(1) ذاكرة خاوية
كعادتها الصباحية التي لا تتغيَّر، أعدَّت فنجانين من القهوة، وبالشُّرفة المطلَّة على الحديقة وضعت تلك المائدة التي تحتفظ بها منذُ زواجها -والذي امتدَّ لأكثر من رُبع قرن- وكرسيَّين من الخيزران العتيق بطَّنتهما بحشوٍ من الريش مُغطَّى ومكسوٍّ بالحرير هُم كل عالمها الصباحي.
وضعت القهوة ومالت عليه هامسةً بحُبٍّ وهيام:
- أتمنَّى أن تُعجِبك قهوتي لهذا الصباح، ولا توبِّخني ككل صباح.
تأمَّلت نظرته الحانية لها، تلك النظرة التي لم تتغيَّر منذُ تزوَّجا، مزيج من التأمُّل والودِّ الممزوج بحنين وشوق لم يخفت أو يخبو بريقهما.
قالت بوُدٍّ: وماذا بعد؟ هل سأتحدَّث وحدي؟ ألَا يروقك حديثي؟
مدَّت يدها بأصابع مرتعشة وبلمسة حانية اقتربت من جبينه حتى كادت تلتصق به، لم يمانع ولم يدنُ أو يبتعد، ولم تتغيَّر نفس النظرة الحانية الممزوجة بالعشق، مالت نحوه بهدوء وقبَّلت جبينه.
تحدَّثت كعادتها الصباحية عن أولادهما وكيف أصبحوا ناضجين رغم أنَّهم بعيدين عنهما، ولكن الأهم من كل ذلك أنَّهم ناجحون، نعم.. هم يأتون إليهم كلما سنحت الظروف، ولكن لا بأس، فما دُمت أنت معي فلا شيء يؤذيني.
ارتشفت بعض القهوة مُحذِّرةً إيَّاه أنَّ قهوته ستبرد ككل مرة، وأنَّه سيلومها كالعادة؛ لأنها لم تُحذِّره.
أشارت له بنظرةٍ حالمةٍ أن ينظر معها نحو السماء الصافية بزُرقتها وقرص الشمس المشتعل يُرسِل أشِعَّته المخملية وقوس قزح الذي يتماوج بكل الألوان بين السُّحب؛ ليُضفي عليها سحرًا لا تُخطئه الأرواح النقية، حتى تبدو وكأنها لوحة فنية أبدع فيها الفنان، كيف لا والمبدع هُنا هو رب هذا الكون؟!
أردفت قائلةً وهي تتأمَّل تفاصيل وجهه العاشقة: كم هو جميل أن نستمتع أحيانًا بما حبانا الله به من الطبيعة الساحرة، ونستشعر عظمته وإبداعه!
لم يرد، واكتفى بنفس النظرة التأمُّلية الممزوجة بالعشق.
قالت بحدَّة وكأنها قد نسَت أمرًا مهمًّا:
- نسيت أن أخبرك، فبعد غدٍ سأحتاج إلى بعض الأغراض؛ لأعدَّ بعض الكيك والحلويات، أم تُراك نسيت كعادتك أننا بعد غدٍ سنحتفل بمرور تسعةٍ وعشرين عامًا على أول لقاء جمع بين قلوبنا؟!
استطردت قائلةً وهي تعود بكرسيها للخلف وبذاكرتها للماضي السحيق:
- هل تذكُر ذلك؟
يا له من لقاءٍ لا يُنسَى ولا يُمحَى من الذاكرة ما بقيت الأنفاس تتردَّد بصدري، وما دام بقلبي نبض يُردِّد اسمك!
أغمضت عينيها ومالت برأسها للخلف؛ لتستعيد أجمل لحظات العمر بشوقٍ وحنينٍ قائلةً بدهشة: هل يُعقَل ذلك؟
ما زلت لا أُصدِّق ما حدث !
كان لقاؤنا قدَرًا وما أروعه من قدر! وكأننا كُنَّا نبحث عن بعضنا منذُ الولادة وحتى اللقاء!
هل تتذكَّر أول مرة تحدَّثنا فيها على الهاتف؟ ظننتني طفلةً صغيرةً لم تتجاوز العشرة أعوام، وأخبرتني يومها أنَّ صوتي كقيثارة من السماء تعزف أجمل الألحان، وأنَّني ملاك على هيئة بشر، وأنَّني سأظل دومًا طفلتك التي لم ولن تشيخ.
