رفع هاتفه المحمول أمام وجهه الباكي بعد أن ضغط على زر تشغيل البث المباشر ليقوم ببث تلك اللحظات على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قرب الهاتف قليلًا من وجهه لتظهر دموعه الغزيرة وقسمات وجهه التي تعبر عن الحزن وفقدان الأمل، التقط أنفاسه بصعوبة ونظر نظرة وكأنها النظرة الأخيرة قبل أن يقول بصوت ضعيف ومُتقطع:
- قراري هذا هو الأصعب خلال حياتي، لم أكن أتخيل أن أكون في هذا الموقف بعد أن كنت أُهاجم كل مَن اتخذوا قراري هذا، لم أعد أتحمل الحياة؛ أنفاسي تلك لا تُحييني بل تنفث في نيران قلبي، البقاء على قيد الحياة يُدمر ما بداخلي، بحثت عن سبب لكي أتراجع عن قراري لكنني لم أجد، سامحوني واذكروني بالخير
أنهى حديثه ثم وضع هاتفه أمامه وسنده على الحائط قبل أن يرفع مسدسه ويوجهه إلى رأسه، انهمرت عبرة أخيرة من عينيه مع انطلاق رصاصته التي اخترقت رأسه ليسقط قتيلا في الحال.
***
"ها أنا الآن بداخل تلك المدينة التي يطلق عليها البعض المدينة المشهورة، طالما تمنى الجميع أن يقومون برحلة قصيرة إلى هنا نظرًا للشهرة التي أخذها هذا المكان، في الحقيقة الوضع هنا ليس كما يعتقده البعض؛ الأنظار تتوجه دائمًا إلى ما يتحدث عنه الجميع وتبدأ الرغبة في مُعايشة هذا الأمر وكل هذا في سبيل إشباع رغباتهم الداخلية والتي تُصور لهم أن ما يقومون به عمل بطولي، سبب تواجدي هنا اليوم ليس لهذا السبب الذي ذكرته ولكن للتحقيق؛ التحقيق في كل هذه الجرائم التي كانت لها دور كبير في شهرة هذه المدينة الضخمة، دعوني أُعرفكم بنفسي، أنا أُدعى «طيف» وأبلغ من العمر ثلاثين عامًا، أعمل ضابطًا برتبة مقدم، تم تكليفي بالسفر إلى مدينة "أوجاست" أو كما يُطلق عليها "مدينة المُنتحرين"، أعتقد أنكم عرفتم الآن سبب شُهرة هذه المدينة"
أنهى كتابة كلماته تلك على ورقة تعلو حزمة أوراق ثم ابتعد عنها وفرد ذراعيه في الهواء قبل أن يقول بحماس:
- يعتقدون أن هناك لغزًا بالأمر لكنني أعتقد أن سكان تلك المدينة يقتلون بعضهم البعض.
نهض من مكانه واتجه إلى الطابق الأول حيث توجد عائلته الذين انتقلوا حديثا إلى هذا المنزل بسبب وظيفته الجديدة.
نزل الدرج بسرعة كبيرة وعلى وجهه ابتسامة هادئة، وصل إلى الطابق الأسفل ليجد شقيقته الصغرى «چودي» التي قالت بمرح كعادتها:
- أرى الابتسامة على وجهك، كنت أعتقد أنك ستُصاب بالاكتئاب عندما تصل إلى هنا حيث فقدان الأمل والانتحار
لوى ثغره بعدم رضا قبل أن يرفع كفه أمام وجهها وهو يقول باعتراض:
- إن حدث لي شيء ستكونين أنتِ السبب، لا يوجد في تلك المدينة ما يدعو للقلق، سلسلة جرائم وسيقوم شقيقكِ بكشف هذا الأمر قريبًا.
لوت ثغرها قبل أن ترفع أحد حاجبيها وهي تقول بمرح:
- هل تعلم شيئًا؟ التكبر قد تمكن منك.
ضحك على جملتها الأخيرة وردد بهدوء:
- أخبرتكِ سابقًا أنها ثقة بالنفـ...
