بك
إياد بخوف من فكرة أن يظل عالقًا هنا إلی الأبد، وتذكر قول أصيل عن أن يترك أثره قبل أن يذهب
- بل أريد أن يكون أشتون طبيب المملكة، هو أحق مني بذلك
أشتون بارتباك: ولكن أنا..
الملك بلُطف: طلبك مُجاب
أشتون وهو علی وشك أن يسقط من التوتر: لماذا؟
إياد وهو يلكزه: لأني ذاهب من هنا
عين الملك أشتون نيابة عن إياد بُناءً علی طلبه
علمه إياد كل ما يعرف عن سر الأعشاب والدمج بينهما، وتعلم بعد ذلك عشبة زنجبال؛ فورثه سره
في ليلة مقمرة جميلة، كانت الأجواء ساحرة، تجول إياد كعادته ليلًا، عندما سمع هسيس خلفه، نظر ولم يجد إلا الخواء، سمعه مرة أخری، ونظر فجأة ظهر ذمروش أمامه مُبتسمًا علی غير عادته
إياد بذهول: لما لم تظهر من قبل، لقد اعتقدت أنك تخليت عني..
- كنت أُراقبك خطوة بخطوة، وإلا كيف تعلمت كل ذلك في فترة قصيرة كهذه
- ماذا تعني؟
- أعني أنني كنت وراء تعلمك بسهولة، وأعراض الأمراض التي كنت تُخمنها كنت وراء فهمك لها.
- لماذا لم تظهر من قبل إذًا؟
- كان لابد أن تعتمد علی نفسك، وأن تزداد ثقتك فيها، لأنك لو رأيتني بجانبك، لن تستطع النجاح، وستعتمد علیّ
إياد: هل حققت النجاح؟
- كنت أكثر من ناجح
إياد بشوق: هل سأعود إلی عالمي، وأری أصدقائي؟
ذمروش بمرح: بالتأكيد
كان عم آشور وأشتون واقفين أمامه ينظرون له ذهب إليهم وعانقوه بود
- هل ستذهب يا بني؟
أشتون ودموعه تسيل علي وجنتيه: سأشتاق إليك كثيرًا يا رفيقي
إياد وهو يُعانقه: وأنت أيضًا يا رفيق دربي
في تلك الأثناء ظهرت بوابة كبيرة من العدم، كانت تدعوه إلی الدخول، لم يرَ لها مثيل، ضخمة وبها قضبان حديدية كثيرة، فنظر إليها ثم إلی الأفق أمامه، أمسك ذمروش بيده ودلف إلی داخل البوابة، اختفت الموجودات من حوله، وظهرت أمامه رمال كثيرة صفراء كالتبر تحت أشعة الشمس، وعلی الجانب الأخر السيارة التي تركها، ألفها علی الفور، كان المكان الذي غادره بعد تعطل السيارة، لم يصدق نفسه أنه كان بداخل مُغامرة، وأنه كان لا شيء ثم أصبح رجل له شأن، فتذكر أن أعظم مغامرة يمكن أن يخوضها المرء في حياته هو أن يعيش الحياة التي ما كان دائمًا يحلم بها السؤال هو هل تستطيع قبول المغامرة؟