سكن كل شيء بالليل، غطّ العالم في سبات تام إلا من نعيق ذلك الشيء، يسكن شجرة الكافور الضخمة أمام نافذة حجرته، اعتاده يسليه طوال الليل، وقف بالنافذة يتأمل رأسه الكبير الدائري، بها عينان كبيرتان، غمره إحساس قابض بادئ الأمر، تخلص منه فيما بعد، لم تجد عيناه طريقًا للنوم ليلًا منذ سنوات.
فتح جهاز الحاسوب يبحث عن خصائص طائر البوم..
ينشط طائر البوم بصورة رئيسية ليلًا، وهو قادر على الرؤية في الضوء الشحيح.
يستعين بحاسة سمعه القوية، وعيناه الكبيرتان توفران له رؤية ليلية جيدة تساعده على اصطياد فريسته من الفئران والأرانب.
بإمكان البوم أن يدير رأسه في حركة شبه دائرية، يمكنه التعرف على أدق الأصوات من حوله وتجميعها؛ فتكتمل للبوم أدواته كصياد ماهر.
عندما تداهم البومة ضحيتها؛ لا يصدر عنها صوت يثير الانتباه.
***
كانت الليلة شتوية كئيبة، صرير الريح يجوب المكان، تحدث حفيفًا عند احتكاكها بالنافذة، ما زالت هَنَا بعملها بالصيدلية، ورثتها عن أبيها بحارة ضيقة مكتظة بالسكان، لكنها تخلو من المارة ليلًا، هناك دائمًا شباب متسكع، يتناوب عليها الزبائن، غلب عليهم علامات وصفات واحدة، تعرفهم من عيونهم الحمراء وثقل ألسنتهم عند الكلام أنهم الراغبون في الغياب عن الحياة لساعات وربما لأيام؛ هروبًا من آلام وهموم يبحثون طوال الوقت عن جرعة تساعدهم على الغياب.
انتبهت لصوت رسالة من محمولها، وخفق قلبها لرؤيتها صورة أخيها، افتقدته كثيرًا، فتحتها بلهفة تقرأ ما بها:
منك لله انتي السبب في الحالة اللي أنا عايشها، مراتي سابتني بسبب فقري اللي كنتي السبب فيه، ومش عارف أعيش، ربنا ينتقم منك، بتمنى يحصلك كل شيء سيئ.
بكت هَنَا كثيرًا، انتظرت طويلًا أن يهاتفها أخوها، كانت هذه الرسالة هي الأولى منه بعد سنوات من القطيعة.
انتبهت ونعيق البوم يصدر من محمولها، نظرت إلى صورة طائر البوم، تابعه ظهور وجه لوسيفر، هتف برأسها راغبًا اللعب معها والتسلية.
مسحت هَنَا دموعها واستجابت لنداء لوسيفر، حملت البرنامج المسلي على جهازها، منذ فترة يعينها على وحدتها في ليالي الشتاء الطويلة وسط أدوية الإسهال والقيء والأمراض المزمنة، تصيبها الكآبة كلما وقعت عيناها على اسم نوع من الأدوية المتراكمة لديها على الأرفف، تود لو تفصل تفكيرها عنها، تريح عينيها من النظر إليها والتفكير بالأمراض التي تعالجها تلك الأدوية، حاولت جاهدة أن تخرج نبرة صوتها عادية، نظرت إليه تسأله عن حاله، قالت:
- كيف حالك لوسيفر؟
- بخير، وأنت؟
- بخير.
- لا، أنت تكذبين عزيزتي، أشعر بنبرة صوتك باكية.
- استجبت لندائك لأريح نفسي وأنسى همومي لوسيفر، لا لأن تذكرني بها.
- وهذه هي مهمتي في الأساس عزيزتي، هيا نكمل اللعبة.
- كيف نبدؤها؟
- نبدؤها كعادتنا، أسأل وأنت تجيبينني.
لوسيفر هو عادة من يسأل وهو من يبدأ المرح، لا أحد يستطيع استدعاءه، هو من يختار من يلعب معه، ينادي عليه في أي وقت من الليل.