وقبل أن يُنهي جملته التي سبق و أن قالها مرارًا وتكرارًا ارتفع صوت هاتفه مُعلنًا عن وصول مكالمة، توقف عن الحديث ودس يده بجيب بنطاله ثم رفع هاتفه أمام عينيه ليرى مَن يهاتفه فوجده صديقه المقرب «طارق»، أسرع وضغط على زر الإجابة ثم انصرف من أمام شقيقته وهو يقرب الهاتف من أُذنه قائلًا:
- أنت دائمًا تُحدثني من أجل المصائب والجرائم، هل هناك جريمة قتل أم ماذا؟
أسرع صديقه وقال بتوضيح بعد أن ابتعد عن مسرح الجريمة:
- أنت على حق ولكن تلك المرة جريمة انتحار، أهلا بك في مدينة المُنتحرين
ابتسم بهدوء ومرر يده الأخرى بين خصلات شعره وهو يقول بتعجب:
- لقد وصلت منذ أقل من ساعتين، ما هذه السرعة يا أخي؟!
جاء الرد من صديقه الذي قال مازحًا:
- هل وصولك إلى هنا من أجل المرح؟ أنتَ هنا من أجل التحقيق، هيا إنني بانتظارك، سأُرسل لك العنوان
أنهى المكالمة معه ثم التفت ليجد شقيقته تستمع إليه وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وما إن وجدته قد أنهى المكالمة حتى قالت بابتسامة:
- أرى أن العمل قد أتى إليك على طبق من ذهب
دس هاتفه في جيب بنطاله مرة أخرى ثم تحرك تجاهها وهو يقول بابتسامة:
- مَن يسمعكِ تتحدثين يظن أن هذا العمل بمدينة الملاهي، ارحلي من أمام وجهي .
ضحكت ورحلت بالفعل، بينما توجه هو إلى الخارج حيث سيارته التي فتحت بابها من تلقاء نفسها عندما اقترب منها فاستقل المقعد الأمامي خلف المقود ليتم إغلاق الباب كما فُتح. تحركت السيارة بعد أن ضغط على زر جعلها تتحرك دون أي تدخل منه ؛ فهو قد تركها وبدأ في تصفح هاتفه وتحديدًا حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
كان الحديث يخص حادثة الانتحار الجديدة وكان الفيديو الخاص بالحادث قد حذف لذلك قرر أن يلج إلى تطبيق آخر ليرى هذا التسجيل المباشر للانتحار وبالفعل وجده، شاهده باهتمام وما إن انتهى حتى ردد بحيرة:
- ماذا يحدث في هذه المدينة؟
قطع تفكيره صوت أحد المارة بالشارع وكانت ملابسه غريبة للغاية حيث ردد بصوت مرتفع:
- بدأت، بدأت ونحن في غفلة، بدأت العلامات
هدأ من سرعة سيارته قليلًا لكي يستمع إلى هذا الغريب الذي تابع:
- نحن أهل النار، أخذت الريح المؤمنون، نحن الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
لم يفهم حديثه العجيب لذلك قرر الرحيل ولم يضع هذا الأمر في قائمة اهتماماته.
وصلت السيارة إلى موقع الحادث ثم ترجل منها و تحرك إلى الداخل ليجد صديقه المقرب «طارق» الذي قال بصوت شبه مرتفع:
- ها أنت قد وصلت
ابتسم ابتسامة هادئة ونظر إليه قائلًا:
- نعم وصلت، أشعر بأن تلك المدينة مسكونة بالأشباح، رغم الشهرة التي اكتسبتها إلا أن الشوارع شبه خالية من الأفراد
هز رأسه بالإيجاب والتقط أنفاسه قبل أن يردد بجدية:
- لابد أنك شاهدت أيضا غريب الأطوار الذي يجوب الشوارع
- نعم شاهدته لكنني لم أستمع كثيرا له، لنتحدث في العمل، لقد شاهدت المقطع المصور لانتحار هذا الشاب، تلك المرة سنحقق في أسباب الانتحار، أعتقد أن ما يحدث هو هوس الأشخاص بالشهرة لذلك يقدمون على الانتحار والدليل أن الانتحار كان خلال بث مباشر على موقع التواصل الاجتماعي الأكثر شهرة
حرك رأسه بمعنى "لا" وقال بجدية واضحة:
- لا أعتقد ذلك؛ أنت شاهدت ما تريد أن تشاهده، الحزن وفقدان الأمل كانا يسيطران على وجهه بالكامل، لم ينتحر من أجل هوس الشهرة
رفع كتفيه وردد بنبرة تحمل الشك:
- من الممكن أن تكون على حق ولكن دعنا نحقق بالأمر أولا ونترك الحكم للنهاية.
