ليلة صقيع باردة تتدثر بغيوم رمادية ثقيلة، طمرت بظلالها ضوء القمر المطل على دروب مدينة باليرمو في جزيرة صقلية الإيطالية، ونسمات العبير تتضوع بأريج البحر، ولا أحد يرصد دبيب تلك الخطوات اللاهثة المذعورة التي تكابد الزوال، وتولي هاربة بلا أدنى رجاء يحدوها إلى الفكاك من مصير مشؤوم.
ساندرا لورين امرأة قاربت على الثلاثين من عمرها رائعة الجمال، وتملك جسدًا بضًا مفعمًا بسحر أنثوي خلاب، ومحياها يشع رونقًا كأنما البدر تجلى بنوره، وسرعان ما غاض بهاء وجهها وصار محتقنًا بحمرة قانية من هول الفزع، الغانية تركض عارية القدمين تطمح إلى النجاة من مطاردها الذي لا يألو جهدًا في اللحاق بها، ساندرا تفر مخافة هلاك محتم ولا أحد في هذا الكون يملك خلاصها، طاقة الخوف الكامنة في روعها تحثها نحو الفرار لكنها لم تكن كافية لإنقاذها في تلك المنطقة النائية من المدينة، حيث لا أحد يستجيب لصراخ امرأة تستغيث، دوي صراخها المختنق يتلدد صداه حائرًا في الفضاء وما يلبث أن يزول دون مجيب، ظلت المرأة المروعة تأبى الاستسلام دون رجاء في الخلاص، بينما مضى اليأس الأسود يجترعها في جوفه السحيق كذبابة سقطت في صحن من الشهد كلما حاولت الإفلات أوغلت في الانحدار.
سرعان ما تقوض عزمها وتهاوى بدنها المرهف مرتطمًا بأديم الأرض مستسلمًا لقضائه، يدنو منها رجل أنيق في الأربعين من عمره، ويكيل لها الركلات بحذائه الإيطالي الثمين متخذًا وجهها هدفا لركلاته الساحقة، الفتاة تتأوه وتئن وتفقد كل أسباب المقاومة، تحولت طاقة الذعر في داخلها إلى طاقة جمود هائلة وانقبضت مكانها ترتعد وتنتفض وتبرق بعينيها وأنفها يهدر دماء حارة، المرأة المنهكة أسلمت نفسها لجلادها ترقب نفاذ حكمه فيها، حتى الردى الذي كانت تفر منه منذ لحظات صار أملًا تتوخاه وترجوه، كف الرجل عن السباب والركل وأشعل سيجارًا كوبيًا فاخرًا في هدوء مخيف، تمكنت ساندرا من التقاط أنفاسها وطفقت تبتهل إلى غريمها وتتوسل الرحمة والغفران بصوت منهك يكاد لا يبين، لكن الرجل بدا جامد الوجه قوي البنيان شديد الصرعة لم يبالِ بتوسلاتها ولم يحرك لها ساكنًا، دنا منها وبصق في وجهها المحتقن بالدماء ثم زفر أدخنة سيجاره صوبها، فغدت المرأة تسعل وترغي وتزبد ثم أطفأ سيجاره في إحدى وجنتيها فأحرقه وتصاعدت أدخنة اللحم المشوي مصحوبة بصيحة مدوية أرجفت جسدها كله وانتفض انتفاضة الموت، لكن الرجل لم يبدِ أي تعاطف، وشرع ينزع عنه سرواله ثم بادر يجردها من ملابسها ويكشف عن جسدها البض الناعم المرهف وهي لا تنبس ببنت شفة أو تصدر عنها نأمة اعتراض أو تمنُّع، بل ظلت ترتعد وترجف كأنما تفارق الحياة.