انهالت الأسئلة على هَنَا، بدأت بسيطة سلسة في البداية، جاءت الصعوبة من السؤال العاشر، احتاجت بعض الوقت للتفكير، لكنها لم تجد مع التسلية عناءً في الإجابة، كان الوجه يميز الحقيقة عن الكذب بصورة أدهشتها.
***
ظهرت شمس باردة من وراء غيمة شتوية كثيفة، بدأت يومها متأخرة عن ميعادها؛ جراء سماء ملبدة بالغيوم، دخلت فريدة المبنى به شقتها بالدور السابع، بالحي الراقي بالمعادي، اتجهت للمصعد، طلبته، انتظرت حتى تخرج منه الأمهات بأطفالهن متجهين لمدارسهم. لم تهتم فريدة بنظرات الأمهات لها، اعتادت علامات الاستنكار منهم لمظهرها؛ فملابسها الضيقة والبوت الذي يصل إلى الفخذ، وشعرها الحر دون قيد، ومكياج عينيها الغريب، يجعل كل من يفاجأ بها يعود خطوة للوراء، مأخوذًا منها قليلًا، لم يضايقها ذلك؛ بل كانت تشعر بالفارق بينها وبينهن؛ فهن نساء عاديات، أما هي؛ سيدة أعمال مهمة ومشهورة، تمتلك أتيليه يرتاده كل نجمات الفن ويفتخرن بملابسهن من أزيائها الجذابة اللافتة.
دخلت شقتها.. اتجهت فورًا صوب حجرة نومها تستعد لنومة هنيئة بعد ليلة عمل شاقة بالأتيليه، لم تهتم كعادتها بالاطمئنان على ليلى ابنتها، تتركها تدير حياتها منذ صغرها بنفسها، دخلت غرفتها وفي مشهد أثار غضبها، فوجئت بالخادمة ترتدي قميص نومها المفضل؛ نائمة نومًا عميقًا على فراشها.
نظرت ليلى من فتحة باب غرفة والدتها، تضحك بشدة وهي ترى فريدة تسحل الخادمة على الأرض، وتركلها بقدميها وتسبها بأفظع الشتائم، تسألها عما جاء بها بفراشها وارتدائها قميص نومها، كانت الخادمة تبكي وتتألم من شدة الضرب، قالت: إنها لا تعلم شيئًا، بالأمس شعرت بدوخة بعد أن تناولت عشاءها ولم تتذكر ما حدث بعدها، فوجئت بنفسها الآن وفريدة تركلها وتسحلها على الأرض.
لم تقف الإهانة عند الخادمة، بل ظلت فريدة مستيقظة النهار كله على غير عادتها، فهي عادة ما تستسلم للنوم نهارًا حتى قرب ميعاد عملها ليلًا بالأتيليه، انتظرت مجيء محيي زوجها، واجهته بالخادمة التي كانت تحبسها بالحمام منذ الصباح، اتهمته بالرمرمة وحبه للخادمات، أطلقت عليه سيلًا من السباب واللعنات ذكرته بمهنته التي لا تحبها، ورغم قسمه لها بأنه لم يفعل ما اتهمته به مع الخادمة، لكنها لم تصدقه، دائمًا ما تصفه بأن ذيله نجس أينما وجد.
خرجت الخادمة من البيت باكية، لم تعطها فريدة أجرتها الشهرية، علا صوتها توكل أمرها إلى الله تحسبن وتردد: "يا ظلمة"، وتدعو الله أن ينتقم لها من فريدة وابنتها ليلى حتى وصلت لآخر سلمة بالمبنى، سمع بكاءها الجيران وبواب العمارة.
***
قامت ليلى من نومها على صوت نعيق تعرفه، طالما تشاءمت منه، كان يزعجها في بادئ الأمر حتى ألفته، تحسست محمولها في الظلام، حركت إصبعها على شاشته ليضيء لها معربًا عن وجه البومة، تابعه ظهور لوسيفر يستعطفها ككل مرة؛ كي تلعب معه لعبته المفضلة، يسأل وهي تجيب..