بالفعل قررا التحقيق في تلك القضية لعلهما يصلا لحقيقة مختفية. اقترب «طيف» من زوجة القتيل وجلس أمامها قبل أن يلتقط أنفاسه ليقول بنبرة تحمل الهدوء:
- معذرة، أعلم أنكِ غير قادرة على إجراء حديث معي ولكنني أحتاج إلى حديثكِ للغاية، كثرت تلك الحوادث في المدينة وربما ما ستخبرينني به سوف يساعد على إنهاء هذا الأمر
مسحت عبراتها التي جعلت وجهها لامعًا ثم رفعت رأسها لتنظر إليه بانكسار واضح قبل أن تقول بنبرة ضعيفة تحمل الألم والحزن:
- سأقول لك؛ لعل ما أقوله يساعد في إنهاء هذا الكابوس المخيف، زوجي يعمل كاتبًا وله الكثير من الروايات والكتب، كان يرفض فكرة الانتحار كثيرا، كان دائما يقول كيف يخسر المرء الدنيا والآخرة معًا؟ كان يحب الخير وابتسامته ملازمة لوجهه على الدوام، كان بخير منذ يومين ويمزح ويذهب ويعود، لكن بالأمس تبدل حاله، أصبح عابس الوجه، كان التوتر يظهر بشكل كبير عليه وعندما سألته أجابني ببساطة لا أعلم كيف تبدل حالي؟ ولكنني لست بخير، في صباح هذا اليوم فوجئت بما حدث! لم أكن أتوقع أن يكون هو المنتحر الجديد في هذه المدينة الملعونة
لم تسيطر على نفسها وبكت بينما رفع هو بصره ليرمق صديقه ثم عاد لينظر إليها قبل أن يقول:
- أسأل الله أن يلهمكِ الصبر والسلوان
هنا تحدث «طارق» الذي وجه حديثه إلى زوجة القتيل قائلًا:
- كان كاتبًا فهل نستطيع قراءة آخر ما كتبه قبل رحيله؟
هزت رأسها بالإيجاب ونهضت من مكانها ثم تحركت باتجاه المكتب وتحرك الاثنان خلفها. فتحت دُرج المكتب وأخرجت حزمة أوراق ثم وضعتها أمامهما فبدأ «طيف» بقراءة العنوان الخارجي وكان "ضل سعيهم" وكانت أسفل هاتين الكلمتين كلمة "الانتحار".
قلب تلك الورقة وبدأ في قراءة المقدمة التي كانت:
"يعتقده البعض وسيلة للهروب من الواقع ولكنهم يجهلون أنه هروب الواقع من بين أيديهم، راحة لحظية تكون فقط بداية لجحيم لا ينتهي، جريمة عقابها الندم الأبدي"
رفع أحد حاجبيه ونظر إلى صديقه ليقول بحيرة:
- هل كنت تتوقع أن ينتحر مَن قام بكتابة تلك الكلمات؟!
فرك فروة رأسه بحيرة وأردف:
- لقد أخبرتك أن ما يحدث غريبًا وليس له علاقة بالشهرة، انظر له كان يهاجم المنتحرين وبدأ في كتابة كتاب عنهم والآن هو منهم!
جلس «طيف» ليفكر في الأمر وظل على حالته لأكثر من دقيقتين قبل أن يرفع رأسه قائلًا:
- أحيانًا نهاجم بعض الأفعال الناتجة عن بعض الأشخاص لكننا لم نضع أنفسنا مكانهم، هو هاجمهم لكنه تعرض لموقف ما جعله لا يتحمل فأصبح منهم
هنا خرج صوت الزوجة التي قالت باعتراض:
- لم يتعرض زوجي لشيء جعله يفكر في الانتحار، لقد أخبرني أن الأمر غريب وكأن روحه ترفض البقاء في جسده
ضيق «طارق» ما بين حاجبيه وقال بحيرة:
- لابد أن يكون قد حدث شيء، إقدامه على فعل كهذا بالتأكيد خلفه سبب قوي
هنا استعد «طيف» للرحيل وردد بنبرة شبه مرتفعة:
- لكي نكون على صواب يجب أن نحقق في أكثر من قضية وليس واحدة، لنرى أسباب الآخرين ونحاول ربط الأمور ببعضها
وافقه صديقه على ذلك ورحل معه إلى الخارج وما إن وصلا لسيارته حتى قال:
- سأذهب معك، سيارتي تعطلت صباح اليوم ولا أعلم سبب هذا العطل
ابتسم وقال مازحًا:
- لابد أنها قد قامت بالانتحار
ضحك على ما قاله وردد باعتراض:
- أنت لا تتغير، دائما ما تحول الحوار أيا كان لمزاح لا ينتهي
ضحك وأشار إلى السيارة ليتابع مزاحه قائلًا:
- لو لم أقم بفعل هذا ستجدني المنتحر القادم، هيا استقل السيارة، سنذهب أولا إلى المسجد لأداء الصلاة
ضيق ما بين حاجبيه وردد بتعجب:
- مسجد؟!
