ديسمبر ٢٠٢١.. الواحدة بعد منتصف الليل.
ليلة شتوية باردة يحيطها الظلام ويعمها الصمت، داخل أحد البنايات القديمة وتحديدًا الشقة القابعة في الدور الرابع، تناثرت الدماء حولها بشكل مُفزع، بينما كان يسيطر عليها ذلك الشاب بكلمات غير مفهومة، وبصوت خافت يكاد يُسمع، تحرك جسدها بقوة رافضًا تلك السيطرة.. حتى شق صوتها سكون الليل وهي تصرخ بشدة "لا تتركيه! إنه السبب" ظلت تردد تلك العبارة بصوت ينخفض تدريجيًا حتى خارت قواها وخرج آخر أنفاسها لتموت، وهنا استدار الشاب لتظهر ملامحه، فجأة استيقظت فزعًا تتذكر تفاصيل ذلك الحلم _الذي يتكرر كثيرًا هذه الأيام _ عدا ملامح ذلك الشاب الغريب.
قبل ثلاثة أشهر..
داخل أحد مستشفيات الأمراض النفسية والعصبية في القاهرة، في إحدى الغرف، ذات الإضاءة الخافتة والسكون التام، كانت رغد تجلس أمام المريضة تستمع إلى حديثها، وتفسره بمنطقية؛ لتشخص الحالة التي تعاني من أحد أنواع الاكتئاب، الذي أصبح منتشرًا تلك الأيام، فقد كانت رغد طبيبة أمراض نفسية وعصبية.. رغد في عامها الأخير في الجامعة، ذات بشرة خمرية وعيون سوداء واسعة تشبه عيون المها ، شعر أسود وطويل، قصيرة القامة، ذات طباع هادئة.. انتهت الجلسة لتعود رغد إلى منزلها، حيث كانت تعيش مع والديها، فور دخولها المنزل تفاجأت بوجود لين صديقتها في الجامعة، والتي تتناوب معها التدريب في المستشفى، ولذلك من المفترض وجودها الآن داخل المستشفى، مما أثار دهشة رغد فسألتها:
_ ماذا حدث؟ ألم يكن هذا موعد تدريبكِ؟!
_ هو كذلك، لكن وددت إخباركِ شيء مهم، وكان هاتفكِ مغلق لذلك أتيت.
ردت رغد بفضول:
_تعلمين أنني أغلق الهاتف أثناء الجلسات، لكن ما الشيء العاجل؟!
_شئون الطلاب يودون مقابلتنا سويًا، يقولون أن هناك أمر مهم يجب إخبارنا به.
_حسنًا، نذهب إليهم غدًا، لنرى ما في الأمر.
خرجت لين إلى المستشفى تاركةً صديقتها ضحية للحيرة التي ظلت تقذف العديد من الأفكار داخل رأسها، حتى دخلت والدتها مُندهشةً لغياب عقل ابنتها التي لم تنتبه حتى لدخولها، فعاتبتها قائلة بنفاد صبر:
_ألم أنصحكِ من قبل ألا تتأثري كثيرًا بالمرضى ومشاكلهم؟! أخشى عليكِ من تلك الحيرة، أن تذهب بعقلكِ مثلهم أو يصيبكِ الجنون.
_لا تقلقي يا أمي أنا بخير، لكني أخبرتكِ من قبل ألا تقولي جنون أرجوكِ، هؤلاء المرضى هم ضحايا أشخاص آخرين، أو تجارب لم يُكتب لها النجاح، مما أثَّرعلى تفكيرهم وقرارتهم.
اندهشت الأم من رد ابنتها، رغم أنها تحفظه عن ظهر قلب، لكن ما يدهشها هو تمسك ابنتها بهذا الرأي، وهذا المجال، رغم رقتها ولين قلبها، لكنها لا تملك سوى الدعاء لها.. خرجت الأم من الغرفة تاركةً رغد تستعد للنوم بعد يوم شاق، في اليوم التالي، ذهبَت مع لين إلى الجامعة حيث عَلِما أنهما تم اختيارهما مع عدد من الطلاب للحصول على منحة إلى أمريكا ذلك العام.. التي قدما عليها من قبل، وفي تلك اللحظة نظرت لين إلى رغد بدهشة وتوعد، ثم أخبرهم أحد العاملين أن يعودوا إليهم بالموافقة أو الرفض خلال أيام، خرجا من المكتب لتسأل لين رغد بحدة:
_ لماذا فعلتِ هذا؟ تعلمين جيداً أنني لن أسافر.
