طالبة في إحدى المدارس الأمريكية، في المرحلة الثانوية، تجلس منتبهة تستمع لشرح معلمها.. ارتعش جسدها فجأة، بدأت تصرخ وتضرب الهواء بذراعيها بعنف، كأنها تقاوم أحد يقيدها، ثم هدأت تدريجيًا بشكل غريب، من يراها يقسم أن مخدر ما يسري في عروقها ليؤثر عليها ذلك التأثير الكبير، ثم فقدت الوعي.
_ هذه ليست المرة الأولى التي تصدر منها أشياء غريبة، وتصرف غير طبيعي، يبدو أنها مريضة وتحتاج إلى طبيب ماهر.
كانت تلك كلمات مديرة المدرسة إلى مارك والد الطالبة ماريان، الذي كان مندهشًا، مما يحدث تباعًا لابنته.. ففي الفترة الأخيرة زادت لديها تلك الأفعال الغريبة؛ لذلك أحضر لها طبيباً شخَّص حالتها موضحًا:
_ لا يوجد لديها أي مشاكل جسدية، ربما كان ذلك بسبب مشكلة نفسية تحتاج إلى طبيب نفسي.
شكر مارك الطبيب، ثم عاد إلى غرفة ابنته.. سألها بماذا تشعر؟ وما سبب هذه الاضطرابات المتكررة؟ لكنها أخبرته أنها لا تعلم السبب، ولا تعلم لماذا يحدث ذلك، كل ما تعلمه أنها تشعر كأنها دمية معلقة بخيوط كالماريونيت ، يحركها شخص آخر تشعر بما يشعر، تفعل كما يفعل، دون إرادة أو وعي منها بما يحدث حولها، وبالطبع كان لذلك الأمر تأثيره السيء على حياتها، التي كانت تسير بملل وخوف يزداد بمرور الوقت، خوف من نظرات الجيران وزملائها لها، كأنها جُنَّت، خوف، وحزن بسبب تجنب الكثيرين لها، وعدم رغبة أحد في جعلها صديقة له، والأهم خوفها من تلك الأشياء الغريبة التي تحدث لها دون سابق إنذار، كأنها خُلِقت لترى الخوف مجسدًا في حياتها، رغم ذلك كان بداخلها شعور أن ثمة شيء جميل سيحدث قريبًا ليغير كل ذلك.. قبل أن تخلد إلى النوم، شعرت بكهرباء تسري داخل عقلها وخيوط تحيط شعرها مثبتة برأسها، وعندما وضعت يدها تتأكد من وجود تلك الخيوط لم تجد شيئاً.
استيقظت رغد فزعًا على صوت صراخ قوي، هز أرجاء البناية، ذهب الجميع إلى مصدر الصوت، كان صوت جارتهم في الدور العلوي، وقد كانت تبكي بشدة، ولم توضح لهم السبب، جلست رغد تهدأ من روعها وجلبت لها كبسولات مهدئ؛ لتستعيد توازنها، وبعد ساعة تقريبًا هدأت وبدأت تصف ما حدث لها:
"استيقظت لأتوضأ لصلاة الفجر، كنت أنظر في المرآة فرأيتني، لكن لم أكن أنا، كان وجهي وملامحي لكن بصورة معكوسة، ظللت أدقق النظر أكثر لأتأكد، وكلما نظرت لعيني أجد شخصًا آخر، حتى أسرعت نبضات قلبي وصرخت بقوة".
ردت رغد بتردد محاولة تفسير ذلك:
"ربما كان هذا قرينكِ الذي ظهر لكِ، فالنظر في المرآة ليلًا يؤذي القرين، وكلما اقترب من وجهكِ تزداد نبضات قلبكِ حِدة، لذلك لا تنظري في المرآة كثيرًا خاصةً أثناء الليل".
لم تكن رغد عالمة روحانيات، ولم تكن على معرفة واسعة بذلك العالم، إنما كانت تعلم بعض الأشياء عن ذلك العالم الغامض، الذي كثيرًا ما صادفها، لكنها كانت تتمكن من السيطرة على فضولها تجاهه؛ حتى لا يبتلعها ذلك العالم بعيدًا عن الواقع، هدأت الأمور كثيرًا، عادة السيدة إلى منزلها مع سراة النهار ، وقبل أن تذهب رغد إلى جامعتها قررت المحاولة مرة ثانيةً مع والدها فسألته بدلال:
_ هل يوجد لديك يا أبي ما هو أهم من مستقبل ابنتك الوحيدة؟
_ بالطبع لا، لكن هذا المستقبل لا يتوقف على سفركِ ووجودكِ بمفردك، تستطيعين بناء مستقبل أفضل وأنتِ في بلدكِ مع من يحبوكِ.