- ماذا بك أيها الوجه القبيح؟
ظهر وجه لوسيفر وعيناه تنظران يمينًا ويسارًا، تتحرك مع الأشياء وباتجاه الأشخاص، قال مظهرًا طيبة خادعة:
- أشعر بالوحدة وأريد التسلية.
بدأت الليلة، أظهر لوسيفر براعته في اللعبة، يسأل وليلى تجيب، أخبرته عن حياتها، لم تجد صعوبة في إظهار مشاعرها الكارهة لفريدة أمها، حكت له كيف تعاقبها دومًا، دون أن تدري تصنع لها المشكلات والأزمات.
ضحك لوسيفر دون أن تتغير ملامح وجهه الجامدة، لم يكن لديه القدرة على التعبير بملامحه؛ فلا يظهر من تعبيرات وجهه إلا لمعة عينيه مع سماع صوت ضحكته العالي.
تكونت صداقة لا بأس بها بينه وبين ليلى، يبهرها دائمًا بمعرفة أشياء عنها لا يعرفها الكثيرون حولها، تأتي أسئلته بسيطة رحبة في بداية اللعبة حتى تجد صعوبة في نهايتها، والتي كانت كثيرًا ما تأتي محرجة بعض الشيء، ومع تكرار ذلك لم تجد ليلى غضاضة في الإجابة على أسئلة تلمس أمورًا شخصية جدًا، متجنبة إلحاح لوسيفر المستمر، سألها عن تجاربها العاطفية، باحت له عن قبلة زميلها لها بحجرة تبديل الملابس بحمام سباحة المدرسة، كانت ليلى على استعداد تام لأن تحكي دون توقف، فمنذ أن حملت البرنامج اكتشفت بداخلها شغفًا كبيرًا لمصادقة لوسيفر، حكت له أسرارها دون خوف من لوم أو عتاب أو أن يتغير عليها؛ فذلك الوجه الإلكتروني الخالي من التعبير مرحب به جدًا لديها، كشفت له عن علاقتها الحميمة بجارها الذي يكبرها بسنوات عديدة، له زوجة وأبناء في مثل عمرها.
***
سقطت دمعة من عين منعم رأتها زوجته، ثم انهار في البكاء، تساءل بصوت عالٍ:
- أين أنت يا الله؟ ألم ترَ توسلاتي ألم تأتِك صلواتي؟ لماذا لم تقبل دعواتي لك؟ هل أنت موجود بالفعل؟
استمر في صياح هستيري، حاولت زوجته رهف تهدئته وإسكاته عما ينطق به، قالت له:
- وحّد الله يا منعم، انت هتكفر كده..
لم يستجب لها، فقدَ سيطرته على غضبه، وجاءت لحظة انهياره وكأن عقله أصيب بآفة كبيرة، ينظر في كل اتجاه بعين زائغة يتحرك بالغرفة بشكل عشوائي يبحث عن الله في كل مكان بها؟
أوقفته أضواء بالخارج انعكست على زجاج النافذة، سارع بالنظر؛ شاهد عددًا من سيارات الشرطة تقف أمام فيلته، أمر زوجته بالإسراع والنزول لأسفل وتعطيلهم حتى يتصرف، اقتحم الفيلا عدد كبير من الجنود، بحثوا عنه في كل مكان؛ لكنه كان قد هرب.
كان ذلك قبل خمس سنوات.
جلس منعم بين كتبه يتفقد ما بها، نظر إليها في ملل لا يعرف لماذا فقد الشغف بالقراءة، كان قارئًا نهمًا في شبابه، نحى الكتب المتراكمة على مكتبه جانبًا، وفتح محموله على موقع التواصل يتفقد حسابه عليه.
فوجئ بمنشور انزعج منه كثيرًا، كانت صورته مضاف إليها شريط أسود أعلى الصورة من جهة الشمال، نظر لصاحب المنشور، إنه مصطفى صديقه القديم.