_ حتى نكون سويًا ونستفيد معًا، هروبكِ الدائم من تجربة شيء جديد سيحجب عنكِ الكثير.
كانت رغد تعلم كم كانت صديقتها خائفة، لذلك حاولت تشجيعها بكل ما تملك من قوة؛ حتى لا تضيع منها تلك الفرصة، ورغم ذلك جاء رد لين حاسماً حين قالت:
_ لن أسافر يا رغد، وسأظل على ذلك الرأي وأنتِ أيضًا لا تفعلي هذا، السفر مثل الميلاد من جديد، في عالم لا نعرفه، ولا نأمنه، دون أن يكون معنا من يعيننا على فهم ذلك العالم ويأخذ بأيدينا، الضرر في تلك الحالة يكون مضاعفًا، والحياة لن تكون بذلك اللين.
_ حتى إن كنتِ على صواب فالتجربة لن تضر، لنجرب بحذر.
_ لن أفعل هذا أبدًا، وإن أردتِ المحاولة فتذكري حديثي جيدًا، وتذكري أني نصحتكِ.
انصرفت لين دون أن تعدِل عن قرارها، هي تخشي السفر والمغامرة، عكس رغد بطباعها المُغامرة، التي تسعى لتجربة كل جديد أيًا كانت النتيجة، لكن لسوء حظها لم يكن ذلك رأي لين فقط، إنما كان أيضًا رأي والدها الذي رفض سفر ابنته الوحيدة بمفردها وأنهى حديثه مؤكدًا:
_ لا يوجد سفر، وهذا قراري الأخير.
مما أثار غضب رغد، وأزعجها كثيرًا، فهذا هو حلمها، ومستقبلها، هذه الفرصة كانت جيدة لها، لكنها لم تمتلك القوة لتدافع عن رأيها أمام والدها، فهي فتاة حساسة للغاية، ربما تراها شجاعة في عملها، لكنها أرق من أن تُغضِب والدها، قررت النوم حتى تهدأ قليلًا، وفي الصباح تعيد المحاولة مع والدها، وبالفعل خلدت إلى النوم؛ لتلتمس بعض الراحة، لكن مع أذان الفجر استيقظت فزعًا على ذلك الصراخ القوي الذي شق سكون الليل.
***
في صحراء مصر الغربية، تظهر في أبهى صورها، أرض صحراوية، تتخللها العيون المائية، المحاطة بالأراضي الزراعية الخضراء، والنخيل المحمل بأطيب الثمار، جبال شاهقة، ورمال ذهبية تعكس أشعة الشمس، بحيرات الملح المحاطة بهالات بيضاء من الأملاح.
إنها حقًا سيوة، حيث تتجلى البساطة في كل شيء، البيوت، الطبيعة المبهرة، طباع أهلها وملامحهم، الهواء النقي الذي يشفي النفس من كل ما يؤذيها.
في أحد الجبال كان أنس يجلس داخل كهف في جبل، يتأمل إبداع الخالق بذهنٍ صافٍ، كان شابًا أسمر البشرة، أسود الشعر، ذو عينان بنيتان، طويل القامة، قوي البنية، خريج كلية العلوم، فهو نشأ وتربى في بيئة تحفها الطبيعة، مما أثار شغفه لدراس تلك الطبيعة الساحرة، فأصبحت حياته كلها بين الجبال والصحراوات، عاد إلى منزله البسيط، المكون من طابقين، تحيطه أشجار الياسمين والنخيل، حيث يقيم مع والدته وأخته الصغرى تارا بعد انفصال والديه، صُدم فور دخوله المنزل عندما رأى والدته تبكي، بمجرد أن رأته قالت صارخة به:
_ خطفوها يا بني! خطفوها.