واقعها الرجل وتلذذ كثيرًا وتمادى في تمتعه وهي لا تقاوم أو تمانع حتى قضى وطره منها وانتصب واقفًا، وارتدى ملابسه وأعاد هندامه وكأن شيئًا لم يكن ثم هم بمغادرة المرأة المنهكة، وبدا الأمر في نهايته عند هذا الحد، لكنه عاد إليها وأخرج قارورة سوداء من جيبه ممتلئة بسائل له رائحة نفاذة خانقة وبادر بسكبها فوق جسد ساندرا العاري وفوق محياها، ثم غادرها وهي تتلظى وتنوح وتتأوه بفعل الحروق المشتعلة في أنحاء جسدها، أبخرة الاحتراق تتصاعد من بدنها وكأنها سمكة تشوى على مقلاة من نار وفحم وهي مازالت على قيد الحياة، إنه أراد أن يسلبها حق الحياة وحق الموت معًا، أراد أن يحيلها إلى مسخ لا بقاء له ولا فناء، هو أراد عذابها لا موتها، يقذف الرجل الزجاجة الفارغة بعيدًا ويغادر في روية، بينما يمتزج صدى ضحكاته الماجنة المهووسة مع عويل المرأة المدحورة ويصعدا معًا إلى عنان السماء، يتلاشى أنين ساندرا ونحيبها المذبوح ويبتلع الصمت الشامل أرجاء الوجود.
وبعد مرور بضع سنوات على الحادث وأمام كاتدرائية باليرمو الكاثوليكية العريقة بجدرانها المزخرفة وبنائها الشاهق العتيق، الذي يتطاول صوب الفضاء متخطيا هدر الزمان ومجتازا بؤس الأيام منذ عشرة قرون، كان النهار قد انتصف والشمس احتلت مكانها في كبد السماء، لفيف من الرواد والمصلين توافدوا لأداء قداس الأحد ونواقيس الكاتدرائية تقرع إيذانًا ببدء الشعائر، يجلس حازم صلاح السويفي المصري الجنسية البالغ من العمر ثلاثين عامًا على أحد المقاعد العامة وهو يرقب ذلك المشهد بانبهار وغبطة لا توصف، أول مرة يتمكن من زيارة هذا المعلم الأثري بالمدينة منذ بلوغه إيطاليا من ستة أشهر، بعد أن حصل على إجازة من فيرونا صاحبة المطعم التي أجبرته طيلة هذه المدة على العمل نوبتين دون انقطاع واستغلت حاجته إلى الحصول على الإقامة، احتمل حازم هذا الضيم في سبيل تحقيق مراده والفوز بفرصة عمل ثم الالتحاق بالجامعة للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة باليرمو، طامحًا إلى تحقيق أمله والعمل كمحاضر في الجامعة كما كان يمني النفس.
آل حازم على نفسه أن يستمتع بهذا اليوم ولا يبالي وشرع ينفق بلا حساب على التهام البيتزا وحلوى الكانولي واحتساء قهوة الإسبريسو والتجول في شوارع باليرمو، إلى أن ساقته قدماه إلى القعود أمام الكاتدرائية، أخرج حازم منظارًا صغيرًا يمكِّنه من رصد معالم الإبداع المعماري للكاتدرائية والتي أثارت فضوله لكونه عاشق للفنون والآداب، مرهف الحس تجاه كل ما هو بديع خلاب، وأثناء تجوله بمنظاره الصغير، لاحت له ومضة لمحيا غيداء فائقة الجمال بيضاء كالثلج رقيقة كالحرير وضاءة الوجه، ينسدل شعرها الذهبي الأملس حتى يمس خصرها المتكور، في لحظة توقف كل شيء في الوجود عن الدوران ثم ما لبث أن عاد يدور مرة أخرى في فلك تلك الغيداء التي بدت له مثل جذوة وجود أبدية، من أي الأكوان جئت من أي العوالم بعثت وعلى أي هيئة صورت...؟.