ضحكت هامسةً بوُدٍّ وهي تقول بدلال طفولي: هل ما زلت ملاكك وطفلتك الصغيرة؟ أم تغيَّر هذا بعد كل هذه الأعوام؟
مرة أخرى امتدَّت يدها لتلامس جبينه بأصابعها المرتعشة، وبنظرة تحمل مشاعر تعجز أن تصفها الكلمات والحروف.
أنهَت قهوتها، فقد بدأت الشمس تملأ الشُّرفة بأشِعَّتها الدافئة، أمسكت بالبرواز بين يديها برفق، وكأنها تخشى أن تخدشه بأصابعها المرتعشة.
نظرت لصورته بالبرواز نظرةً أخيرةً قبل أن تزيل ما ظنت أنَّه بعض التراب والغبار قد علِق على صدره وجبهته.
وَضَعت البرواز بنفس المكان البارز؛ حتى لا يغيب عن عينيها التي لا تمل من رؤيته، وكيف تمل من عالمها الذي يسكنها قبل أن تسكنه كما تُردِّد دائمًا؟
طلبت من الخادمة أن تحمل الأكواب إلى المطبخ، وأن تساعدها على العودة للفراش.
أتت الخادمة لتحمل الأكواب وهي تُهمهِم بلهجةٍ اعتراضيةٍ مُستنكرة، وبصوتٍ خفيضٍ وهي تقول مُتسائلةً: لماذا تصنع كوبين من القهوة ما دامت تشرب كوبًا واحدًا فقط في كل مرة؟! ربنا يلطف، وكمان بتقعد مع برواز وبتتكلم مع صورة !
التفتت للخادمة بحدَّة وهي تقول: أسمعكِ بوضوح، فلا تقولي عنه بروازًا، ولا تظني أنه صورة فاقدة للحياة؛ فهو ما يُعينني على الحياة رغم الفراق.
استطردت قائلةً بحُب: هو ذاكرتي النابضة التي لا تشيخ مهما مرَّ عليها الزمن، فإن كانت ذاكرتي تخونني أحيانًا أو قد تكون أسقطت بعض الأحداث، أو حتى بعض الأشخاص إلَّا أنَّ ذاكرتي ما زالت تمتلئ به؛ فهو عصيٌّ على النسيان، ومثله لا يسقط من الذاكرة أبدًا وما حييت، فهو بالنسبة لي ليس شخصًا بل نبضًا بمثابة حيـــــــــــــــــــاة، وما أجملها من حياة! بل إنَّ كل لحظة معه كانت وما زالت حيــــــــــــــــــــاة!
(2) ضمير الغائب
بإحدى المناطق الراقية داخل أحد مراكز التسوُّق الكُبرى سيدة بنهاية عقدها الثالث بصُحبتها فتاة صغيرة يقترب عمرها من ثمانية أعوام، كانتا تتجوَّلان بنشاطٍ وحيويةٍ ومرحٍ وهما تُطالِعان واجهات المحلات التجارية وما تعرِضه من بضائع، فتدخلان بعضها تشتريان ما راق لهما وتتجاهلان بعضها في رحلةٍ من التسوُّق بدَت لهُما بغاية المتعة.
لم تفطن السيدة لذلك الصبي الصغير ذي السبعة أعوام تقريبًا، والذي يتتبَّع خطواتهما، حتى لكزتها ابنتها برفق وهي تقول هامسةً:
- أمي، هذا الفتى يُراقبنا منذُ دلفنا للسوق.
نظرت المرأة حيثُ أشارت الفتاة بحذر، وقد ظنَّت أنه رُبَّما يكون مدفوعًا عليهما لمراقبتهما، ومن ثَمَّ خطف حقيبتها أو قطعة من حُليِّها، كما سمعت من بعضهن أو قرأت بصفحات الحوادث والجرائم.
ولكنها ما إن نظرت إليه حتى وجدته طفلًا ملائكيَّ الملامح أبيض البشرة ذا شَعرٍ غزيرٍ أسود فاحم، يرتدي ملابس فاخرةً تدلُّ على رُقي مُستواه الاجتماعي، لا تخلو ملامحه من حزنٍ دفينٍ قد بدا جليًّا على محيَّاه.
عندما اطمأنَّت لملامحه تجاهلت الأمر وهي تقول لابنتها:
- رُبَّما اشتبه عليكِ الأمر؛ فهو بلا شكٍّ يبحث عن والديه.
