(يحيى درويش)
يناير/ ٢٠١٢
الإسكندرية
درجة الحرارة ألف تحت الصفر، تتجمَّد أطرافي كلها في موجةٍ من الصَّقيع غير معتادة -في مدينتي السَّاحلية الإسكندرية- بتلك القوة من قبل، الشقة الصغيرة المُطِلَّة على البحر في تلك البناية القديمة الآيلة للسقوط تحوَّلتْ إلى (ديب فريزر) كبير، محاولة الخروج في ذلك الطقس هي محاولة انتحار كاملة الأركان مائة في المائة، سيحاسبني عليها القانون إن كان هناك تهمة لمَن يهدر حياته هباءً منثورًا، محاولة جديدة سأضيفها إلى قائمة انتحاراتي الفاشلة التي وصلت إلى تسع محاولات حتى الآن، سجلتها جميعًا في لوحةٍ ورقيةٍ كبيرةٍ لأتذكَّر فشلي الدائم، أمسكتُ بالقلم الأزرق وأضفتُ تاريخ المحاولة الجديدة مُسجِّلًا أمامها المحاولة رقم عشرة، تسع محاولات سابقة كُلِّلَتْ كلُّها بالفشل الذريع حتى يَئِسَ المحيطون بي من كلِّ تلك المحاولات ولم يعد يشغل أحدهم أصلًا أن تنجح أو تفشل، بل ربما تمنُّوْا نجاح إحدى المحاولات رحمةً لهم من محاولات إنقاذي المتكررة التي دومًا تصيبهم بالقلق أو بالإزعاج المستمر.
أوَّل تلك المحاولات كانت منذ قرابة الشهر، استخدمتُ فيها سمَّ فئران، قرأتُ على إحدى المواقع أنه يُنهي الأمر سريعًا بأقلِّ قدر ممكن من الألم.
(نعم أريد الانتحار، ولكنني لا أريد العذاب)، ولم يكن الأمر صعبًا كثيرًا في شراء سمِّ الفئران، نظرتُ إلى العلبة الصغيرة الصفراء، مطبوع عليها صورة لفأر صغير جدًّا لونه رمادي يثير الاشمئزاز، فتحتُ العُبُوَّة الصغيرة التي تحوي بعض الجرامات من هذا السمِّ الذي باللون الأسود، تشبه حبيباته الفلفل الأسود، له رائحة مقززة جدًّا، حسنًا.. هي في النهاية أسهل الطرق، إفراغ محتويات العُبُوَّةِ في كوبٍ ساخنٍ من الشاي سيجعل الأمر أقلَّ نفورًا، ثم التلذذ بالنهاية حيث ينتهي كلُّ شيءٍ سريعًا بلا تعب وأنت تشاهد التلفاز، أعددتُ كوب الشاي الساخن وأضفتُ السمَّ ثم قلَّبتَه جيدًا حتى تأكدتُ من ذوبانه في كوب الشاي، وأشعلتُ سيجارتي ماركة (آل اند اِم أزرق)، ومع أول رشفةٍ من كوب الشاي المخلوط بالسمِّ تخيلتُ الخبر المنشور غدًا في كل الجرائد:
(عاجل: تمَّ نفوقُ أكبر جِرذٍ في العالم يزن وزنه ٨٠ كيلو غرامًا
من الدُّهون والهموم والفشل)
استسلمتُ لغفوةِ نُعاسٍ طارئة، بعدها شعرتُ أنها النهاية، تأتي الآن دون أي مقدمات؛ فاستسلمتُ لها رغم الضجيج الصادر من جرس المنزل الذي لا ينقطع، خمَّنتُ أنه بالتأكيد أحد الدائنين، أتى لطلب دفعة من مديوناتي الكثيرة؛ فهمست في نفسي:
- تألَّمْ جيدًا أيها البُرص.. سأترك الحياة كلها؛ فلتبحثْ عمَّن يدفع لك!
استمرَّ الإزعاج.