شعور بالفرحة والهناء يجتاح كيانه ويغزو روحه لا يدرك من أين أو متى تخلَّق، هل هي حقًا فتاته ولم لا تكون هي...؟ وربما هما روحان يتوقان إلى اللقاء من بعد فراق سحيق الأمد في عوالم أخرى وربما جيء به إلى هنا خصيصًا من أجل لقائها، زال الوجود في طرفة عين وغدا الكون خاويًا من أبناء آدم أجمعين وباتت هي أول النساء وهو أول الخلق والأسطورة ما برحت في مهدها الأول، رآها تمرح بين الجنان وهي متلفعة بأوراق الشجر تراوغه وتداوره بمقلتين ماكرتين تحفلان بالشهوة والرغبة والمجون، الغيداء تبتاع الجيلاتي ثم تنهض وتمرح مع عصبة من الصغار يلهون في الجوار وتلوح إليه كفراشة تعبث بالأزهار ببسمة ثغر مرح طفولي عفيف، كل شيء فيها يحرضه على الاندماج في كونها الخاص، إنها تمتص وجوده وتمزجه في عالمها حتى كاد يذوب فيها عشقًا دون أن يعرف من تكون، كيف يحدث هذا وأي قوة خفية تدفعه نحو تلك الفتاة...؟ أي قدرة تسوقه إلى هذا المجون...؟، إرادته تقوضت أمام سحرها وتضاءل عالمه وخبا خلف وهج رواءها، صار يقهقه مع قهقهتها ويفتر لفرحها ويتثنى ويتهادى مع عدْوها وشدوها، شيء ما جعل قلبه يميس طربا عندما أبصرها، قوة قدرية تدفعه نحو التعلق بها، عشق حازم مدينة باليرمو ومن عليها بل إيطاليا كلها والعالم أجمع في هذه اللحظة، هل حقا هو القدر الذي دفع به للرحيل من بلده لكي يقابل توأم روحه هنا في تلك الساحة...؟، يشعر بروحه وقد غدت فراشة مبرقشة تحلق حيث تلهو أميرة النساء وتهيم حولها وهي تسبِّح حمدا بجمال إطلالتها، حازم لا يريد أن يوقف سيل خيالاته الشيقة الحلوة، بل انساق بكل قوة ينسج أطيافًا ملونة ويفتعل عوالم تنضح بالسعادة والهناء، كل هذا حدث في ثوانٍ معدودة قبل أن يفيق على أمر مروع أثار كيانه وأرمضه، حازم يلمح رجلًا مشردًا رث الثياب يقعد غير بعيد وهو يرقب فتاته العصماء في شهوة وشبق، بينما يدس الرجل ذراعه في سرواله مستخفيًا ويشرع في ممارسة الاستمناء، هذا العربيد يلهب شهوته بالنظر إلى فتاته، إنه ينهب اللذة ويغتصبها عنوة دون حق، الفتاة البريئة منشغلة بعبثها ولا تعلم شيئًا مما يدور، ذلك المشرد القذر لا يتوقف عن لعق شفتيه في شبق ووله محموم، وكأنما يلتهم الفتاة كنمر أرقط يلتهم فريسته إلى أن تغدو بقايا عظام ورفات، يحنق عليه حازم ويجن جنونه ويهم بالانقضاض على العربيد والنيل منه مرات عدة لكنه يحجم في كل مرة خوفًا من الوقوع تحت طائلة القانون.
احتدم الصراع في نفس حازم وغلبت عليه شهامته التي جبل عليها وتجاهل كل المحاذير وقهر الخوف في نفسه، اندفع في اتجاه الرجل المشرد وهجم عليه بجنون وصار يكيل له الضربات والسباب، وكان المشرد يفوقه قوة وبأسًا لكنه أُخِذ على حين غرة في أول الأمر، وسرعان ما تمكن من منازلة حازم ومقارعته ندا لند، لم يسهم أحد من المارة في العراك حتى هدأت ثورة الرجلين واعتراهما الإنهاك وانطرحا أرضا، عندما علم المشرد الدافع الذي حدا بحازم إلى التشاجر معه، بادر بإطلاق ضحكة مدوية وبات يتمرغ على الأرض من فرط القهقهة وهو يسخر ويعجب من براءة الفتي وبلاهته، ثم أخبره أن ملاكه الطاهر تلك تدعى لارا ستاينر وهي من نجمات الأفلام الإباحية في إيطاليا، يرنو حازم إلى الغيداء مبهوتًا وقد أصيب بصدمة حادة سحقت كيانه لكنه لم يعثر عليها مطلقًا.
