(أبو يحيى)
في حي "مدينة نصر"، وتحديدا في أكبر شوارعها شارع "مصطفى النحاس" كان يقطن الشيخ "أبو يحيى"، كان إماما للمسجد الكبير هناك، لم يكن إماما رسميا ولا يأخذ على إمامته أجرا، ولكن أصبح إماما لأنه أقرأ القوم وأعلمهم، فرأى أهل الحي أنه الأجدر بالمحراب، وكانت أول صلاة صلاها بهم منذ سنين ليست بالبعيدة عندما غاب الشيخ "عيد" لمرضه، ذلك الرجل السبعيني الذي كان إماما لهم على مضض منهم لسوء مخارجه ولتلعثمه الكثير في الصلاة، نظر القوم في المسجد فقدموا أبا يحيى، ليس لسبب في البداية سوى توسمهم فيه الخير، و ما أن ابتدأ صلاته إلا أبهرهم بجمال صوته وإتقانه لأحكام التجويد، فثبتوه إماما بعد إبداء الرضى التام من الشيخ "عيد"، وبعد ذلك بأسابيع تأخر خطيب الجمعة المبعوث من المؤسسات الرسمية لحداثة علمه بمكان المسجد فارتبك الناس ظنا منهم أنه لن يأتي، وقام أبو يحيى خطيبا بهم فأبهرهم أيضا بقوة ارتجاله ومتانة علمه وفصاحة لسانه، ووجد الناس فيه ملاذهم وطريقهم إلى معرفة كل شيء عن الشرع يُسأل فيجيب بعلم وحجة، وما هي إلا شهور معدودة حتى ذاع صيت الشيخ أبي يحيى، لم يكن أبو يحيى بالرجل العجوز على ما يظهره اسمه بل كان شابا في الثلاثين، ولم يكن يحيى هذا ولده بل إنما هي كُنية تكنى بها تيمنا بالصحابي الجليل صهيب الرومي، ذاك الصحابي الذي ترك الدنيا لأجل الآخرة، وترك كل ما يملكه في مكة مساومة للمشركين ليقبلوا لحوقه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فما أن رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قال له "ربح البيع أبا يحيى"( ).
يعمل أبو يحيى مدرسا لمادة التاريخ للمرحلة الإعدادية إلى جانب تجارته في العطور التي عمل بها منذ صغره، و التي جنت عليه أموالا ليست بالطائلة ولكنها كفيلة أن تجعله ميسور الحال؛ وهذا ما عجل له الزواج بعد التخرج مباشرة من ابنة عمه "هداية"، هذه المرأة التي كانت له خير مُعين وخير سند منذ زواجهما، كانت له بمثابة الأم، والزوجة، والحبيبة، وكان يحبها حبا كبيرا، وبالرغم من زواجهما منذ ما يقرب من سبع سنين إلا أنهما لم يرزقا بأطفال، وهذا هو نصيب المرار من الحياة بالنسبة لأبي يحيى، ولعله كنَّى نفسه حتى يجبر نقصه لأن المانع منه، لم تشعره "هداية" قط بهذا، وكانت تكتم حزنها في قلبها، وتمنع دموعها من النزول على خدها حتى لا تسبب الحرج لزوجها وهو الذي لم تر منه شيء تكرهه قط، فهي المقَدمة عنده بعد ربه، ودائما يعاملها بلطف كأنما تزوجها منذ أيام، نعم هو مشغول عنها بين عمله وطلبه للعلم الشرعي والدعوة ولكن كل الأزواج في انشغال، والحمد لله أن انشغاله في طاعة، ولعل الله يرزقنا الأطفال ببركة علمه، هذا ما كانت "هداية" تردده دائما لتصبر نفسها، لم تفقد يوما الأمل في الإنجاب، وهو شعور مماثل لدى زوجها بالرغم من تأكيد الأطباء على صعوبة الأمر، إلا أنه كان يعلم أن الله على كل شيء قدير، وكان يدعو ربه في صلاته دائما (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)( )، كان أبو يحيى تقيا ورعا، ظاهره كباطنه، إلا أنه كانت تعتريه في بعض الأوقات بعض الكآبة نتيجة لعدم إنجابه لكن كان يُخفى إحساسه عن الناس، وما كان يصبره إلا لقاء ربه في الصلاة وقراءة القرآن، فكان يشتاق إلى دخول الليل حتى يقف بين يدي الله مستعينا به على فك كربته، وغالبا في كل ليلة يسمع صوت ضجيج من الشقة المقابلة، إنه جاره أستاذ "محمود" وصراعه اليومي مع زوجته مدام "إلهام"، ورغم أن الله رزقهما بولدهما "أدهم" صاحب السنتين والنصف إلا أنهما في صراع دائم، كل ليلة تقريبا يُخرج صراخ أستاذ "محمود" وبكاء مدام "إلهام" أبا يحيى من حالة خشوعه في الصلاة، ولكن هذا الأمر وأمثاله كان يهون بعضا من مُصابه، فما من أحد إلا وله حظ من الابتلاء، فلا صاحب الولد في راحة ولا المحروم منه، فيجعله يحمد ربه على بلواه، ولقد كان بكاء مدام "إلهام" من أبلغ ما يُأثر في وجدان أبي يحيى، فأبو يحيى رقيق المشاعر تجاه بكاء النساء كان بكاؤها يذكره ببكاء أمه، فحياة أمه تشبه كثيرا حياة هذه المرأة الوقورة في الصراع الدائم بينها وبين زوجها، لم يكن أبو يحيى يعلم حقيقة الصراع بين أستاذ "محمود" وزوجته لكن كان يغضب منه كلما سمع بكاء مدام "إلهام"، ليس لشيء سوى للذكرى المريرة التي طبعتها في ذهنه دموع أمه من قسوة أبيه، فلم يكن أبو يحي حياديا ولا موضوعيا في أي صراع بين رجل وامرأة، كان مواليا دائما للمرأة، وهذا هو سر تعامله الرقيق مع "هداية" زوجته، وكان إذا احتدم الصدام بين "إلهام" و"محمود" يفصل بينهما بكاء طفلهما فيقرران إنهاء الصراع على ضغينة باقية في قلب كل منهما، فلم يشتف أي منهما من الآخر ولكن لأجل الصغير تُنهى الحرب، وكان بكاء أدهم هو أكثر ما يجدد وجع الحرمان في قلب أبي يحيى، يتمنى لو دخل إليه ليحمله حتى يهدأ من روعه ويسكن آلامه، يردد في قلبه "ما أتعس هذا الطفل وأتعس هذين الزوجين، الحمد لله أنى لست في ابتلائهما" ثم يعود قائلا: ليت بيني وبين زوجتي صراعات وكان لنا مثل هذا الولد".
(منذر وحائر)
هما صديقان منذ الطفولة، وإن كانت البراءة جمعت بينهما في الطفولة ولكن فرق بينهما في الكبر اختلاف فكرهما، وثقافتهما، وعقائدهما، وإن تمسكا بصداقتهما وبلقائهما على فجوة بينهما في التعامل مع الأمور خصوصا في التعامل مع الدين، حائر صاحب فكر معادٍ للإسلام ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يصطدم بمنذر في كثير من الأحيان في النقاش، ولم يكن منذر يبتعد عن حائر لأجل هذا فلقد كان يرى منه خيرا كثيرا، ولم يكن حائر ليُسَعِّر قلب منذر عليه فكان يُغَلف كلامه بغلاف من الاحترام لمراعاة مشاعر منذر، ولقد انفتح بينهما الحوار مرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن إلا حوارا من مئات الحوارات المماثلة، وكان موضوع النقاش محاولة إقناع منذر لحائر أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يكون مخادعا، فما الباعث على هذا ولقد قال منذر: لا يختلف اثنان عاقلان أن تحمل أمانة الوحي المنزل من عند الله مسئولية كبرى بالنسبة إلى الأنبياء وأمر ثقيل على النفس، فهذا موسى لما علم أن الله اختاره للرسالة أشفق على نفسه أن يتحملها وحده؛ ولذلك أراد عاضدا ووزيرا يتحمل معه هذا العبأ الثقيل وطلب من الله ذلك فقال (اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)( ) واستجاب الله لموسى فقال (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)( ) وما كانت الرسالة على محمد - صلى الله عليه وسلم - بأهون من التي نزلت على موسى بل أشد، وكان الحِمل أثقل، وأبلغ ما يوضح لنا كيف كانت أعباء الرسالة على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو قوله في سكرات الموت ردا على ابنته فاطمة الثكلة التي كانت تندبه (واكرب أبتاه) فقال (لا كرب على أبيك بعد اليوم)( )، وهذا لأن حياته صلى الله عليه وسلم كانت مليئة بالصعوبات الطاحنة التي جنتها عليه دعوته إلى الحق، وآخر هذه الصعاب سكرات الموت التي يتلوها