المستمرُّ على الباب بلا توقف، لم أجد بُدًّا من فتح الباب والبَصْقِ في فمِ اللعين الذي يطرق بابي والجرس بتلك الطريقة، لم تخُنِّي أقدامي كما كنتُ أعتقد، لم يكن بعد مفعول السمِّ قد بدأ في الانتشار، أو أنه سم نمل لا فئران، توجَّهتُ إلى الباب متحضِّرًا للبَصْقِ في الخلقة العَكِرة التي سأجدها، وحين فتحتُ وجدته محضرًا؛ يمسك بيده ورقة (دعوى طلاق)..! اللعينة فعلتها! لو تأخَّرَتْ خمس دقائق فقط ربما لنجحت المحاولة وأصبحتْ أرملة باقتدار وورثتْ بؤسي وديوني المتراكمة وهذا الجُحْرِ الضَّيِّق.. لكنها محظوظة كعادتها، لم يُمهلْني الوقت كثيرًا، سقطتُ مُكوَّمًا على الأرض دفعة واحدة، وحين استفقتُ وجدتني في المستشفى وحيدًا بلا أحد أعرفه، مُحاطٌ بالكثير من المرضى وذويهم الذين معهم وطبيب شاب أصلع بدين وعدة ممرضاتٍ قبيحاتٍ يشبهون نَفْسي القبيحة، أخبرني بعدها الجيران أنهم هم مَن أنقذوني حين صرخ المحضر الغبي وتجمَّع الجميع لإنقاذي.. فليحترقوا جميعًا في نار سَقَر التي لا تُبقي ولا تَذَرْ، كانت تلك هي المحاولة الأولى، تَبَعَتْها عدة محاولاتٍ أكثر فشلًا وخيبة؛ كأنْ أرمي نفسي أمام سيارة مسرعة على طريق الكورنيش فيصدر صوتٌ جَمَح مكابحها، صرير يهتز له البنايات القديمة، ثم تهبط سيدة خمسينية ترتدي ما يعري أكثر مما يستُر، توبخني توبيخًا شديدًا ثم تسبُّني بالأحياء والأموات ثم ترحل بسيارتها ثم يجتمع أهل المنطقة ليصفوني بالجنون والهيستريا ثم يضربون كفًّا بكفٍّ وهم يتندرون على هذا الزمن الأسود ثم يرحلون أيضًا، عن نفسي سعدتُ كثيرًا بعدم موتي تحت عجلات سيدة شمطاء تعاني من مراهقة متأخرة انتهت لتوها من لحظات وطءٍ ثقيلة أرهقتها كثيرًا، ومحاولة أخرى حاولتُ فيها القفز من شرفة منزلي من الدور الثاني، الغريب أنني سقطتُ سليمًا تمامًا بلا أي كسر أو أي إغشاء أو إصابات خطيرة، كأنّ يدًا خفية تلقفتْني فسقطتُ بسلامٍ تام! وأثار هذا الرعب في رواد المقهى الشبابي -المُسمَّى الكافيه- أسفل المنزل، وحين وجدوني أقف على قدمي مرة أخرى بلا أي مشكلة وجَّهُوا لي السُّباب المستمر قائلين:
- متى يُخلِّصْنا الله منك يا أخي؟.. هرب دمنا!
العديد من المحاولات الفاشلة المتكررة خلال ثلاثين يومًا، لم يأتِ من ورائها أي فائدة، والآن أسجِّل المحاولة العاشرة.
محاولةٌ ناجحةٌ بإذن الله.
***
التوقيت الواحدة صباحًا.
التاريخ ٢٠ يناير من العام الثاني عشر من مطلع الألفية الثالثة.
أغلقتُ البابَ جيدًا بعد أن رتبتُ كلَّ شيءٍ جيدًا، ووضعتُ كلَّ أشيائي المهمة في مكانها حتى لا يتعب الورثة في البحث عنها.
(أي ورثة؟! وأي إرث؟!)
وتركتُ وصيتي التي كتبتها في محاولتي الأولى على الطاولة تحسُّبًا لأن يقرأها مَن يهمُّهم الأمر ولو أنني أشك،
ثم هبطتُ إلى الدرج المكسور وسط الظلام الدَّامس بعد احتراق لمبات الدرج كلها دفعة واحدة بلا سبب يُذكر، المقهى في الأسفل به القليل من رواده يتناوبون شرب (النارجيلة) وسط سُحُبٍ كثيفة من الدخان وضحكات كاذبة يحاولون بها نسيان هموم اليوم الطويلة..
اللعنة عليكم يا منافقون! لِمَا لا تنهضون جميعًا؟! الآن في محاولةٍ للانتحار الجماعي بحثًا عن سعادة أخرى في عالمٍ آخر.. حين بحثت على الإنترنت عن عقاب مَن يُنهي حياته منتحرًا وجدت على (اليوتيوب) مقاطع فيديو عديدة تتوعد لي بالجحيم بلا رحمة..
كافر زنديق.. سيتم إرسالي إلى قاع جهنم لمعرفة الدرجة المئوية لقاعها ومقابلة أبا لهب وزبانية قريش.. الغريب أنّ ذلك لم يفْتُر همتي على اتخاذ تلك الخطوة، وحين جاء الصوت من الخلف -من المقهى- يُنادي على أحدهم: أين تذهب يا يحيى؟ قلتُ وأنا أعبر السيارات المسرعة هربًا من تساقط الأمطار والرياح العاتية، قلت له بلا أدنى تردد:
- لا تعطِّلني يا جرذ.. عندي ميعاد في الجحيم مع هتلر وموسليني.
فجاء صوته ساخرًا:
- رحلة سعيدة إلى جهنم يا مجذوب!
أمام البحر على تلك الصخور المُسمَّاة بـ(البلوكات المتشابهة جميعها في الحجم والكتلة) وقفتُ أستمتع بالمطر الساقط بغزارة على رأسي المشتعلة، أشاهد البحر يزمجر في غضبٍ يضرب موجه في الصخور يلطمني رذاذه المتناثر، تطولني الأمواج شيئًا فشيئًا حتى ابتلَّتْ ملابسي تمامًا، أستجمع قوتي، آخذ نفسًا عميقًا أحاول به التخلص من لحظات الجبن، لا أشعر بالبرودة، أشعر أني تحوَّلتُ لكتلةٍ من نار لا تؤثر فيها المياه.. حتى المياه لا تطفئ وَهَجي الآن! أخلع عن نفسي (الجاكيت) الجلدي الأسود، أصبحتُ لا أرتدي شيئًا سوى (التيشرت) الأصفر ذي الأكمام القصيرة، أغْمِضُ عينيّ، أتقدم إلى حافة الصخرة في اتجاه البحر، بيني وبين السقوط خطوة.. خطوة واحدة تفصلني عن الراحة الأبدية عن تلك الحياة الكاذبة..
أسمع صوت أغنيتها القديمة:
- دعنا نستسلم للحب.. للحب لا الموت..
لِمَا يتردد صداها في أذني الآن؟!
لِمَا لا اخطوها! تلك الخطوة؟