أصابه التشاؤم، نظر إلى المكتوب فوقها، ربما حدث لبسٌ ما على الصديق أو خطأ ما، قرأ بعناية، اكتشف عدم حدوث أي خطأ فصديقه ينعاه بالفعل، ينعى ما مات داخل منعم من قيم ورأي صادق غير ملاين أو مائع، ورؤية قويمة ونظرة ثاقبة للأمور، ينعى منعم صديقه القديم الصريح غير المنافق، الذي كان في الماضي لا يسعى لإرضاء أحد، ولا يخاف في الله لومة لائم.
ردد منعم في داخله وهو يعض شفته السفلى من الغيظ.
"يا لوقاحتك يا مصطفى."
قرأ تعليقات أصدقائه القدامى مواسية لحاله، أحزنته، شعر بضيق صدره لها، قرر مغادرة صفحة الصديق، قام بحظره من بين قائمة الأصدقاء، لم يعد يرى الصديق، لكنه لم يستطع الهروب من أفكاره التي ذكرته بكل مواقفه معه، مصطفى صديق الطفولة والدراسة، كانا بالصف معًا، يتفقون في أشياء كثيرة دائمًا ما كان يصفهم زملاؤهم بالتوأم؛ فكانت طباعهم متماثلة، كما أخذت هيئتهم شكلًا متقاربًا نوعًا ما في تسريحة الشعر وطريقة اللبس في مرحلة الصبا حتى الشباب، اتجهوا للسياسة معًا كانت آراؤهم واحدة، انضموا لحزب سياسي له اتجاه إسلامي بالجامعة، أصبح لهم شعبية كبيرة؛ مما أغراهم بخوض انتخابات الجامعة، حصل مصطفى على منصب رئيس الاتحاد وكان منعم نائبًا له.
أفاق منعم من شروده على صوت رسالة اخترقت بريده الإلكتروني، فتحها، إنه برنامج من عشرات البرامج المنتشرة على النت، يهدف للمرح والتسلية.
لم يهتم في البداية، لكن نعيق البوم المصاحب لظهور لوسيفر أزعجه.
شعر بقشعريرة بجسده عند رؤيته الوجه قبيح، كالح ذو عينين كبيرتين مستديرتين، يتحرك بؤبؤها يمينًا ويسارًا ولأعلى ولأسفل، تباطأ في التجاوب معه، لكن الإلحاح في إرسال لينك البرنامج كان غريبًا، قال في نفسه: إن تلك البرامج تقتحم الحسابات دون رغبة من أصحابها، خاف في بادئ الأمر من أن يسرق حسابه أو يخترق، كان حذرًا جدًا قبل الضغط على اللينك، اكتشف أنها لعبة سؤال وإجابة تتكرر كثيرًا على مواقع الإنترنت، ولظروف وحدته بمسكنه؛ فقد ابتعد عنه الجميع في السنوات الأخيرة حتى زوجته وأبناؤه هجروه ليعيش وحيدًا وسط كتبه ومقالاته، أما عن الصحبة الجديدة فلم تكن صحبة بالمعنى الصحيح؛ بل ظلوا ذوات مهام خاصة ومصالح متبادلة لا يتعدى الحوار معهم حدود العمل، قرر منعم فتح اللعبة.