النعيم الأبدي، وما الأمر عند مدعي النبوة من الكذابين الأفاكين بالأمثل منه عند الأنبياء الصادقين، فهم يواجهون أيضا كثيرا من الصعاب، فما قام كذاب يدعى النبوة إلا وانبرى له أبناء الإسلام البررة حتى يقضوا عليه، إما عن طريق جهاد السلاح إن كان المسلمون في قوة ومنعة كما حدث في خلافة أبى بكر الصديق وقتاله للمرتدين وأتباع الكذبة من أمثال مسيلمة الكذاب ،وسجاح، والأسود العنسي، أو بجهاد الكلمة وإقامة الحجة على كذبه إن لم يكن في استطاعة المسلمين إلا هذا، كما حدث مع القدياني الذي ادعى النبوة وكان في كنف الحكومة البريطانية فما استطاع أحد أن يمسه بسوء، ولكن قام علماء بلدته من المسلمين الأنقياء وعلى رأسهم الشيخ الجليل (ثناء الله الأمر تسري) - رحمه الله - ، فأقام مع هذا الدجال المناظرات والمناقشات، ودوما كان النصر حليفا له، فكشف بهتانه، وأوضح زيغه، ونفض التراب عن غيه( )، وإن كان الأمر بالنسبة لمدعي النبوة ليس بالهين فلابد أن يكون لما يقومون به مقابل، فكثرة الأجر على قدر المشقة، وهذا المقابل إما مادي أو معنوي على حسب ما ينقص هذا الشخص الكذاب، فلا يمكن أن نتصور أن أحدا يقدم على هذه الخطوة التي تستدعي استنفار الناس عليه بغير مقابل.
وهنا علا صوت حائر مقاطعا منذر وقال مبتهجا:
-ولأجل المنفعة الشخصية ادعى محمد النبوة، فقد كان محمد يحب الرئاسة والسطوة وحب الظهور ففعل ما فعل.
- يعني أنت ترى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ادعى النبوة لأجل الشهرة ورفع الذكر؟
- هذا مما لا شك فيه، فكل من يقرأ سيرته يعلم هذا منه، وكل من يعلم شيئا عن الإسلام يتيقن من هذا، فتسمع في الأذان اسمه، وفى الصلوات تصلون عليه، ولا تجلس دقائق مع مسلم إلا وتسمع منه ذكرا عن محمد، فإذا ذكره ترى الجموع من حوله يصلون عليه؛ حبه للشهرة جعله يأمركم أن تخلدوا اسمه دائما وجعل من ترديد اسمه شرعا.
قال منذر بنغمة هادئة وابتسامة لطيفة: تحاملك ظاهر جدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفكرك لا شك في سطحيته؛ لأن ما استدللت عليه موجود عند أتباع كل نبي، فأنا لا أرى رجلا مسيحيا إلا وهو يذكر عيسى ويمجد اسمه، وهكذا عند باقي الأديان والملل، وما أرى غضبك من ذكر اسمه إلا نتيجة لتكذيبه ولا يكون مثل هذا دليلا على كذبه.
- ما معنى هذا الكلام؟
- أقصد أن كثيرا مما يُنقم على محمد - صلى الله عليه وسلم - يشترك فيه مع سابقيه من إخوانه الأنبياء، وقد تجد رجلا ينتقد محمدا - صلى الله عليه وسلم - في شيء وهذا الرجل يتبع دينا ويصدق بنبي وقد فعل نبيه مثل ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لما كذب محمدا لم يتقبلها منه وجعلها دليلا على كذبه، بينما تقبل نفس الفعل من نبيه الذي يؤمن به ويصدقه لأنه تربى على هذا، فمثلا تجد كثيرا من غير المسلمين يستدلون على عدم نبوة محمد بأنه كان كثير الزواج، وفى نفس الوقت يؤمنون بالتوراة التي فيها أن سليمان تزوج بألف امرأة وأن إبراهيم تزوج بثلاثة وكان له ملك يمين يطأهن، فقبلوا هذا من أنبيائهم، بينما جعلوا ما تقبلوه من أنبيائهم دليلا على كذب محمد عندهم.
- أنا لا أحب السفسطائية، ولا أحب الكلام الكبير، وكل ما أعرفه أن محمدا يحب الرئاسة والظهور، ولذلك ادعى النبوة
- لو مررت بعينك على سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قلت هذا عنه أبدا، ولو سمعت منه ولم تسمع عنه لعرفت أنه كان لا يحب الظهور، وأكبر دليل على هذا أنه لم ينسب الإسلام إلى نفسه أبدا.