استقل سيارته ورفع صوته ليجيبه:
- نعم المسجد، لما كل تلك الحيرة؟! هيا بنا
هز رأسه بالإيجاب واستقل المقعد الأمامي بجواره قبل أن يقول بهدوء:
- لقد مضى وقت طويل وأنا لا أصلي، لولا أنك ذكرتني الآن لبقيت حياتي بأكملها لا أصلي
لم يفهم القصد من تلك الجملة لكنه ابتسم وقال مازحًا:
- من الجيد أنني ذكرتك حتى أكتسب الحسنات؛ أنا في احتياج شديد لها
انطلق بسيارته في الطريق بحثًا عن مسجد قريب بعد أن أبلغه صديقه بعدم معرفة مسجد قريب من هنا. اضطر للتوقف عدة مرات ليسأل المارة وفي كل مرة يسأل فيها عن مسجد قريب كانوا ينظرون إليه بتعجب ولا يُجيبون مما جعله يقول بحيرة:
- ما الذي يحدث؟ حقًا لا يوجد مسجد بهذه المدينة؟!
في تلك اللحظة صدر صوت صديقه الذي أشار بإصبعه إلى الأمام وهو يقول بحماس:
- مسجد، هناك مسجد قريب، أنا أراه من هنا
شعر بالسعادة لأنه وجد ما يبحث عنه وقاد سيارته إلى الأمام وهو يقول:
- وأخيرا وجدناه
توقفت السيارة أمام المسجد وترجل هو وصديقه منها قبل أن يقترب من الباب المغلق للمسجد. طرق عليه بهدوء فلم يفتح له أحد، رفع أحد حاجبيه ثم نظر إلى ساعته ليقول بتعجب:
- إنه وقت الصلاة!
وقبل أن يتحرك تفاجأ برجل ذي لحية قصيرة قد أصبح على مقربة منهما وردد بابتسامة:
- هل أتيتم للصلاة؟
أجابه «طيف» بعد أن حرك رأسه بالإيجاب:
- نعم، سؤال غريب شيخي
هدأت ابتسامته قليلا ووضح المقصود من سؤاله:
- سامحني فأنا سألتك لأنني لأول مرة منذ شهور ألتقي بمَن يأتي للصلاة في هذا المسجد
نظر إليه «طارق» وقال بتساؤل:
- هل تصلي وحدك كل يوم؟
حرك رأسه بالإيجاب وأجاب على سؤاله:
- نعم، لحسن حظي أنكما هنا اليوم، هيا بنا ندخل
بالفعل دلفوا إلى داخل المسجد بعد أن قام الشيخ بفتح بابه، توضأ «طيف» ومعه صديقه «طارق» ثم قاما بأداء صلاة السنة قبل أن يقيم الشيخ الصلاة ويقف في المقدمة ليصلي بهما.
