لم أعد أطيق صبرا، إنها صديقتي الوحيدة كيف لاأصارحها بهذه الكارثة؟ ربما أخشى وقع المفاجأة عليها، نعم ولكن هذا لايمنع مصارحتها بماعلمته عن هذا الطبيب المخادع، ولكن كيف أسوق إليها هذا الخبر؟ حورية فتاة رقيقة وقد قاست كثيرا في حياتها، وهاهى أخيرا تجد في الدكتوروليد ضالتها ومتنفس يعيد لها الحياة،وربما هذا مايجعل الأمور تزداد صعوبة، ولكن الى أى مدى يمكنها تحمل وقع هذا الخبر. هل أنتظر بعض الوقت لزيادة التأكد قبل إخبارها بماعلمت؟ ربما كان هذا الأصوب، ولكن إلى أن يحدث هذا ماذا عن حورية صديقتي الحبيبة، سوف يزداد تعلقها بهذا الطبيب، وسوف يستمر في خداعها وربما يصل بها الى مرحلة لايمكن العودة منها وعندها تكون الأمور قد استتبت له وتصبح حورية ألعوبة في يده؛وهنا لن أستطيع أن أسامح نفسي بعدم إبلاغها بالحقيقة التي علمتها بطريق الصدفة، والتي أعلم تماما أنها سوف تقلب الأمور رأساً على عقب؛إذاً فليس هناك مفر من مصارحتها وليكن مايكون؛ فأنا لا أقدر على تحمل هذا الأمر وحدي، وأخشى النتيجة ورد فعلها حال لم أخبرها بما عَلمت، وأيضاً لن أئتمن هذا الطبيب الألعوبان عليها بعد الآن، فقد خدعنا مظهره وبراعة حديثه وجاذبية رجولته ، ياله من آفاق، كيف طوعت له نفسه خداع تلك المسكينة .
لطالما ألححت كثيراً على حورية بضرورة الزواج ونسيان الماضي بكل مايحمله لها من ذكريات أليمة مازالت محفورة في رأسها، ولادليل على ذلك أكثر من إضرابها عن الزواج حتى هذا السن،أو حتى مجرد الدخول في تجربة عاطفية، فقد تعدت الرابعة والثلاثين من عمرها ولازالت ترى في الزواج مقبرة للإنسان بل والحياة بأكملها؛ لما لا فقد عاشت تجربة مأساوية مع زوج أم قاسي القلب، صلد الرأي،وقد ملك قلب أمها وسيطر عليها تماما فانقادت له تنفذ أوامرة وتُصدق حديثه وتعمل بمشورته ، فكان هو المقصد والملاذ والاهتمام ، بينما تلاشت الفتاة الصغيرة حورية وأصبحت شيئا ثانوياً في حياة والدتها، تحيا حياة جدباء بعدما جفت حولها منابع العاطفة والعطاء من كل الجوانب ،فهاهى أمها منبع الحب ومكمن العواطف تنساق وراء رجل بشع الطباع ، غليظ القلب ، حتى بعد مرور سنوات طويلة واكتشافها عيوبه القاتلة لم تستطع الابتعاد عنه،ولم تستطع مخالفة أوامره، استمرت معه على نفس المنوال القديم ربما خوفاُ من تكرار تجربة الطلاق، أو خشية أموراُ كانت تحسب لها بعض الحسابات المادية؛ على كل حال أستمر هذا الوضع وعاشت حورية وترعرعت تحت سقف هذا البيت الذي يفتقر الى الحنان والدفىء، وكان الجفاف العاطفي هو أهم مايميز تلك الحياة التي لم تجد فيها حورية متنفس يتيح لها الخيال الحالم والانطلاق إلى عالم الصبايا بأحلامهن الوردية وآمالهن العريضة بحياة قادمة ومستقبل ينتظرونه ويسعون إليه ، لما لا وقد عانت أيضاً في حياتها ببيت أبيها جفاف وقسوة مضاعفة عما وجدته مع زوج أمها ، فوالدها بعد الانفصال تزوج بامرأة جميلة ورائعة في كل شيء غير أنها تفتقد الأمومة ولاتملك مشاعرها، بل وعملت جاهدة على تقطيع أواصر العلاقة الأبوية حتى لاتتواصل بين حورية ووالدها، لما لا فهى تخشى على علاقتها بزوجها من تأثرها بهذه العاطفة التى بدت جارفة تجاه هذه الصغيرة، وخشيت أن تأخذه تلك العاطفة بعيدا في أتجاه آخر بعيدا عنها ، ولذلك عمدت منذ البداية على وئد تلك العلاقة والقيام بدور زوجة الأب بكل ماتحمله الكلمة من قسوة وعذاب وفتنة ووجه قبيح ومحاولة التفريق بينهما بكافة