ظل عقل حازم يرفض الإقرار بهذا الافتراء والبهتان ليعود ويمسك بتلابيب المشرد الضاحك ويدفعه بحنق متهمًا إياه بالكذب والتضليل، لكن الحقيقة أطلت عليه بوجهها البارد الكئيب مبددة أحلامه وخيالاته السعيدة جميعها، مخلفة وراءها حطامًا وركامًا من رماد أسود، يبتعد حازم تاركا كل شيء خلفه مستسلمًا للواقع الأليم، ومازال صدى ضحك المشرد يتردد صداه في رأسه ممتزجا بقهقهات لارا الملائكية ويحيلان عقله إلى ساحة نزال بين الخير والشر بين النور والظلام بين عالمين لا يلتقيان أبدًا، هل الحياة هكذا لا وجود للخير فيها...؟ هل هي ضنينة بالخير إلى هذا الحد...؟ هل الحب بات مخضبًا بأنين الألم والحسرات...؟ هل لم يبقَ في هذه الدنيا غير الخداع والزيف...؟ تستحوذ على حازم ثورة إنكار عارمة تندد بكل ما انصرم من حياته وبكل ما هو مقبل، إنه الخواء الأعظم والفراغ من كل المعاني والأسباب والغايات، ظل حازم يهضل طيلة الطريق بألفاظ تطفح باليأس والقنوط، ودأب يعاتب نفسه وأباه وأجداده الذين أسلموا أنفسهم للخنوع في مستنقع الزيف والخداع وتمنى من كل قلبه أن يكون الرجل المشرد كاذبًا أو مخطئًا... عساه يكون... عساه يكون.
ماجد رفيق حازم في السكن من أصول مغربية هو شاب ثائر متحرر من قيود المجتمع وعادة لا يستمر في عمل واحد أكثر من ثلاثة أشهر، يُصعق من هول المفاجأة حين أبصر حازم يتابع موقعًا إباحيًا والغريب أنه كان يتابع تلك المشاهد الوقحة بوجه متجهم مقطب لا يتوافق مطلقًا مع مجريات الأحداث التي يبثها التلفاز، يرنو إليه حازم قائلًا: (أنها هي فتاة الكاتدرائية وربما تشبهها كثيرًا ولكن ليست هي كما أظن، أنا لا أفهم كيف حدث هذا هل يستطيع الإنسان أن يصير ملاكًا وشيطانًا في آن واحد...؟، هل لارا ستاينر التي تأتي الفجور أمامنا هي نفسها فتاة الكاتدرائية...؟) لم يبالِ ماجد بالمفارقة التي أفزعت حازم بل أعرب عن تقبله المطلق للفكرة دون أن يبدي أي انزعاج قائلًا: (معظم الناس يزاولون الرذيلة ضمن سلوكهم اليومي غير مبالين بعادات أو تقاليد أو أديان أنت وحدك من يبصر القذى يا صديقي)، لكن حازم لم يتقبل الفكرة وقال في إصرار مرير: (ولم لا تقول إني أنا وحدي الذي يبصر، بيد أني مازلت على يقين أن لارا ربما لديها توأم تشبهها).