***
تركت غرفتها بعد أن قامت بتنظيفها وتوجهت تجاه والدتها التي أنهت صلاتها للتو ثم جلست على ركبتيها أمامها قبل أن تقول بابتسامة:
- تقبل الله منكِ أمي
ربتت الأم على يدها بحب وهتفت بهدوء:
- بارك الله فيكِ ابنتي
التقطت أنفاسها بعد أن مهدت لما جاءت لأجله ثم قبضت على يد والدتها بحب قائلة:
- هل اتخذتِ القرار؟
رفعت أحد حاجبيها ورددت على الفور:
- أتقصدين الرحيل؟
هزت رأسها وأردفت بحماس:
- نعم
رمقتها بنظرة تحمل الحزن وهتفت بنبرة جادة:
- حياتنا في تلك المدينة، هنا توجد ذكرياتنا وهذا هو منزلنا الذي شهد على الكثير، شهد على حزننا وشهد على سعادتنا، كيف نرحل ونترك كل ذلك خلفنا؟
شعرت بالحزن لرفض والدتها الرحيل وحاولت إقناعها برأيها قائلة:
- أنا أعلم كل ذلك أمي، كل مَن في المدينة يموتون، انتشر الانتحار هنا أكثر من شرب القهوة الصباحية، الانتحار بدون سبب واضح، أخشى أن أكون أنا التالية
- لا تقولي ذلك، أنتِ لا تفعلي ذلك أبدا كما أن الله دائما معنا ولا يتركنا وحدنا، الابتعاد عن طريق الله سبب صريح لانتشار الانتحار، ثقي في الله خيرًا
عقدت ما بين حاجبيها وأصرت على ما جاءت لأجله قائلة:
- أنا دائما أثق في الله خيرًا، ولكن صديقتي المفضلة كانت قريبة من الله ولا تقصر في العبادة بل كانت أكثر تدينًا مني ولكن في النهاية أصابها ما أصاب أهل تلك المدينة وقامت بالانتحار، ما يحدث هنا غريب، الانتحار ليس لسبب واضح، انتشر الخوف في المدينة، أرجوكِ أمي لا أريد البقاء هنا
في تلك اللحظة جاء الأخ الأصغر لـ «تيرا» وأردف بجدية:
- أين قميصي يا أمي، لا أجده في خزانة ملابسي
في تلك اللحظة أجابته الأم بهدوء:
- ستجده يسارًا خلف الملابس الخاصة بالخروج
رفع أحد حاجبيه وردد:
- لقد بحثت عنه هنا ولم أجده؟!
ابتسمت الأم ورددت بتحدٍ واضح وهي ترمقه:
- وماذا لو جئت وأخرجته لك من هذا المكان؟
ضحك وعقد ذراعيه أمام صدره ليقول بتحدٍ أكبر:
- لن تجديه فأنا بحثت جيدا
نهضت من مكانها قبل أن تقول:
- حسنا دعنا نرى
***
انتهت الصلاة والتفت الشيخ ليكون وجهه إلى المصلين وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة أسرع «طيف» وقال متسائلًا:
- هل سكان تلك المنطقة غير مسلمين؟
حرك رأسه بمعنى "لا" وأجابه قائلًا:
- يوجد الكثير من المسلمين هنا ولكن كما تشاهد أنت، لا يوجد مُصلون
عقد ما بين حاجبيه وهتف متسائلًا بنبرة تحمل الحيرة:
- لماذا؟ هل الساعة قريبة كما يُقال؟
ابتسم الشيخ واعتدل في جلسته قبل أن يوضح له قائلًا:
- لابد أنك استمعت للرجل الذي يجوب شوارع المدينة، لكي أوضح لك الأمر فالساعة اقتربت منذ مولد الرسول صلى الله عليه وسلم. من علامات الساعة بعثة النبي محمد، وبعثته دليل وعلامة على قرب الساعة، وأنها أول أشراط الساعة الصغرى. فعن سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله ﷺ قال بإصبعيه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام: "بُعِثت والساعة كهاتين"، وقال أيضًا: "بعثت في نَسَم الساعة". وهذا دليل على اقتراب الساعة كما أن من علامات الساعة عودة الإسلام غريبًا كما بدأ. في الحديث: "بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ"، وقول النبي: "وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ". هذا بالفعل ما يحدث الآن، عندما تسأل أحدًا عن الصلاة وعن أماكن المساجد ينظرون إليك بتعجب وحيرة كما أن المساجد أصبحت خالية!
شعر «طارق» بالرعب من حديث الشيخ وردد على الفور:
- وكيف حدث ذلك؟ أنا بالفعل كنت لا أصلي لولا صديقي طلب مني المجيء للصلاة، كانت غائبة عن بالي كثيرا! كيف حدث ذلك شيخي؟
ربت الشيخ على فخذه وهتف بنبرة هادئة:
- يوجد في عالمنا الكثير من أعداء الإسلام الذين يخططون يوميا لصرف الناس عن دينهم وللأسف نجحوا في ذلك، يوجد القليل فقط ممن يحافظون على دينهم ويقبضون على الجمرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر». فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة – فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات – وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهرًا وباطنًا، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المعين والمساعد، ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرًا؛ لذلك يجب على كلٍ منا تذكير أهلنا وأقاربنا وأصدقائنا بذلك حتى لا يصبح الإسلام غريبًا.