الطرق، وقد نجحت إلى حد ما في خطتها، وتجمد قلب الأب، ولكن الأهم هو ماأصاب تلك الطفلة البريئة من خوف وانكسار وتمحور حول الذات. هكذا عاشت حورية حياتها ممزقة بين زوج أم لايرى في الدنيا سوى نفسه واحتياجاته ومطالبه وتوزيع قسوته وغلظته على من حوله ليل نهار، وزوجة أب أبدلت أمومة المرأة بمشاعر القسوة والغلظة ولؤم الحيات وخُبثها وتحايلها على فريستها قبل أن تلذغ لدغتها القاتلة؛ كانت لهذه الحياة الآثر الأكبر فيما وصلت اليه حورية حالياً ، فقد جدبت عواطفها تماماً وابتعدت عن الرجال وتحاشت إقامة أي علاقة عاطفية على الرغم من كثرة المتوددين لها والراغبين في الزواج منها ، لما لا فهى على الرغم من الجفاف العاطفي الذي قاست منه كثيرا وتلك الأرض الجافة التي نبتت بها،إلا أنها أكتسبت ميزة كبيرة ربما كانت هى الفضل الوحيد لتلك النشأة، فقد استطاعت الفتاة الصغيرة أن تبلور مشكلتها في هدف واحد وهو الهروب من كل ماحولها الى ذاتها ومحاولة ثقل حياتها الخاصة؛فانكبت على قراءة القصص والروايات ومنها الى الكتب، كل أنواع الكتب ، تبحرت في قراءة الكثير والكثير، واهتمت أهتماماً زائداً بدراستها، واستطاعت الحصول على بكالوريوس التجارة بتقديرات مرتفعة وهو ما أتاح لها الالتحاق بالعمل بإحدى شركات الاستثمار الكبرى، وهى نفس الشركة التي تجمعنا سوياً، وكم كانت سعادتنا عندما جمعنا عمل واحد ومكان واحد، إننا صديقتان لم نفترق طوال حياتنا، نشأنا معاً وجمعت بيننا سنوات الدراسة الأولى في مراحلها المختلفة ثم الجامعة، وهاهو العمل يوصل تلك الأواصر ويزيدها متانة ،نعم ربما باعدت بيننا الأيام فترات قليلة عندما تزوجت بعد التخرج من الجامعة وابتعدت قليلاً في سكن يبعد عن منطقتنا التي تربينا بها وسط البلد في القاهرة الكبرى،تلك المنطقة التي شهدت ذكرياتنا سويا في شوارعها الفسيحة والمحلات على جانبيها ونحن نتسكع معاً في ليالي الصيف الجميلة بين أذدحام الناس ، وأفيشات الأفلام على دور السينما المنتشرة في تلك المنطقة ، ثم نعرج إلى كورنيش النيل لنأكل بعضاً من كيزان الذرة، وتأخذنا روح الشباب بالتمشية على كوبري قصر النيل لمشاهدة روعة مياه النهر المتدفقة والمراكب تتراقص فوقها بزينتها وافراحها وركابها، منها المسرع ومنها المبطيء وقد أشتعلت أنوارها تضيء ظلام الليل، تنطلق من بعضها الأغاني الصاخبة والتي على انغامها يرقص الفتيان والفتيات في مظاهر فرح تبهج النفس وتبعث الغبطة .
ابتعدت عن حورية تلك الفترة التي ربما كانت شخصيتها قد تبلورت فيه وتمحورت حول ذاتها، فهى لم تجد من تتبادل معه الحديث وتُخرج شحنتها وتفيض بمافي مكنون نفسها. كنت ألتقي بها في بعض الزيارات لبيت أبي ولكنها كانت زيارات قصيرة أعود بعدها الى بيت زوجي في منطقة الزمالك، وعلى الرغم من أحاديثنا المتصلة في الجوال إلا أنها كانت مكالمات قصيرة لاتتيح لإحدانا الفضفضة وإخراج مكنون مشاعرنا، فكنا نكتفي بالأحداث اليومية والاطمئنان على الأحوال وما إلى ذلك مما لايغني من جوع . أستمر بنا الحال هكذا حتى كانت المسابقة التي جمعتنا سوياً مرة أخرى وعن طريقها تم قبولنا بالعمل في تلك الشركة وكنا وقتها في الثامنة والعشرين من عمرنا، وهانحن نعمل سوياً وعُدنا نلتقي يومياً بحكم عملنا ونتبادل الحديث في أدق تفاصيل حياتنا، لما لا ونحن معاً منذ ولادتنا وإلى الآن ونعلم عن بعضنا أدق الأسرار،فما يربطنا ذكريات طفولة وشباب وحياة كاملة .