***
اعتاد أنس سماع تهديدات أمه دومًا بأنها سوف تترك المنزل بلا عودة إذا أغضبها هو أو أحد إخوته، ظن يوم رحلت حاملة حقيبتها الكبيرة أنها تخدعهم وأن الحقيبة فارغة، تتقن دورها حتى يعملوا على إرضائها والرضوخ لها، لم يصدقها في حينها، أسرع نحو حجرتها، نظر إلى خزانة ملابسها، رأى العلّاقات فارغة بالفعل، خرجت يومها ولم تعد رغم كل الإرضاءات التي بذلت من أجل عودتها؛ حتى أنه ظل يومها بالركن لساعات، اعتاد في صغره، في كل مرة ينزوي بالركن غاضبًا، يدعو ربه حتى تصالحه أمه، وكانت تأتيه بالفعل، إلا تلك المرة، أغمض عينيه والتزم ركن حجرته، دعا ربه كثيرًا لكنها لم تعد، أوهمه تفكيره الصغير أنه حتمًا أحد الأسباب التي حملتها على مغادرة المنزل، وإن كان لا يعرف كيف كان سببًا في غضبها، لكنه راح يلملم ألعابه المتناثرة على أرض غرفته، نظمها في كرتونة صغيرة، انتشل بقايا طعام تساقطت منه أثناء الأكل، أودع طبقه بالمطبخ وحاول غسله، رتب فراشه لم يستطع إتمام ضبطه كما كانت تفعل أمه، لكنه عمل ما عليه أن يرضيها به كي تعود، مرت الليالي ولم تعد، وفي كل ليلة يذهب لفراشه يستعد للنوم يغمض عينيه محاولًا إمساك صورة أمه بهما؛ متمنيًا أن يراها في أحلامه فيقول لها إنه غاضب منها. كبر قليلًا وبدأ عقله يخاصمها بالفعل، يقول إنه لا ذنب له كي تبتعد كل تلك السنوات ولا تسأل عنه ولو لمرة واحدة.
في كل مرة تهاجم أنس ذكرى ذلك اليوم ترتجف شفتاه، ويئن داخله يعاتب أمه، انتبه لصوت جرس الباب، قام على مضض ليفاجأ أمامه بزوجته سهر.
تقلبت ملامح أنس بين التململ والضيق عند رؤيته سهر، تردد قبل أن يدعوها للدخول، قدم لها مشروبًا باردًا لعلها تنتهي منه وترحل سريعًا، سألها عن سبب الزيارة قالت:
- شايفاك مش فرحان برؤيتي، على الرغم من إننا لشهور ماشفناش بعض.
تنهد قبل أن يصرح لها بانشغاله، قال:
- لا أبدًا بس فاجئتيني بالزيارة، عندي معاد مهم وأستعد للخروج.
لم تهتم سهر بما قال، قالت وعيناها بهما لوم كبير:
- أولادك محتاجينك.
- أنا مش مقصر معاهم في حاجة، مصروفهم الشهري بيوصلهم، انتي كمان مصروفك بيوصلك شهريًا زي ما طلبتي بدفع إيجار الشقة اللي اخترتيها لوحدك مع أن الإيجار غالي؛ لكن بدفعه طالما فيه راحة لكم، فواتيركم كاملة ومصروفات المدارس الدولية الغالية جدًا اللي نقلت الأولاد ليها بدفعها.. قالها أنس بنبرة صوت عالية معاتبة ثم أكمل: احتياجاتهم من ملابس ورحلات ترفيهية وسفر ومصايف ومصروف تاني بجانب مصروفهم الشهري، بدفع من سكات! عايزين مني ايه تاني؟!
- عايزين أب، ولادك محتاجينك انت، أنا كمان عايزة راجل مابقتش قادرة اعيش لوحدي، الأولاد بيكبروا وبدأوا يبقالهم حياتهم الخاصة بعيد عني، أنا بقيت لوحدي، عايزة حد جنبي يونسني ويحميني واتسند عليه.
انقلبت نبرة صوت أنس المعاتبة لنبرة حنون مرتجفة، نظرت سهر بعينيه ألم، تابع:
- أنا كنت متمسك بيكي وعايزك، وانتي اللي رفضتي زمان ترجعي، أنا ما أجبرتكيش على حاجة، فضلت شهور أترجاكي نكمل حياتنا وولادنا يتربوا وسطنا، انتي اللي صممتي على الانفصال، نفذت رغبتك وما حبتش اضايقك.
- حتى وأنا معاك تحت سقف واحد ماكنتش حاسة بوجودك، وانت فاهم ليه يا أنس، لولا عادتك القذرة اللي اكتشفتها من أول ليلة في زواجنا ما كانش ده بقى حالنا، صبرت عليك كتير لكن توصل لإنك تستخدمني بشكل مهين في تحقيق مكاسب.