سارتا بهدوءٍ وهما تتسوَّقان حتى شعرت الفتاة بالتعب والإرهاق، فما كان من الأم إلا أن تصحبها للكافتيريا؛ لتناول بعض الأطعمة والمثلَّجات والقهوة.
وما إن استقرَّتا على مقعديهما حتى أشارت الفتاة لأمها وهي تقول:
- ما زال يُراقبنا يا أمي!
عندما نظرت الأم حيثُ أشارت بإصبعها كان الطفل يقف خلف زجاج الباب الخارجي يُراقبهما بنظراته التي استقرت عليهما مباشرةً.
بدا الأمر مربكًا بعض الشيء للمرأة؛ فهيئة الطفل لا تُوحي بما يستحق القلق، بينما ملاحقته لهما ونظراته المُسلَّطة عليهما أمر مُثير للتساؤل.
للحظات همَّت بالتوجُّه نحوه؛ لتسأله عن سر ملاحقته لهما لولا أنَّها رأت عامل الكافتيريا يحاول صرف الطفل من أمام واجهة الكافتيريا بعد أن تيقَّن أنه لا يتبع أحد رواد المكان، بينما ظلَّ الطفل واقفًا بقوةٍ وثباتٍ دون أن يُبدي أي تجاوب مع العامل أو يتحرك من مكانه قيد أنملة.
لا تدري حقًّا لمَ فعلت ذلك، ولكنها -وبعفوية- أشارت للعامل أن يدَعه يدخل،
تقدَّم الطفل نحوهما بخطواتٍ مُتردِّدة دون أن يشيح عنها بعينيه ولو لبرهة من الوقت.
وها هو بعد أن أصبح يقف على بُعد خطواتٍ منها وبمقربةٍ من طاولة الطعام ما زال كما هو لا يفعل شيئًا سوى التحديق بها، بينما أنفاسه المتلاحقة تتردَّد بصدره الصغير ليعلو ويهبط بسرعةٍ لا تتناسب مع وقوفه الهادئ.
المرأة بابتسامة ودودة وقد ظنَّت أنه رُبَّما يكون جائعًا:
- هل أُحضِر لك بعض الطعام؟
الطفل لا يرد.. فقط نفس النظرة الصامتة.
- هل أُحضِر لك المثلَّجات؟
الطفل لا يجيبها، ولا يشيح عنها ببصره!
همَّت أن تسأله عن اسمه وعن والديه وهل هو تائه؟ لولا ذلك النداء الداخلي بالسوق والذي ينادي على طفل مفقود اسمه مازن، ويرجو مَن يجده أن يتوجَّه به لمكتب الأمن.
هُنا أدركت أنه هو الطفل المفقود؛ فتنفَّست الصعداء لمعرفتها ذلك، وهي تسأله بحُب:
- أنت مازن، أليس كذلك؟
هيا، تعالَ معي، سآخذك لوالديك.
لم يُبدِ الطفل أي تجاوب معها، ولم يتحرك من مكانه، ولم تتغير نظراته نحوها،
هنا لم تجد أمامها سوى إرسال عامل الكافتيريا لمكتب الأمن وإخبارهم بوجوده؛ ليطمئن والديه.
دقائق قليلة ثم حضر شاب بنهاية عقده الثاني وقد بدا عليه الذُّعر، وما إن رأى مازن يقف قُبالتهما حتى ربَت على رأسه بحنوٍّ وهو يحاول أخذه والانصراف بعيدًا، بعد أن شكر المرأة واعتذر لها عن الإزعاج.
المرأة وهي تتنهَّد بخجلٍ مُخاطبةً ذلك الشاب بتساؤل:
- ما به؟ هل هو أصم؟
أردفت قائلةً: لم ينطق بحرفٍ واحد، ولا يفعل شيئًا سوى التحديق بي!
الشاب وهو يتنحَّى بها جانبًا وبعيدًا بينما نظرات الطفل تُلاحِقها :
- أنا باسل، وهذا مازن ابن أختي، وقد تركنا بلدنا ونزحنا إلى هنا بعد أن اشتدَّ القصف وكثُرت الغارات على بلدتنا وتهدَّمت منازلنا.