حاولنا مرارا الضغط على حورية في مسألة الزواج خاصة وقد تقدم لها العديد من الشباب في مراكز وأوضاع اجتماعية ممتازة، لما لا فهى فتاة جميلة، بل رائعة الجمال ، وعلى الرغم من قسوة الحياة التي عاشتها إلا أنها بها من الرقة مايفوق جمالها ، ويضاف على ذلك ثقافة كبيرة استخلصتها من القرأة منذ صغرها ؛ وهو ما جعل منها شخصية جاذبة للجميع رجالاً وشباباً، ولكن هذا بالطبع قد خلق لهاالكثير من العداءات النسائية ،فالغيرة طبع نسائي لايمكن تقويمه،وتجد طريقها للنساء ممن تكن تلك صفاتها ، فالجمال يُولد الغيرة ويشعل الصدور، وقد أدركت حورية هذا الأمر منذ أن كنا في الجامعة وبدأت بعض الزميلات في ترتيب المكائد وإطلاق الشائعات عليها وعلى حياتها الخاصة وعلاقتها ببعض الزملاء،وقد تعاملت حورية بذكاء مع تلك المكائد والشائعات وأستطاعت لملمة الأمور وإعادة الأسهم الى صدورهن دون الدخول في معترك القيل والقال والتدني إلى مستوياتهن ؛ وبذلك تمكنت من أكتساب حب الجميع واحترامهم،وألزمت الكل الحدود التي رسمتها لهم دون أن تجرح أحدا منهن أومنهم ، وهكذا استمرت حورية في العمل أيضا مع الزملاء والزميلات حتى دان لها الجميع بالاحترام والتقدير ،وإن كان البعض منهم زاد عن ذلك وحمل لها مشاعر حب تضاف الى ماسبق ولكن دون تجاوز أو تصريح . وفي خضم ذلك حاولنا كثيرا حثها على قبول أحد الشباب للزواج بها ممن تقدموا لها أو أحد الرجال بعد ذلك وبعد أن مر بها العمر دون زواج ممن لم يوفقوا مع زوجاتهم أوصاحبتهم ظروف اجتماعية معينة و ضاقت عليهم حياتهم وأخذوا يبحثون عن زوجة تعيد لهم الحياة والسكينة، غير ان الرفض والرفض القاطع كان هو الرد الجاهز والمستمر؛ تَفهمت تماماَ سبب رفضها وأصرارها عليه؛ فقد عشت معها وأعلم كل كبيرة وصغيرها في حياتها ومعاناتها الكبيرة من زوج الأم وزوجة الأب، وأم تعيش السلبية الكاملة، وأب ينطلي عليه الخداع ويستسلم لزوجة أب قادرة ولايجد في النهاية سوى الخضوع والخنوع،والضحية في كلتا الحالتين هى حورية، نعم تَفهمت موقفها وسبب رفضها الزواج والارتباط طوال هذه الأعوام ، وتفهمت أيضا العيب الخطير في حورية وهو صلابها رأسها ، فهي عندما تتمسك برأي تصمم عليه وتحارب من أجله بكل قوتها،ولا ترى من حَولها ولا تسمع لهم ، فهى صلدة الرأس ولاتلين لرأي ولاتُقنع بالبراهين،هكذا هى وهكذا عرفتها وأحببتها وباتت صديقتي الوحيدة وصندوق أسراري وكذلك أنا لها .
- مامي.. مامي ،أنا جعان.
- هيثم حبيب مامي ، حاضر حبيبي ، بابا زمانه طالع من صلاة الجمعة ، ونتغدى سوا.
- أنتِ سايباني لوحدي من الصبح وأنا خلصت الواجب كله، موش هاتيجي تصححيه معايا.
- حاضر ياحبيبي ، بس هاخلص الغداعلى بابا ماييجي ، وبعد الغدا نذاكر سوا، أقعد هنا ألعب شوية في التابلت على ما أجهز الغدا.
يبدو أن الوقت سرقني وأنا أفكر في مشكلة حورية ، وهاهى صلاة الجمعة قاربت على الأنتهاء، وهشام زوجي على وشك الحضور، والغداء لم يجهز بعد ، يالا مشاكل المرأة ، حتى يوم الإجازة هى مهمومة بواجباتها ، لاراحة إطلاقاً ، تحمل هم الصغير والكبير،يالها من حياة كلها مشقة.