ردت رغد مُحاولة بكل قوتها تعديل رأي والدها:
_ يا أبي أرجوك كن عونًا لأبنتك، هنا سأبني مستقبل يعتمد على ما تعلمته هنا، لكن في الخارج سأتعلم أكثر، وأكتسب خبرة أفضل، لكي أكون مميزة يجب أن أطلع على ثقافات مختلفة فلا تحرمني تلك الفرصة.
غادر إلى عمله وهو يكرر أنه مازال على رأيه، ثم انصرفت رغد أيضًا إلى الجامعة بذهنٍ غائب، تفكر كيف تنجح في إقناع والدها بتلك الرحلة التي لن تستمر طويلًا، وبعد انتهاء محاضراتها، ذهبت تسأل عن تفاصيل السفر حتى تستعد وتجهز أوراقها لحين إقناع والدها، وبالفعل عَلِمت الإجراءات التي تحتاج إلى وقت لتجهيزها قبل سفرها، ثم رأت لين قبل مغادرتها التي اعتذرت قائلة:
_ لم أكن أود إزعاجكِ، صدقيني أنا فقط كنت أنصحكِ لخوفي عليكِ.
_ أعلم ذلك، لكنكِ تعلمين أيضًا أن ذلك القرار_ بالنسبة لي_ غير قابل للنقاش أو التعديل، فقط سأجرب وأعيش التجربة؛ لأتعلم منها.
رددت لين بيأس:
_ نصحتكِ ولكنكِ مُصرة فأفعلِ ما تشائين، والأهم أن تنتبهي على حالكِ جيدًا.
انصرفت لين، وكذلك رغد التي عادت إلى المنزل لتتفاجأ بوالدها يسألها:
_ متى ستسافرين؟ وإلى أين؟
ردت رغد بعدم تصديق:
_ بعد أسبوع سأسافر إلى أمريكا، ستصل جميع الأوراق الرسمية، ولم يتبقى سوى حجز تذاكر الطائرة والسكن.
ابتسم والدها بود ثم بدأ يُملي عليها شروطه قائلًا:
_ بعيد عن كونكِ تجاهلتِ رأيي، وبدأتِ بتجهيز الأوراق دون إذن مني بذلك، سأسمح لكِ بالسفر لكن بشروط أولها أنني سأسافر معكِ أول مرة.
كانت رغد متأكدة أن والدها لن يغضبها، وأنه سيوافق لذلك بدأت تجهيز الأوراق، وبالطبع وافقت على شروطه، وبكل حماس بدأت في تحضير الأشياء وهي تتخيل كيف ستكون حياتها في الخارج وخصوصًا بعد إصرار والدها على إقامتها في مبنى بعيد عن سكن الطالبات؛ تجنبًا لمشاكل السكن، واختلاطها بفتيات مختلفات عن ثقافتها، واخلاقها، كان والدها دائماً يرى أن ذلك الاختلاط يؤثر بالسلب، كما أن لكل شعب عاداته التي يصعب تقبلها لدى شعوب أخرى، لذلك رأى والدها أن من الأفضل لها الإقامة بمفردها؛ كي يتجنب المشكلة قبل حدوثها، مر الأسبوع بين الجامعة، والمستشفى، والتحضيرات التي ملأت رغد بحماس يلاحظه عليها كل من يراها.. حتى جاء ذلك اليوم الذي انتظرته الفتاة طوال حياتها.
وصلت أخيرًا إلى مطار نيويورك، حيث اجتمع الناس من مختلف الدول لأغراض مختلفة، كلٌ منهم لديه شعوره الخاص، هناك من كان حزينًا لفراق أحدهم الذي ستذكره به تلك الأرض حتى يعود إليها مرة أخرى، ومن يأس وهو ينتظر قدوم شخصًا يحبه تأخر عليه كثيرًا، وجعله يحترق شوقًا وانتظارًا، وللأسف يعود في كل مرة حاملًا يأسًا فوق يأسه، ومن كان فرحًا بلقاء من ينتظر، ويرحب به بشدة كأنه يرجوه ألا يغادر ثانيةً، لذلك كانت رغد ترى أن المطار صورة مُصغرة للحياة التي نعيشها، انتقلت إلى أحد الأحياء المجاورة للجامعة، حيث ستقيم في إحدى البنايات القديمة، كانت بناية هادئة، بسيطة، صُممت على طراز قديم لكنه أنيق، قادرٌ أن يلفت إليه نظرك من إبداعه، تمامًا كما وجدته من الداخل، شقة بسيطة، ليست بالواسعة كثيرًا، لكنها أعجبت رغد بشدة وبدأت في التعرف عليها.