- ما معنى أنه لم ينسب الإسلام إلى نفسه؟
- ما معنى أن يكون الشخص محبا للرئاسة وحب الظهور؟ أليس معنى هذا أنه يحب أن تُنسب إليه الأمجاد والأعمال ويُشار إليه بالبنان؟ فمن بنى مصنعا يحب أن يكتب عليه اسمه، ومن أنجب ولدا ينسبه إلى نفسه.
-هذا ما أعنيه وهو الذي كان محمد يفعله.
وفى أثناء ما كان حائر يقول هذا الكلام إذ أعلن هاتفه النقال أن ثَم متصلا، رد حائر، فإذا هو صديقهم "محمود" يعلمه بأنه في الطريق إليهم، فأجابه حائر بأنه في انتظاره، ووضع هاتفه على المنضدة أمامه، ونظر إلي منذر، فقال له الأخير مجيبا على كلامه: فما رأيك أن محمدا لم يصنع هذا؟ فلو كان القرآن من اختلاقه كما تعتقد كان من الطبيعي أن تطغى شخصيته عليه، فمن ألف كتابا لابد أن ترى آثاره في جميع أركان الكتاب، وتشتم نسماته في جوانب الحروف، وليس من هذا شيء في القرآن، ثم سكت هيينة، وأخذ نفسا سريعا، وأعقبه بسؤال مفاجئ:
-يا حائر، هل تعلم كم مرة ذُكر فيها اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن؟
-لا أعلم على وجه التحديد، ولكن تقريبا في كل سورة من سور القران.
اتسعت الابتسامة على وجه منذر، وقال: افتح حاسوبك واكتب على (جوجل) كم عدد المرات التي ذكر فيها اسم محمد في القران؟
أخذ حائر حاسوبه، وفعل ما أمره به منذر، ثم نظر إليه مستغربا.
- لك الحق أن تعجب كل هذا العجب بعد أن علمت أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم ذكر أربع مرات فقط في القران "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ"( )
"مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"( )
" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ"( )
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"( )
هل يعقل أن رجلا يؤلف كتابا يذكر فيه اسمه بهذا العدد الزهيد؟ وليس هذا بأشد العجب بل هناك ما هو أعجب.
- وما هذا؟ قالها حائر بنغمة صوت يعلوها الإحراج مع كثير من الكبر في تعبيرات وجهه.
- اكتب أي اسم من أسماء الأنبياء غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأمسك منذر قلما وورقة حتى يدون الأرقام، وجعل حائر يسرد النتائج، فقال: عيسى 9 مرات، يوسف 26 مرة، إبراهيم 69، موسى 136، وبدت عليه علامات الذهول وهو يقرأ الأرقام.
-هل من الممكن أن أحدا يحب الظهور - كما قلت أنت - يذكر أسماء منافسيه أكثر منه؟ ويكون هو بهذا العدد القليل، فإنما يدل هذا على أن القرآن لا يطلب جاها شخصيا لأحد، وإنما يريد تثبيت الأفكار، وإن عقدنا مقارنة بين القرآن وبين الكتب الأخرى، سواء المحرفة منها كالإنجيل، أو الموضوعة من أصلها كالأقدس عند البهائية، ستجد مثلا أن اسم يسوع ذكر في الإنجيل ما يقارب 932مرة، ولو نظرت في الأقدس( ) على صغر حجمه، وركاكة لفظه، وضعف منهجه لا تجد اسما يذكر بعد اسم الله بصفته المخاطِب إلا اسم البهاء، حتى أن الله في زعمهم ينادى الناس بــــ(يا أهل البهاء)، "يا أهل البهاء، قد وجب على كل واحد منكم بأمر من الأمور"( )، "ألا ترجع إلى أهل البهاء"( )، "إنه من أهل البهاء"( )، وهو بهذا يريد أن يخلد اسمه لأن كتابه باختصار كتاب شخصي، بل الإسلام يا حائر هو الدين الوحيد الذي لم يتسمَ باسم شخص.