يبدو أن هشام قد أتم الصلاة فهاهو جرس الباب يدق دقات متتالية مزعجة ، ياله من شيء عجيب ، لماذا لايفتح بالمفتاح ؟أليست المفاتيح معه، ماهذا الإزعاج ؟
- انتظر .. انتظر .ها أنا قادمة لفتح الباب.
- لماذا لم تفتحِ بسرعة ؟
- كنت بالمطبخ أعد الغداء وعندما سمعت الجرس جئت على عجل .
- خذي هذه الأكياس من يدي ، فقد أشتريت لك الفاكهة وبعض الخضروات التي طلبتي شراءها .
- نعم هذا جيد ، ولكن أين الخيار؟ لم تُحضر الخيار وقدأكدت عليك بضرورة شراءه لعمل السلطة .
- لم أجد أحدا يبيع خيارا، كما قلت لكِ سابقا أنه بعد الصلاة يتوافد بائعي الفاكهة فقط أمام المسجد، والكثير من المصلين يشترون الفاكهة لبيوتهم ، ونادراً ما نجد بائع خضروات ، وقد قلت لكِ ذلك مرارا وتكرارا .
- أوك .. فليكن، سأذهب لاستكمال إعداد الغداء، ولا تسأل عن السلطة. – أوك .. سأذهب أنا الآخر لأخذ دش حتى تنتهي من إعداد الطعام، وماذا عن هيثم ؟ هل أنهى واجباته؟
- نعم أنهاها.
- عظيم .. هل راجعتيها معه؟
- لا.. لم يكن عندي وقت ، بعد الغداء يمكنك أن تراجعها معه .
- أوك ..تمام.
تذهب ريهام إلى المطبخ وهى تتمتم مع نفسها بصوت خافت.
- يالا تلك الحياة، لاتعطي كل شيء، ماذا لو أعطت كل انسان مايحبه ويتوق إليه، زوجي هشام رجل طيب، أخلاقه حميدة، يقوم بواجباته على أكمل وجه ، في نظر الكثير هو زوج مثالي، وهو كذلك بالفعل، ولكن ينقصه شيئاً واحد، وهو الأهم بالنسبة لي، التعبير عن عواطفه،القدرة على الاحتواء،المشاعر الفياضة التي تُشعل الأشواق وتُفجر براكين الوجدان ، معه أفتقد الحب، الحب كما أفهمه أنا وليس كما يفهمه هو، أفتقد التدفق العاطفي الذي يأخذني الى السحاب ويُحلق بي فوق سماء الواقع، لماذا هو كذلك؟ لقد تحدثت معه كثيرا، بل ورجوته أن يحاول أن يحتويني بمشاعره ،ولكنه يفتقد الفهم خاصة في تلك النقطة، ويرى أنه يقوم بكل ماعليه من قضاء حوائج البيت، وتلبية طلباتي وطلبات هيثم ، ويُعد ذلك قمة التعبير عن الحب والاحتواء، لقد سئمت تلك العيشة الجافة، وضقت ذرعاً بهذا الفراق الوجداني بيني وبينه، بل كدت أخشى على نفسي الفتنة وأنا أرى هؤلاء الرجال اللذين يثيرون الوجدان ويلهبون المشاعر، أراهم وأجدهم في كثير من الأماكن، في الشركة التي أعمل بها،والعملاء اللذين يأتون لانجاز أعمالهم، يالهم من بشر فوق البشر، كم أتوق إلى رجل من هؤلاء الرجال ، يأخذني إلى عالم آخر بعيد عن أرض الواقع، بعيد عن تلك الحياة ، حتى وأن كانت دقائق قليلة كل يوم تفصلني وتمنحني الطاقة التي استطيع أن أكمل بها واقعية الحياة ومشاكلها، لكن ماذا عساي أن أفعل وزوجي هكذا، به الكثير من الصفات الحميدة ، ولكنه ليس الأفضل بالنسبة لي .ولكن ماذا أفعل؟ ليس أمامي سوى الاستمرار، من أجل هيثم، من أجل البيت ، من أجل هشام الطيب ، من أجل كل شيء لابد من التضحية والاستمرار .
- مامي.. مامي.. أنا جوعت أوي ، هو لسه كتير على الأكل.
- خلاص ياهيثم ياحبيبي ، أنا هاغرف الأكل ، ثواني وكله هايكون جاهز ، بس يطلع بابي من الحمام .