"النساء كلهن يفعلن إلا أنتِ" قالها بصوت مضجر ثم خرج جاذبًا خلفه الباب بعنف.
لقد تغير بسرعة غير متوقعة، كان قبل شهور – أثناء خطبتنا – يعاملني معاملة مختلفة، يحدثني عن الونس كثيرًا، قال لي إن الحياة تكتمل فقط حين نكون معاً
طوال فترة الصيف كنا نتعارف، نتقابل يوميًا تقريبًا، أحيانا يأتي إلى بيت عمي، وأحيانًا في الخارج، كان راقيًا يفتح لي باب السيارة، يسير ورائي، يُجنبني الزحام، ويشد لي المقعد لأجلس. يجعلني أختار كل شيء.
حين يرى وجهي متعبًا يأخذني للطبيب دون مناقشة، وكنت إذا نظرت لشيء في الطريق يذهب ويشتريه لي دون أن أطلبه.
سعته العقلية، وروحه الصافية، جعلاني أقبل بالزواج منه بعد أربعين عامًا من الوحدة والرفض. لكن قبل القبول صارحته بكل شيء يخصني، حدثته عن نفسي وكوني امرأة تبدو للجميع معقدة، فأنا أعاني من عقد تخص الحمل والإنجاب، حدثته عن مخاوفي باستفاضة، فكيف تتكشف امرأة أمام رجل، أو أن تنام على طاولة العمليات حولها رجال ونساء، هذا طبيب التخدير وتلك الممرضة، وأخرى عاملة النظافة، غير الطبيب وطبيب الأطفال، هؤلاء كلهم حولها وهي في غير وعيها، عارية. وكيف لي أن أتصرف مع روح تحتل رحمي تتحرك بقسوة، تسبب لي الوهن والإعياء، وأبقى أتحمل طول العمر مسئوليتها.
تفاعل مع أزمتي، وتعاطف معي، وقال إنه لم يفكر في أمر الأطفال أبدًا، وإلا لكان تزوج منذ زمن.
حين أتمت الأربعين كفّ عني الناس، لم يعدوا يتسلون بخيبتي كما كانوا يقولون، أو على الأرجح يأسوا مني، اعتدوني هكذا خارج الإطار المنمق للحياة التي فقدوا أنفسهم فيها، نسوا سيرة العانس التي تعيش وحيدة في البيت الكبير الواقع على الطريق مباشرة أمام موقف السيارات. لذا اندهش الجميع حين سمعوا بأمر خطبتي.
تزوجنا وسافرنا إلى المملكة العربية السعودية، استلم عمله وأنا بقيت أرتب شؤون البيت إلى أن يعود. قبل فترة بدأ يلح علىّ أن أذهب لطبيب أمراض النسا لأتبين لماذا تأخر الحمل. كان عمر زوجنا حينها سبعة أشهر ونصف! بدأ يتوتر ويوترني.
ونسي ما قلته عن مخاوفي، وقال إن هذا "دلع ستات"، تعجبت من تغيره، وبدأت أسأل معارفه عن سبب تأخره في الزواج، قالوا إنه بدأ يبحث عن عروس حين عانى من الوحدة. بعد أن توفي صديق طفولته والذي كان يشاركه السكن والحياة.
لذا تعجبت حين فتح أمر الإنجاب بكل هذه الحدة، فأنا امرأة أربعينية، وقد تكون انتهت فرصتي في الإنجاب من الأساس، وأن كان يريد أولادًا لماذا لم يتزوج امرأة غيري، أصغر سنًا تحقق له ما يريد؟
حين أعدت عليه حديثنا السابق عني قال مهدئًا : إنه سيأخذني لطبيبة مصرية تعمل في مستشفى استثماري هنا في السعودية. حاول كثيرًا معي، أحيانا بالتفاهم وأحيانا بالإهانة، وأنا في حالة رعب وهلع، لا أملك القدرة على فعل ذلك، أحال عليّ أهلي وأصدقائي، وأنا تعبت من الإلحاح والضغط. بت أبكي دون سبب، وأشعر أني تسرعت في قبول الزواج بعد كل هذا الرفض، تذكرت أني رفضت في العشرين من عمري الزواج من الرجل الذي أحببت لأني خشيت معارك النساء مع الألم ، عانيت من تلك العقد التي لم تحل قط، ولا حتى على يد طبيب الأمراض النفسية. كانت أمي هي الوحيدة التي تشعر بي وتُقدر حالتي، لذا لم ترغمني على شيء قط، عشت معها في أمان إلى أن توفت.
حاولت كثيرا أن أحافظ عليه وأذكره باتفاقنا، وأنّ سبب الزواج هو التخلص من الوحدة وليس الإنجاب، لكنه اتهمني أني لا أحبه، ولا أريد منه طفلًا.
بعد أشهر من المعاناة معه، وفي عيد ميلاده الخمسين، قمت بعمل حفل كبير محاولة أن أجدد ما دمرته أيام الخلاف بيننا، زينت المنزل بالبالونات والأحبال الملونة، وكتبت اسمه على الجدران، اشتريت تورتة كبيرة وعصائر ومشويات، وارتديت عباءة مناسبات رقيقة، دعوت أصدقاءه في العمل وزوجاتهم... دخل الشقة في الثامنة متفاجئًا، استقبله الجميع بالأغاني والمباركات والدعوات، جريت مسرعة لاستقباله ، قبلته واهديته هديتي، طقم أزرار ذهبي ومصحف كبير.
كنت أتابعه في الحفل أجده متوترًا حزينًا، كل ما صنعت لم يُذهب حزنه. وقفت جواره وهو يطفئ الشمع، همس في أذني في لحظة هدوء وقال : انت طالق.
رغم أنه قالها بصوت منخفض إلا أنّ الجميع سمع ما قال ، صمتوا جميعا ، تملكتهم الدهشة من قسوة موقفه .
باءت محاولات الأصدقاء بالفشل، منحني أسبوعًا داخل الشقة ينهي هو خلاله أوراق السفر وأستعد أنا للرحيل، سمعت كلامًا من زوجة زميل له في العمل، أنه قدّم طلب إجازة قصيرة للزواج وسيعود، شعرت بالقهر وكأنه يعامل دمية صنعت خصيصا له، فعقدت العزم على الرحيل دون توسل أو محاولات جديدة.
عدت إلى مصر، عدت بانكسار أكبر، بوجع وهلع وخوف وإهانة، لقد جرحني أمام الجميع، وأصر على مغادرتي المملكة، ساعتها تذكرت أمي حين كانت تقول لي أن الرجل الذي يبالغ في احترام المرأة التي لا تخصه هو أكثر الرجال إهانة لأهل داره.
كنت في الطائرة أطبق يدي بشدة، ثم أطوي زراعي على صدري، وكأني أتشبث بنفسي المكسورة ، لم يجف دمعي ندمًا على ما فعلت بنفسي وأقسمت أن أتعامل مع عجزي باحتواء وتقبل وأبقى بمفردي ما حييت.
حين وصلت مطار القاهرة كنت قد بلغت من التعب مبلغًا عظيمًا، فسقطت فاقدة الوعي، في المستشفى أفقت على الطبيب يقول لي: مبروك يا مدام انتِ حامل.