المرأة: وأين والداه؟
ولماذا يرمقني بنظراته؟
ولماذا لا يتحدَّث؟
الشاب بأسى وحزن، وبصوتٍ متهدِّج وهو يقول:
- بإحدى الغارات تهدَّم منزلهم على مَن بداخله؛ ليموت والديه وتموت أخته الصغيرة، بينما كان مازن هو الناجي الوحيد، ومن وقتها وهو لا يتحدَّث مع أحد حتى أنه منذُ استُشهِدت أسرته لم يذرف دمعةً واحدة، وكأنَّ الأمر أكبر من قدرته على التعامل معه أو احتماله.
استطرد يقول: بعد عرضه على الطبيب أفاد بأنه تعرَّض لصدمةٍ شديدةٍ من تأثير القصف وفقدانه لأسرته بتلك الغارة.
تأثَّرت المرأة ممَّا سمعته حتى سالت دموعها الصامتة من عينيها؛ لتعجز عن كبح جموح مشاعرها، وبحركةٍ عفويَّةٍ لا إرادية توجَّهت نحو الطفل؛ لتطوقه بذراعيها وتحتضنه بقوة وبصمت لعدة دقائق.
غابا سويًّا بحُضنٍ طويل؛ ممَّا جعل أنظار الجميع تتوجَّه نحوهما، شعرت بدموعه تُبلِّل ملابسها؛ فأدركت أنها ليست سوى دموعه الحبيسة، والتي عجزت أن تخرج من مُقلتيه منذُ موت والديه وشقيقته.
أمسكت برأسه بين يديها بحنوٍ بالغ وهي تجاهد لكبح انفعالاتها؛ لتخبره أنه بطل، وأنه سيتجاوز ذلك، ولكنه لم يمهلها أي وقت للحديث، فبينما كانت دموعه البِكر على موت أسرته تنسلُّ من عينيه وتنساب بغزارة اقترب من أُذنها هامسًا بعبارته الأولى منذُ فقدهما، ليقول بعفويَّةٍ وبراءة:
- تُشبهين أمي كثيرًا.
(3) موتٌ مُحقَّق
بغرفة الضيوف في المنتصف تمامًا أحضر مقعدًا خشبيًّا اعتلاه بجسدٍ مُنهَك وأقدام مرتعشة، قام بربط حبل سميك بمروحة السقف تحسَّسه بيده؛ ليتأكَّد من متانته وقوة تحمُّله.
مرة أخرى صعد ليقف على المقعد بعد أن تيقَّن من قوة ومتانة الحبل، من ثَمَّ وضع رأسه بداخل تلك الحلقة من الحبل، والتي التفَّت بقوةٍ وإحكامٍ حول رقبته.
نطق الشهادتين ثم استغفر الله متوسِّلًا أن يسامحه على تلك الجريمة التي سيرتكبها بحق نفسه وأسرته قبل أن يركل المقعد بقدميه بقوة ودون تردُّد؛ خشية تراجُعه عمَّا انتواه، ليتأرجح جسده بقوة وبجميع الاتجاهات.
شعور مفاجئ بالاختناق وضيق شديد بالتنفُّس مع سرعة متزايدة بنبضات القلب.
سمع بأذنيه قرقعةً شديدةً لم تكن إلا صوت تحطُّم فقرات عُنقه، بعد أن تدلَّى بثقل جسده من ذلك الارتفاع.
شعر بجحوظ عينيه حتى أوشكتا أن تُغادرا محجريهما، صاحَبَ ذلك تنميل بالرأس كَسَريان النار بالهشيم.
شعور بالدوار والخدر يسري بكامل جسده رويدًا رويدًا، تبعه خمول وسكون يُنبئ بأنَّ الروح انسلَّت أو تكاد من جسده.
وكما بدأ كل شيء فجأةً انتهى فجأةً، ليصرخ بخوفٍ وفزعٍ وهو يقول:
- لااااااااااااااا.
أفاق من نومه فزِعًا مذعورًا يحاول باستماتة ابتلاع ريقه وهو يُردِّد الشهادتين ويستغفر الله بعد أن أدرك أنَّ ما عاشه منذُ لحظات لم يكن سوى كابوس مُرعِب.
نظر لساعته.. كانت تُشير للتاسعة صباحًا وهو وقت مُتأخِّر بالعادة؛ حيثُ إنه تعود الاستيقاظ مبكرًا للذهاب لعمله كـ (دليفري) عامل توصيل بأحد الكافيهات الشهيرة قبل أن يبلغوه بالعمل أن يأخذ إجازةً بدون راتب أو يبحث عن عمل جديد؛ نظرًا لتوقُّف العمل تماشيًا مع قرارات الحظر بإيقاف بعض الأنشطة.