يستشعر ماجد التوجس والقلق على صديقه ويقول: (أخشى عليك من سوء العاقبة أنت رغم ثقافتك وعلمك تجهل الجانب الآخر من العالم، حياتك تنحصر بين المخطوطات والروايات والمسرحيات، أنت تعيش في عالم خيالي بعيدًا عن الواقع، وفتاة الكاتدرائية هي أيضًا خيال لا وجود له، ولارا ستاينر التي تتأود وتتأوه أمامك الآن هي حق اليقين)، ينزعج حازم الذي لم يستسِغ تلك الدلالات الفجة وقال آسفا وهو يجفل معارضا (لا أسايرك الرأي ولا أجاريك في ما ترمي إليه فالروايات والمسرحيات ما هي إلا نسيج هذا العالم وليست من الخيال وفتاة الكاتدرائية حقيقة أبصرتها بمقلتيَّ)، يجهر ماجد بالغضب من هذا العناد غير المبرر ويقول محتدمًا: (عذرا صديقي أنت لم تسبر غور هؤلاء البشر من قبل إنهم يخادعون ويراءون ويتصنعون كما يتنفسون الهواء، لارا أنثى متمرسة تتقن فن الإغواء والخداع والملاطفة والمداعبة، يمكنها أن تجردك مما تملك في طرفة عين ثم تهجرك ولا تبالي)، يضيق حازم ذرعًا من الحوار ويبرق بعينه قائلًا: (أنت لا تستوعب مغزى أن تجد توأم روحك يومًا ثم تخسرها في نفس اللحظة، إني أعشقها... أعشقها ولا أدري كيف حدث هذا)، يصرخ ماجد محتجًا: (تعشق ماذا..!! أين عقلك يا رجل أنها عاهرة عاهرة ألا تبصر)، وفي عناد غريب يصرخ حازم (ليست هي وأنا على يقين أنها فتاة غيرها صدقني)، يغادر ماجد الغرفة وهو في أشد حالات الحنق، حازم يغلق التلفاز ويطوف بالحجرة على غير هدى يحاول أن يخفف من حدة توتره.
يقضي حازم ليلته يشاهد لارا ستاينر وقد أتت بكل أفعال النساء خيرها وشرها، لكنه يرغب بدافع من الفضول أن يتواصل معها عبر أرقام الهواتف الدعائية، وفي كل مرة تخابره امرأة غير لارا، وتبذل ما في وسعها لإغوائه مستعينة بكل ما أوتيت من ضحكات ماجنة وألفاظ فاحشة خليعة وتأوهات وتنهدات، تتبعها عروض لكل أنواع المضاجعة الفموية والشرجية واليدوية والجماعية والمثلية، ثم ما لبث أن ترادفت عليه الرسائل والمحادثات والصور وأرقام الهواتف والعروض السخية تناسب كل الأذواق والأعمار، لكنه لم يعثر على لارا ستاينر بين كل هذا فهي ليست متاحة للعامة كونها نجمة ذائعة الصيت.
بعث حازم برسالة إلى شركة بيلادونا الراعية لأعمال لارا وأطلعهم على رغبته في تدبير لقاء مع النجمة لارا ستاينر، حينئذ غدا حازم عميلًا مميزًا وبادره أحدهم بالتحدث إليه في لباقة واحترام فائق، وأطنب في الحفاوة به وأعرب عن امتنانه لاتصاله، ثم أخبره أن تحديد موعد مع النجمة سوف يكلفه عشرة آلاف يورو، والعرض يشمل توفير مقر فخم في منطقة هادئة تطل على البحر بالإضافة إلى العشاء والمشروبات وخدمة فائقة الجودة مصحوبة باستضافة واعدة برفقة النجمة المتألقة لارا، استطرد الرجل يعدد المزايا ويحصي كرامات الليلة الموعودة ويطرح الفرضيات والإضافات المحتملة لجعل تلك الأمسية تضاهى عالم ألف ليلة وليلة، في نهاية الأمر تمكن حازم من أنهاء المكالمة بصعوبة بعد مراوغات وتأكيدات متكررة بمعاودة الاتصال، بدا الأمر ضربًا من خبال ولم يجد حازم مندوحة عن إقصاء الفكرة برمتها ويفيء إلى رشده قبل فوات الأوان.