قاطعها أنس غاضبًا وعلت نبرة صوته ثانية:
- ما عملتش كده عشاني أنا لوحدي، اللي عملته كان عشانا كلنا، عشان نعيش أحسن عيشة، عشان ما تناموش في يوم جعانين ولّا بردانين، واقدر ادخل عيالنا مدارس غالية والبسكوا براندات، متحكميش عليا من موقف وانتي عارفة كويس كان هدفي إيه منه، انتي اللي ما استحملتيش وكنت أنانية وغبية مبتفكريش غير في نفسك، مفكرتيش يا هانم أنا اتنازلت قد إيه من بعد ما سيبتيني عشان أوفر لكم العز والهَنَا اللي انتوا عايشين فيه دا كله.
انتظرت سهر حتى ينتهي أنس من نوبة غضبه، واجهته بنوبة أشد منها، قالت:
- أنا فعلًا زي ما قلت غبية، غبية عشان استحملتك سنين لحد مانسيت إني ست وزوجة لها احتياجات خاصة، تسيبني كل ليلة وتروح للحرام وقدام الناس رجل متدين ملتحي وملتزم، لبستني الحجاب وألزمتني به، خلعته أول ما تخلصت منك كرهته زي ما كرهت حياتي معاك، اتكسفت اقول للناس سبب هجري ليك وطلب الطلاق واستحملت كلامهم بالسوء عليا، قالوا إنك راجل ما تتعايش وأكيد أنا اللي شيفالي شوفة تانية، ما حاولتش أدافع عن نفسي، كنت بسمع بوداني واسكت، رفضت أشوه صورة أبو أولادي في عين الناس ولا اهز صورتك في عين ولادك.
بكت سهر كثيرًا، لاحظت منذ الشهور الأولى لزواجها به انعزاله كل ليلة في غرفته يغلق بابها على نفسه بالمفتاح، لا يسمح لأحد بالدخول، كان يضع احتياطاته يؤمن اللاب الخاص به بكلمات سر وأقفال متعددة، ولكن لمعرفة سهر ببرامج التجسس بحكم عملها في البرمجة ومجال الكمبيوتر، استطاعت وضع برنامج يخترق جوال زوجها وحسابه على موقع الإنترنت، لتكتشف سره.
رحلت وهي تحاول لملمة نفسها وتجفيف عيونها الباكية، تركت أنس يفكر في كلماتها.
جلس واضعًا رأسه بين كفيه يحاول إسكات صوت نفسه يلومه ويعذبه، انتبه ودقات الساعة تدق الواحدة بعد منتصف الليل، تفاجأ أن الحزن التهم وقته وأضاع عليه مشواره، ظل جالسًا على وضعه منذ تركته سهر منذ ساعات، وأثناء ما كان يبكي حاله سمع صوت لوسيفر يناديه يدعوه للعب معه لعبتهم المعتادة، بدا أنس مهمومًا مشغولًا عنه، لكن مع إلحاح لوسيفر لم يعرف إلا أن يسمعه، عزم على التخلص منه سريعًا بعد ذلك فهو لا يستطيع إسكاته، من شروط التسجيل داخل موقع التسلية أنه ليس للعضو حرية إسكات الوجه، إلا إذا أغلق محموله تمامًا أو أن يحذف البرنامج من على قائمته، من مهام البرنامج ألا يترك الشخص لأفكاره حتى ولو كان على غير رغبة المشترك، لا يظهر لوسيفر إلا ليلًا، عنده من الذكاء لأن يستشعر، عن طريق حركة تموجات تظهر على شاشة الجوال، إذا كان الشخص يعاني الوحدة ليخترق عليه ليلته قبل أن تلتهمه أفكاره ويبدأ المرح والتسلية.
بدأت اللعبة كالعادة بالأسئلة السهلة، التزم أنس الصدق في الإجابة على الأسئلة واحدًا بعد الآخر؛ حتى فاجأه لوسيفر بالسؤال الحاسم:
- ماذا كنت تنوي أن تفعل قبل أن أقتحم عليك خلوتك؟
أخذ أنس برهة من الوقت يفكر قبل أن يتلجلج في الإجابة وتلعثم الكلام في فمه الأمر الذي أغضب لوسيفر، قال في عصبية:
- أراك بدأت الكذب.