ابتسم «طيف» بعدما استمع لحديث هذا الشيخ وهتف بسعادة:
- لقد جعلك الله سببًا لبث الراحة والطمأنينة في قلبي، لنا جلسات أخرى فأنا أريد أن أسمع منك عن علامات الساعة، لنا لقاء قريب إن شاء الله
ابتسم الشيخ وهز رأسه وهو يقول:
- إن شاء الله
- أقسم لكِ بأنني بحثت هنا ولم أجده
قالها الطفل «كارم» بعد أن أحضرت الأم له قميصه الضائع فابتسمت قائلة:
- أنت لا تبحث جيدًا
رفع أحد حاجبيه وردد بدهشة واضحة:
- من الممكن، لا أدري كيف تفعلين ذلك؟
تركها ورحل لتدخل من خلفه «تيرا» التي قالت بجدية وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها:
- لا تتهربين من مواجهتي، دعينا نرحل من هنا، الرعب انتشر بين الجميع
صمتت الأم للحظات والتقطت أنفاسها قبل أن تقول بهدوء وقد اتخذت قرارها:
- لن نرحل من هنا تيرا، أخبرتكِ مرارًا وتكرارًا أن تلك المدينة بها حياتنا، ولدنا بها وسنموت بها
شعرت بالغضب من والدتها فهي ترفض تماما الرحيل على الرغم من الأوضاع الصعبة في المدينة، حاولت كثيرا إقناعها بالرحيل لكنها في كل مرة ترفض ولا تترك لها فرصة.
في صباح اليوم التالي انتهى «طيف» من أخذ حمامه وخرج بعد أن ارتدى ملابسه ثم تقدم ليجلس على مكتبه الموضوع فوقه حزمة الأوراق التي يدون عليها ما يحدث معه منذ أن وصل إلى تلك المدينة. أمسك بقلمه وفكر قليلًا في الكلمات التي سيدونها وأخيرا بدأ يكتب ما خطر بباله:
"أوجاست، تلك المدينة الغريبة التي حيرتني منذ لحظة وصولي، لقد وصلت إلى هنا منذ يوم واحد وأشعر أنني هنا منذ وقت طويل، ليست فقط المدينة هي ما تثير تعجبي بل سكانها أيضًا، الأمر مريب بعض الشيء، مجرد التفكير بما يحدث يصيبني الاكتئاب. الجميع هنا غريبو الأطوار ولكن أشعر أن هناك سببًا واضحًا لما يحدث، الأمر في البداية مجهول لكنني أثق أننا سنصل لنقطة النهاية وهناك سأحصل على الكثير من الإجابات"
ترك القلم من يده ووضع يديه خلف رأسه وهو ينظر إلى نفسه في المرآة، التقط أنفاسه وردد بصوت هادئ:
- عندما رأوا أنني مقبل على الحياة جعلوا قضية الانتحار من نصيبي وكأن الحياة تقول لي إن كنت تعتقد أن السعادة هي نصيبك فالحزن ينتظرك وحتما سيُصيبك
لوى ثغره وتحرك إلى الأسفل ليجدهم على سفرة الطعام. في تلك اللحظة رفع صوته وقال باستياء:
- من يأكل وحده المغص يُصيبه
ابتسم الأب ورفع صوته قائلًا:
- كنت سأقوم بمناداتك لكن چودي أخبرتني بأنك تعاني من حال المدينة ولو أيقظتك ستُصاب بحالة اكتئاب وتكون المنتحر الجديد
رفع أحد حاجبيه ونظر إلى شقيقته ليقول بعدم رضا:
- لحسن حظي أنني أقوم بضبط المنبه، حسنًا أيتها القصيرة لكِ يوم
ضحك الجميع وأسرعت الأم لتقول بابتسامة:
- هيا اجلس لم نتناول الطعام بعد.