يستملح ماجد القرار ويدعو حازم لقضاء الليلة برفقته في الملهي الليلي حيث يمكنه أن ينال السبق ويفوز بإحدى الغانيات، لكن حازم ظل مأخوذًا يفكر في فتاة الكاتدرائية ويتحسر على ضياع توأم روحه، وبينما هو مستلقٍ هائمًا في خيالاته إذا بالباب يطرق بعنف، يبادر حازم بالفتح فإذا هي لارا ستاينر وبدت فزعة مذعورة، دلفت بسرعة وأغلقت الباب خلفها وهى تستغيث من مطارديها، يسألها حازم عن الكاتدرائية وذلك اليوم الذي رآها فيه، لكنها لم تُحر جوابا ومضت تحثه على الذود عنها وهو يلح في استجوابها وهي تصرخ ضائعة حائرة (لا أعرف... لا أعرف عما تتحدث إنهم قادمون لا وقت لدينا)، صوت طرقات عنيفة علي الباب ولارا ترتعد وحازم لا يملك من أمره شيئًا، يهيمن عليه تجهم وعبوس وحسرة على ضياع فتاة أحلامه، الباب يتهشم ويلج رجلان مفتولان يرتديان بزة سوداء ويبطشان بلارا دون رحمة، ولا يكترثان لوجود حازم كأنه لا شيء على الإطلاق، وهو ينتصب مبهوتًا مبهورًا لا يحرك ساكنًا، لارا تستصرخه وتستنصره وهو لا يومئ إيماءة واحدة، الرجلان يجردان لارا من أرديتها وهى تصيح مهيضة الجناح ترمق حازم بوجه مفعم بالغصة وخيبة الرجاء، لكن قوة ما خفية تعوق إرادته، الألم يعتصر قلبه وهو عاجز عن الإتيان بأي صنيع، يفزع حازم من منامه فوق الأريكة ولاتزال نداءات الاستجداء والرجاء تتلدد في مسامعه.
مضى حازم يتخبط في لجة الحيرة لا يعلم إلى أين السبيل ولماذا يتحتم عليه أن يخلص المرأة من شقائها...؟، وهل هناك سبيل لخلاص امرأة تمادت في الفسق وامتهنت الفجور وأذرت بالطهر والعفاف والفضيلة...؟، وهل للشيطان من توبة هل يعود الماء عذبًا فراتًا بعد أن جاست وبالت فيه الضباع، هل حقًا تواصلت روح الفراشة المبرقشة مع روحها...؟ هل التقيا في عصور سحيقة غابرة كما تدعي الأساطير وبينهما رباط مقدس أبدي...؟ أم أن هذه مكيدة شيطانية وزيف عظيم مفاده أن يؤدي به إلى هاوية الضياع.
آل حازم على نفسه أن يصل الليل بالنهار في العمل ولا يعاود التفكير في الأمر مرة أخرى، ورغم كل مساعيه لتجاهل الأمر إلا أنه ألفي نفسه يقف أمام الكاتدرائية، وظل قابعًا مكانه طيلة يوم الأحد وهو يمني النفس بحدوث المعجزة، ربما تعاود فتاته مرة أخري ويصدق حدسه بأن فتاته ليست هي لارا ستاينر، لعل جنية الأزهار تعود من جديد بأكسير الوجود الأبدي ويهنأ قلبه بتوءم روحه.
ظل حازم يرنو ويحدق بالمارة في غدوهم ورواحهم وهو يتململ من الشوق والتلهف حتى مالت الشمس إلى المغيب، وندرت السابلة في باحة الكاتدرائية ولم تأت فتاته، وتركته يتلظى في حمأة الحيرة بين رجاء وقنوط، يشعر حازم أنه فقد حلمه إلى الأبد فالأحلام الجميلة لا تدوم والآمال الحلوة ما تلبث أن تزول سريعًا، قفل حازم عائدًا إلى البيت عبوسًا مطرق الرأس يجر أذيال الخيبة، وما برح يغلظ في لوم نفسه وتأنيبها على المبالغة والإفراط في التوهم، اضطجع فوق الفراش وسرعان ما أسلم نفسه للنعاس لكن الرؤيا عاودته مرة أخرى وحلم بلارا وهي تستجديه وتطلب عونه ونهض فزعًا وهو يشهق وينشج.