وكان حائر مطأطئا رأسه فرفعها، ونظر إليه مستغربا، وعقد حاجبيه، ولم يتكلم. واستدرج منذر حديثه قائلا: اليهودية منسوبة إلى يهوذا بن يعقوب، والمسيحية إلى المسيح، والبوذية إلى بوذا، والبهائية إلى عبد البهاء، والقديانية إلى الغلام ميرزا أحمد القدياني، أما الإسلام فلم يُنسب إلى محمد، فنحن لم يسمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - المحمديين بل المسلمين، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)( )، والسؤال يا حائر، لو كانت هذه الأديان من عند الله لمَ يسميها بأسماء بشر من خلقه؟ ولو كان الإسلام من اختلاق محمد - صلى الله عليه وسلم - لمَ لمْ ينسبه إلى نفسه؟ بل أبعد من هذا مما يدل على أن محمدا لم يكن يبتغى بدعوته جاها شخصيا، ولا شرفا معنويا، - وإن كان الجاه والشرف متحققين له -، أنه كان يعارض أصحابه بشدة إذا صدر من أحدهم تبجيلا وتعظيما مبالغا فيه لشخصه الكريم - صلى الله عليه وسلم - سواء كان في الفعل أو القول، فيذهب معاذ بن جبل إلى الشام فيرى اليهود يسجدون لأحبارهم وعلمائهم، ويرى النصارى يسجدون لقسيسيهم ورهبانهم، فيقرر عندما يرجع إلى النبي أن يسجد تحية له، وبالفعل لما قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - خر ساجدا له، فاستغرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له "ما هذا يا معاذ" قال: إنها تحية الأنبياء. وأعلمه أنه رأى هذا في الشام، قال له النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا إياه "كذبوا على أنبيائهم، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد إلى زوجها"( )، ونهى معاذا أن يفعل هذا مرة أخرى، وشدد عليه في ذلك معلما بذلك باقي الصحابة ومن ورائهم الأمة بأكملها أنه ما أراد جاها ولا فخرا من وراء دعوته، فأي سلطة تكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس أكثر من أنهم يسجدون له؟ فلو أراد السلطة من دعوته لترك معاذا يفعل هذا، ولأمر باقي الصحابة أن يفعلوه، خصوصا أن هؤلاء قوم هان عليهم قريبا أن يسجدوا للصنم فللبشر أولى، ولكنه ما كان يريد هذا كله، إنما أراد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور.
خرجت آخر كلمة قالها منذر من فيه محاذية في الوقت لطرقات الباب، وكأن الطرقات والكلمات اتفقتا على ذلك، قام حائر ليفتح الباب فإذا هو "محمود" صديقهما، سلم على حائر، ثم جاء ليسلم علي منذر وكان جالسا، فسلم على محمود وهو على هيئته تلك، قال حائر معلقا "أليس من الواجب والأدب أن تقوم لتسلم عليه بدلا من أن تسلم جالسا"، قال حائر هذا الكلام وهو يحمل وغرًا في صدره علي منذر، وقد جعل من هذا الموقف ساحة للانتقام ليعوض هزيمته من منذر، وهنا رد محمود فقال: لقد نهانا نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن نقوم لأحد عند دخوله علينا، فكما جاء في الحديث "لم يكن أحب إليهم – أي الصحابة – من رسول الله، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك"( ) .
- ولمَ نهى عن مثل هذا الفعل؟
منذر: لأنه لم يكن يحب الرئاسة والسلطة يا حائر.
قال محمود موجها الكلام إلى منذر: والموقف الأخر الذي نهى فيه الصحابة أن يصلوا وقوفا وهو جالس، فقال حائر: ولمَ كان يصلى جالسا؟
منذر: لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مجروحا في ساقه، سقط من على ظهر فرسه فجُرح، فاضطر أن يصلى جالسا فترة من الزمن.
"ما هي الحكاية؟ أكملها" قالها حائر بشغف.
قال محمود: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسا لأنه كان مجروحا، فجاء أصحابه حتى يقتدوا بصلاته، وصلوا وهم وقوف، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا، فلما انتهى من صلاته نظر إليهم وقال: إنكم كدتم أنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا بأئمتكم هذا. إن صلى الإمام قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. ( )
- ألهذا الحد كان رسولكم لا يحب الرئاسة وحب الظهور والتسلط على الأخرين؟ قالها حائر باديا على وجهه الاستغراب مما سمع.
منذر: مع أنى أكاد أجزم أن مسألة التعظيم والإقامة على الملوك هذه ما خطرت على بال الصحابة في هذا الموقف، فإنه - صلى الله عليه وسلم - له عذر في الصلاة قاعدا وقد امتنعت عنهم الأعذار، ولكن هذه المسائل يُقدم فيها الاحتراز ويُتنازل فيها عن العبادات لأجل سلامة العقيدة، فكما أن صلاة الجنازة عندنا ليس فيها سجود حتى لا يُعتقد أن السجود هذا يقدم للميت، كذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من القيام خلفه سدا للذريعة وإبعادا لهفوات الشرك التي يتسارع إليها الناس عن إسراعهم للتوحيد.