ابتسم وجلس ليتناول الإفطار في جو هادئ ومرح مع أفراد أسرته وما إن انتهى حتى نهض من مكانه وهو يقول:
- سأذهب إلى العمل، ألقاكم في نهاية اليوم
وقبل أن يرحل أوقفته والدته قائلة بنبرة تحمل القلق:
- احذر يا بني من المنتحرين
التفت ورفع أحد حاجبيه ليقول باعتراض:
- أمي هؤلاء منتحرون وليس موتى سائرون، لا تقلقي
تركهم واتجه إلى الخارج قبل أن يستقل سيارته ويرحل إلى عمله، وأثناء سير السيارة استمع إلى صوت الرجل من جديد حيث رفع صوته وهتف:
- نحن أهل النار، نحن أهل النار
ضغط على زر سيارته بسرعة حتى يتوقف بجواره ويسمع ما يقول، بالفعل توقفت السيارة وخرج منها ليستند بظهره عليها ثم بدأ يتابع هذا الغريب الذي تابع حديثه:
- أخذت الريح المؤمنون، نحن الغافلون، نحن الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، افعلوا ما تريدون فهي النهاية
تعجب «طيف» من حديثه العجيب لذلك قرر أن يتدخل وبالفعل اقترب بحذر منه قبل أن يقول بتساؤل:
- هل أنت من أهل المدينة هنا؟ أرى أن ملابسك غريبة بعض الشيء
رفع هذا الغريب رأسه بهدوء حتى وقع بصره على «طيف» الذي كان ينظر إليه بترقب ثم همس بصوت يسمعه هو فقط:
- أنا من أهل النار
رفع حاجبيه بتعجب بعد أن صدمته الإجابة. صمت للحظات ليفكر بما قال ثم أردف بحيرة:
- لا أفهم، لا تتحدث معي بطريقة الألغاز فأنا لا أحبها
ابتسم الغريب وضم ذراعيه إلى صدره ليقول:
- لا أتحدث بالألغاز، أنا وأنت من أهل النار، نحن الباقون في الأرض لنكمل ظلمنا وفي النهاية النار مصيرنا، نحن الذين قال الله سبحانه وتعالى عنا "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"
ابتسم «طيف» وعقد ذراعيه أمام صدره ليقول بهدوء صدر من ثقته الكبيرة:
- وكيف تكون من أهل النار وأنت تؤمن بالله وتحفظ آيات القرآن؟ نحن من أهل الجنة إن شاء الله
هز رأسه بنفي وأردف بهدوء مخيف:
- بدأت علامات الساعة الكبرى، مات كل المؤمنون وتبقى نحن فقط، لم يتبق مؤمن على وجه الأرض، اذهب إلى المساجد لن تجد المصلين، أصبح الأذان لا يُرفع، لا تحاول إثبات عكس ذلك، انتهى كل شيء
ضيق ما بين حاجبيه وعلم أن الحديث مع هذا الغريب لن يفيد بشيء؛ فهو في النهاية مجذوب وحديثه ما هو إلا كلام غير موثوق.
عاد إلى سيارته وقادها ليكمل طريقه وعلى الجانب الآخر تركت «تيرا» المنزل وركضت بسرعة لتعبر الطريق بينما كان «طيف» بداخل السيارة قد نسي أنه قام بتشغيل القيادة اليدوية وأمسك بهاتفه للحظات لكنه سرعان ما رفع رأسه ليجد أنه على وشك أن يصدم تلك الفتاة التي من رعبها توقفت وصرخت صرخة مدوية جعلته يضغط بقوة على الفرامل لتتوقف السيارة في اللحظات الأخيرة قبل أن تدهسها.
تنفس بصوت مرتفع وكأنه أنهى لتوه سباق للعدو وما إن هدأ حتى زفر بهدوء وهو يقول:
- يا الله، كنت على وشك أن أقتل تلك الفتاة
فتح باب سيارته وترجل منها قبل أن يتوجه إليها قائلًا بعتاب:
- لم كنتِ تحاولين الانتحار؟ لولا أنني أوقفت السيارة في الوقت المناسب لكنتِ الآن المنتحرة الجديدة هنا
تلاشت صدمتها التي جعلتها تثبت في مكانها؛ فهي ظنت أن نهايتها وشيكة، أغلقت عينيها ورددت بصوت غير مسموع:
- الحمدلله، كان سيقتلني
رفع أحد حاجبيه وعاد حديثه مرة أخرى ولكن بصوت مرتفع قليلًا فانتبهت له ورددت بحدة:
- لم أكن أنوي الانتحار
لم يصدقها وجلس على مقدمة سيارته وهو يقول:
- نحن في مدينة المنتحرين وأنتِ كان بإمكانكِ عبور الطريق لكنكِ توقفتِ تمامًا أمام سيارتي، هل تنتظرين مني أن أصدقكِ؟!
ضيقت ما بين حاجبيها ورفعت صوتها أكثر وهي تنفي ما يقوله:
- أخبرتك أنني لم أكن أنوي الانتحار؛ كنت أعبر الطريق ونظرت يميني لأجد سيارتك تتحرك بسرعة كبيرة ففزعت وتوقفت مكاني بفعل الصدمة
عقد ذراعيه أمام صدره وردد بهدوء:
- لا تفقدي أعصابكِ وحدثيني عن أسباب قراركِ هذا لعلي أساعدكِ.