يعاود حازم مشاهدة أفلام لارا ستاينر واسترعى انتباهه ذلك المشهد، الذي شخصت فيه لارا دور فتاة ساذجة تعرضت للإغواء من أبيها، وهي ما زالت في طور العذرية، الغيداء تمكنت من أداء دور الملاك البريء الطاهر الذي تعرض للإغواء رغما عنه ثم تبدلت شيئًا فشيئًا إلى امرأة داعرة لا نظير لها، ما هو السر في تلك الغانية...؟ ربما تكون الموهبة والقدرة الفائقة على التشخيص وتقمص الأدوار، بيد أنها لم تكن تؤدي أي دور تمثيلي أمام الكاتدرائية بل كانت على سجيتها آن ذاك، إنه أبصرها على فطرتها على بديهيتها وهي ليست مارقة فاجرة، ربما تكون لارا ضحية خداع أو تدبير ما...؟، لكنها تبدع في الفجور والتميع ولا تبالي رغم عذوبة إطلالتها ورقة سمتها، أي نوع هذا من البشر...؟، إنها مخيفة مريعة ولا تستحق الرثاء ولا الغفران، هي كالسم في العسل بل هي أخطر من كل وحوش العالم، ذلك الوجه البريء وتلك البسمة الصافية تدفعك أن تهيم بها عشقًا، وحينما تدنو منها بقلب ملهوف تبادرك بطعنة نجلاء تدمي قلبك وتسلمك للردى في لحظات، ولكن لمَ لا تكون هي الضحية...؟ فهذا التدبير الشيطاني لا يصدر من فتاة صغيرة في مقتبل العمر، حتمًا هي مجرد أداة تحرضها قوى خفية وليس الأمر كما يبدو.
تلك النتيجة أبهجت قلب حازم بطريقة ما، لأن فتاة الكاتدرائية صار لها وجود واقعي وعليه أن يعرف هل هي حقًا توأم روحه كما يظن أم أنها لعنة أزلية...؟، الأمر لا يفتأ يزداد تعقيدًا، ولم يبق لدي حازم غير البحث عن فض شفرة تلك الأطروحات، وسبر غور هذه الشيطانة التي أحبها، ولماذا أحبها ولماذا تبعث إليه بالرسائل في منامه ويقظته، يزمع حازم أمره في النهاية ويزمع مقابلة لارا ستاينر بأي وسيلة ومهما كلفة الأمر.
رغم معارضة ماجد للفكرة برمتها إلا أنه عمل على ترتيب لقاء بين حازم ولارا، واستعان بصديقة تدعى صوفيا تعرف إليها في الملهى التابع لشركة بيلادونا التي تنتج أفلام لارا ستاينر، صوفيا تعمل لدى الشركة أيضًا وتربطها علاقة وثيقة بلارا ستاينر، الشركة تختص بمجال الترفيه وإنتاج الأفلام الإباحية ويمتلكها توماس بينوتشي، والذي أربى على الخمسين وهو يمتاز بالفخامة في كل شيء، سيجاره وسيارته وحذائه كل ما فيه ينضح بالثراء الفاحش ونظرته باردة متعالية توحي بالهيبة وغالبا ما يتجول برفقة حارس مسلح لا يفارقه.
داخل قاعة الملهي جمهرة من الفتيان والفتيات غريبي الأطوار، يتراقصون على نغمات موسيقى - البلاك ميتال والبلوز والهارد روك - والقاعة تبدو أنيقة متألقة والأنوار الملونة والصخب والضجيج يؤجج فيهم الحماسة والمجون، ديانا فتاة غانية مثيرة لا تكاد تتجاوز سن المراهقة، تتعرض للانتهاك والسب من قبل إلفها الذي همَّ بمغادرة المرقص دون أن يسدد حساب الملهى، يسارع الأمن بالقبض علي ديانا ويطالبونها بالسداد، لكنها مفلسة معدمة وتزدان بحلى زائفة زهيدة، اضطر الحرس لاقتيادها إلي أندريا مدير أمن الكازينو، هو رجل قوي صعب المراس يركن عادة إلى القسوة ويرهب رجاله ورواد المرقص، السقوط في قبضة أندريا لابد أن يصحبه ألم وعويل وأنين، لكن ما حدث مع ديانا كان حالة فريدة لا تحدث إلا نادرًا، فقد ألان أندريا لها جانبه وبش وهش في وجهها وأكرم وفادتها وهدَّأ من روعها وأعطاها كأسًا من نبيذ، مما أثار اندهاش رجال الأمن وتغامزوا وتلامزوا فيما بينهم، الرجل لا يفعل هذا دون غاية وغالبًا ما تكون دنيئة حقيرة فالغيداء نالت أعجابه وأرادها لنفسه، أندريا يأمر رجاله باصطحابها إلى الطابق الأخير حيث مقر السيد توماس بينوتشي.