غادر فراشه ليغسل وجهه من ثَمَّ عاد للغرفة، حيثُ ما زالت زوجته نائمةً؛ ليُوقظها برفق وحنو وهو يُخبرها أن تُجهِّز نفسها وطفلهما؛ كي يقوم بتوصيلها لمنزل والديها.
تململت بفراشها محاولةً طرد أثر النُّعاس من عينيها تغالب دهشتها وحيرتها لطلب زوجها أن تقوم بزيارة بيت أهلها، وهو مَن كان يرفض ويغضب منها؛ لكثرة زيارتها المتكررة.
بدهشة نظرت إليه وهي تقول: ولكنني لم أطلب منك الذهاب لبيت أهلي!
بلهجة متلعثمة وصوت متقطع جاهَدَ ليبدو طبيعيًّا قال لها:
- سيكون من الجيد زيارتهما والبقاء برفقتهما بعض الأيام؛ لرعايتهما.
بخوفٍ وقلقٍ قد بدوَا على ملامحها وبصوتٍ مرتعش سألته:
- هل هما بخير؟
هل أصابهما مكروه وأنت لا تريد إخباري؟
أقسَمَ لها أنهما بخير، فقط يريدها أن تمكث معهما لبعض الوقت.
باستسلام وحيرة قالت له: حسنًا، سأعدَّ الطفل وأرتدي ملابسي؛ لتقوم بتوصيلي إلى هناك.
جلس بالردهة ينتظرها بينما بصره مُعلَّق برسائل الهاتف بانتظار رسالة التضامن الاجتماعي بصرف منحة العمالة المتضرِّرة من الحظر.
فتح حافظة نقوده؛ ليتأكَّد أنَّ ما بداخلها يكفي قيمة المواصلات؛ لتوصيل زوجته بيت أهلها.
اعتراه شعور مؤلم بالعجز وهو يُخرِج تلك الورقة التي سجَّلت بها زوجته مستلزمات البيت من طعامٍ ومُنظِّفات وأشياء خاصة بالطفل.
تذكَّر تلك الإعلانات المتكررة للمشاهير من نجوم الفن والرياضة وبعض الإعلاميين الذين يُطالبونه وأمثاله بالبقاء في البيت.
ابتسم بسخرية وهو يُتمتم بحُنق: وماذا عن فواتير الكهرباء والماء والهاتف؟ ماذا عن إيجار شقته وأقساط تلك الجمعية التي اشترى بها بعض الأجهزة؟
تساءل بينه وبين نفسه: أيشعرون بنا حقًّا؟ بل هل يعلمون بوجودنا بينهم؟
تحسَّر على حاله، وعاد بذاكرته للوراء عندما كان ينتمي للطبقة المتوسطة؛ ليتساءل بغضب: هل أصبح هناك طبقة متوسطة؟!
ليُتمتم بعبارة ساخرة: لقد تلاشت، فالآن هناك فئتان فقط لا غير، فئة الأثرياء والذين يزدادون ثراءً مع كل أزمة، وفئة الفقراء الذين يزدادون فقرًا مع كل أزمة.
تنهَّد بأسى وبصوت متهدج وهو يُردِّد في صمت: ليت القائمون على أمورنا يدركون أنَّ البقاء بالبيت لمَن هم مثلي موت من نوع آخر.
استطرد يقول بحزن مشوب بالوجع: إن كان خروجي للبحث عن مصدر للرزق موت مشكوك فيه، فبقائي بالبيت هو موت مُحقَّق.
سال الدمع من عينيه قهرًا وهو يُتمتم بأسى: حتى انتظاري لإحسانٍ قد لا يأتي هو موت معنوي.
بخطواتٍ مُتثاقلة تحرَّك نحو النافذة، رفع رأسه نحو السماء يدعو الله بصوتٍ لم يغادر شفتيه، وعَبرات عجزت أن تغادر مُقلتيه؛ فتحجَّرت بأحداقه لتحرق داخلَه المشبَّع بالوجع والكثير من التساؤلات.
توسَّل لله داعيًا أن يرزقه الصبر والقدرة على التحمُّل والمواجهة؛ حتى لا يقع باليأس الذي يجعله يُنهي حياته للهروب من واقعٍ أصبح كابوسًا مرعبًا له ولمَن مثله واقع أصبح أكثر وجعًا وأقسى ممَّا يحتمله المهمَّشون.