(إنَّ أرواحَ المُحبِّينَ لا تلتقي ولا تفترق؛ فكِلاهما يسكنُ الآخر إلى أبد الدَّهْرِ)
جلالُ الدِّينِ الرُّوميّ
١٨ يناير / ٢٠٢٩
الإسكندرية
أهلًا بكَ في أوراقي.. أوراقُ يَحيى درويش مُحاولتي لتسجيلِ حياتي، هي ليست المحاولة الأولى على أي حال، حاولتُ عدَّةَ مرَّاتٍ الكتابة لكنني فشلت، لم أكن أعرف تحديدًا من أين أبدأ..
حتى وصلتُ إلى نقطة بداية حقيقية أستطيع من خلالها رصد تلك الحياة الملتبسة التي عشتها، وما زلت أعيشها.. عفوًا، انتظر قليلًا حتى أغلق باب الشُّرْفَةِ؛ فتيَّارُ الهواء أقسى من أن يحتمله جسدي الهزيل، واعطني خمس دقائق أخريات حتى أنثر مصائد الجرذان في الشقة؛ فمجموعةٌ من جرذانٍ مارقةٍ تحيا معي هنا، لا تترك لي مجالًا للرَّاحة، تلتهم بِنَهَمٍ وجوعٍ أرغفةَ الخبزِ المُلقاة على الطَّاولة، وتنخر أخشاب الأثاث القديم البالي، كل ذلك لم يُشكِّل أزمةً لي، كان يمكن أن أحتمله بصدرٍ رَحِبٍ، بل وأرحِّبُ بوجود تلك المجموعة اللطيفة من الجرذان لولا إعلانهم العصيان
وقرضهم بأسنانهم الحقيرة مجموعة من أثمن كتبي لم أكن بعد قد فرغتُ من قراءتهم، وعلي رأسهم خريف الزعيم الأبوي، عند تلك النقطة فقدتُ أعصابي، وأصبح وجودهم في منزلي غيرَ مُرحَّبٍ به، أمس توجَّهتُ إلى المنشية، قمت بشراء أربع مصائد تكفي الأربعة ضيوف الذين لا يخجلون من الذهاب والمجيء أمامي مسرعين كقطاراتٍ ألمانية دون الإحساس بالخجل مني ومن فعلتهم، وضعتُ في المصائد قطع الجبن الأصفر ذا الرائحة النفَّاذة، رائحة لن تستطيع أن تقاومها تلك الجرذان السمينة.. رائحة تستحقُّ من أجلها أن يضحُّوا بحياتهم غرقًا في حوضٍ من الماء جهَّزتُه خصيصًا لهم، لا أُخفي عليك خوفي الشديد من الجرذان، المهم، لنعد الآن إلى قصتنا، ولكن قبل ذلك اسمح لي باستنشاق بعض الدُّخَان، نعم أنا أعني ما أقوله جيدًا، استنشاق الدخان وليس شربه؛ فمنذ عدة أسابيع حَرَّم عليّ الطبيبُ اللَّعين من جديدٍ أن أعود إلى التدخين؛ فأصبحتُ أمارس هوايتي بأن أشتريَ السجائر ثم أضعُها على المنفضة بعد إشعالها وتركها تحترق أمامي، وأنا أتأمَّل الدُّخان المنبعث منها أستنشق رائحته من بعيد، أستمتع وأنا أشاهد احتراقها كما احترقتُ أنا مراتٍ ومراتٍ، وددتُ أن أحرق العالَم كلَّه فلم أستطع فاكتفيت بإحراقها، اوووه! بذكر الطبيب إنه يتصل الآن! اسمح لي بالرد عليه.
- ما أخباركَ يا يَحيى.. هل أنتَ بخير اليوم؟
_ نعم أنا بخير.. واطمئن.. لم أدخن.. فقط أشتمُّ رائحة الدخان من بعيد.
_ يحيى.. يجب أن تمضي تلك الفترة في المستشفى.. حالتك أصبحتْ..
اقاطعه قائلا
- لا تُكمل من فضلك يا دكتور.. ما دام هو قادمًا لا محالة فدع لي فرصة في تقرير مصيري.. عندي عمل مهم يجب أن أنجزه قبل كلمة النهاية.
أغلق معي المكالمة بعد وصايا عشر أعطاها لي في كيفية الاهتمام بصحتي.. خرجتُ إلى الشُّرفةِ، عادة قديمة تمنعني صحتي الآن من فعلها بانتظام، استنشقتُ أوَّلَ نسمة هواء صافية بعد ظهور الخيط الأبيض الأول من النهار، ومارستُ جنوني المُحبَّب، اعتليتُ سور الشُّرفة، أعطيتُ ظهري للبحر والشمس التي تبدأ في الاستيقاظ من سُباتها ثم أخرجتُ هاتفي والتقطتُ (سيلفي) مع طيور الصَّباح التي تحوم حول البحر، نشرتُ الصورة على (فيس بوك) وكتبتُ فوقها:
- من العَبَثِ ألَّا تعبث مع الحياة..
جاءتني التعليقات الساخرة:
- مجنون.. أحمق.. لم تعلِّمْكَ سنين عُمُرُكَ الحكمة بعد!
تركتُ التعليقاتِ السخيفة وتوجهتُ إلى المطبخ وصنعتُ كوبًا من قهوةٍ غامقةٍ سادةٍ بدون إضافة سكر، ينقصه فقط سيجارة (دافيدوف) ناصعة البياض، لنحرقها الآن وليحدث ما يحدث.
تأتي في مُخيَّلَتي صورة الطبيب وهو يقول لي:
- عندك ثقبٌ في الرئة!
أيًّا يكن يا عزيزي؛ فأنا أحمل ثقبًا في الروح منذ سنين عديدة؛ فما الفارق؟!
هل كوَّنتَ صورة عني الآن يا صديقي؟.. حسنًا احذفها كلها، الآن سأضع بين يديك حياتي كاملة في تلك الأوراق.