دلفت ديانا مكتب توماس الذي أكرم وفادتها بدوره وأبدى إعجابه بجمالها وروعة رسمها ونظمها وقوامها الممشوق، أطرقت الفتاة حياء من هذا الإطراء الذي تجاوز حدود المجاملة إلى إبداء الرغبة والاشتهاء بطريقة مبتذلة، انتصب توماس واقفًا وأشعل لفافة تبغ ثم دنا منها ومرر يده على جسدها بجسارة وتبجح جعلها تجفل وتنثني مبتعدة، ندت عنه قهقهة عارمة وبرقت عيناه وعرض عليها تجاهل أمر فاتورة العشاء والشامبانيا وقال مداعبا: (فتاة في حسنك لا تسدد الفواتير... بل يُدفع إليها وأنا أقدر الجمال وأجود لأجله بالكثير)، تفتر الغيداء ممتنة وتستحسن الإطراء وتعلوها مسحة ارتياح وحبور وتقول: (هذا كرم لا استحقه سيد توماس)، يقترب منها ويهمس قائلًا: ( بل تستحقين أكثر من هذا، ما قولك في خمسة آلاف يورو تحصلين عليهم توا، فور قبولك المشاركة في عمل درامي من إنتاج الشركة وبالشروط التي تناسبك ولك الحق في القبول أو الرفض ولن يعترض طريقك أحد إن رفضتِ)، الغيداء تتجهم وتتلجلج وتتحير ولا تتفوه بالرفض أو بالقبول، يطمئن توماس إلى نيل مبتغاه وقد أيقن أن الفتاة حائرة في أمرها وليس عليه إلا أن يرفع قيمة العرض، ويزيد في إغرائه حتى ترجح كفته واستطرد قائلا: (أستطيع أن أجعل منك نجمة متألقة، إنه أوان سعدك دون ريب، المجد والشهرة والثراء يقرعون بابك ليس عليك غير الإذعان وتوقيع العقد والشركة تتكفل بكل شيء، تدريبك مسكنك ملابسك سيارتك كافة متطلباتك تأتيك من أشهر الماركات وبيوت الموضة، إلي أن نرقى بك إلى ذروة المجد سيدتي الجميلة)، الغيداء تتلقى طرقات متتالية على رأسها الصغير الذي ما لبث أن فقد دوافع الرفض ورضخ صاغرًا أمام هذا الكم الهائل من الهبات والمنح المجانية، وما الجرم في ذلك أنهم سوف ينالون جسدها بعض الوقت ويعطونها في المقابل كل شيء تشتهيه في الحياة حتما هي مقايضة رابحة، وهي بفطرتها تعشق الجنس إلى حد الهوس وتعتقد أنه لا شيء في الكون يضارع لحظة نشوة جسدية تصل فيها إلى الذروة مع خليلها، إن جل ما ستفعله هو إشباع رغبتها الجامحة في المضاجعة وتجني ثروة طائلة وتصير نجمة يلهث في إثرها فحول الرجال، وما لها لا تقبل وهى تعيش في حجرة بائسة برفقة إلف تافه بليد العقل والحس، ينهل كل يوم من رحيق فتوتها وروائها ويسيمها الهوان والصغار تبا له ذلك الوغد وتبا لهم جميعا.