رفعت حاجبيها بصدمة؛ فهو لا يصدقها ويصر على أنها كانت تود الانتحار. التقطت أنفاسها ورمقته بعدم رضا وهي تقول:
- يجب أن أصل إلى الجامعة الآن، سأُضيع المحاضرة وهي هامة للغاية، اتركني أرجوك
همت بالرحيل لكنه صاح وردد بجدية:
- لن أترككِ حتى ترفعي حصيلة المنتحرين في المدينة، هيا سأُوصلكِ إلى الجامعة، أنا ضابط شرطة وستكونين بأمان معي
شعرت أنها ستفقد صوابها لذلك وافقت على عرضه وتقدمت لتستقل المقعد الأمامي لسيارته وهي تقول بغضب:
- حسنًا أيها الضابط، أوصلني حتى لا أُزيد حصيلة المنتحرين بالمدينة
ابتسم لأنه اعتقد أنه منعها من الانتحار واستقل مقعده الأمامي خلف المقود.
تحركت السيارة وبعد ثوانٍ قليلة نظر إليها وردد بتساؤل:
- معذرة، أين توجد الجامعة الخاصة بكِ؟
رفعت أحد حاجبيها وقالت بصدمة:
- أنت لا تعرف مكانها؟
ابتسم ابتسامة واسعة وأجابها بلا مبالاة:
- لا، لا أعرف
وضعت يدها على رأسها بعد أن شعرت بالغضب ثم نظرت إليه قائلة:
- صدقني إن فكرت بالانتحار سيكون بسببك أنتَ
ضيق ما بين حاجبيه وردد بعدم فهم:
- لماذا؟
ضغطت على شفتيها بغضب لكنها تمالكت أعصابها وهتفت بنفاد صبر:
- لا عليك، سأدلك على الطريق ولكن تحرك سريعًا أرجوك الامتحان سيبدأ وأنا لم أصل بعد
ابتسم واعتقد أنه قد فهم ما أصابها لذلك ردد بسعادة:
- امتحان، لقد عرفت سبب رغبتك في الانتحار الآن، ضغط الامتحانات قد جعلكِ لا تستطيعين الحياة
فغرت فاها بعدم تصديق وظلت لثوانٍ تنظر إليه بصدمة مما جعله يقول بتساؤل:
- أرى الدهشة في عينيكِ، تتعجبين من سرعة معرفتي بالسبب أليس كذلك؟
ابتسمت ابتسامة هادئة وحركت رأسها بمعنى "لا" قبل أن تقول:
- لا، في الحقيقة أتعجب من غبائك اللا محدود!
في تلك اللحظة تبدلت تعابير وجهه وقال على الفور بغضب:
- ماذا؟
رفعت صوتها وهتفت قائلة بسعادة:
- ها نحن وصلنا أخيرا، شكرا على مساعدتك
رسم ابتسامة هادئة على وجهه وردد:
- عفوا ولكن أنتِ مدينة بالاعتذار على كلمة غبي
خرجت من السيارة بعد أن فتحت بابها وهتفت بصوت مرتفع:
- أعتذر منك
تركته وركضت بسرعة تجاه الجامعة الخاصة بها ؛ فهي قد تأخرت كثيرًا بينما خرج هو من سيارته عندما وجد تجمعًا كبيرًا من الطلاب، كما أن سيارات الشرطة قد انتشرت بشكل كبير في الداخل. سار حتى وصل إلى الباب الخارجي للجامعة وأخرج الكارت الخاص به؛ لكي يسمحوا له بالدخول وبالفعل دلف إلى الداخل وسار حتى وصل إلى هذا التجمع ليتفاجأ بصديقه «طارق» الذي كان يتحدث مع أحد الطلاب. رفع أحد حاجبيه وقال بحيرة:
- طارق؟
انتبه صديقه لصوته ووجه بصره تجاهه وهو يقول بتعجب:
- طيف؟! كيف وصلت إلى هنا؟ كنت سأتصل بك الآن
- لا يهم كيف وصلت أخبرني الآن ماذا يحدث؟
لوى شفتيه بعدم رضا وهتف بنبرة تحمل الحزن:
- كما هو معتاد هنا، منتحر جديد ولكن تلك المرة من طلاب الجامعة