الرابعة مساءً.....
الضجيج يملؤوا المكان، حيٌ شعبيٌ صغيرٌ وممتلئ بالبشر طفلٌ صغيرٌ يلهو مع رفقائهِ بشغفٍ، ملابسهُ باليةٌ، مقطعةٌ أطرافها!
لكنه لا يبالي لذلك ويلعب!
في وسط الشارع المتفرعُ من الحارة الصغيرة،
تُطلُ قهوة المعلم "غريب" بساحتها الخارجية والتي نُصب فيها بعض مَنْ المقاعد والطاولات الخشبية ليتسع المكان برواده للتجار، ولا شيء يتكلّمونَ عنه سوى أحوال تجارتهم، تجدهم أشبه للبحرِ في أحاديثهم، تارة يعلو الصوت الجهوري ويرتفع بينهم!
وتارة أخرى يهدأ وهكذا الحال طوال اليوم!
أصوت النساء اللواتي تصرخنَ على أطفالهن باستمرارٍ لكي يخفضوا صوتهم أثناء اللعب في الشارع!
وفي منتصف الشارع يعبرُ الطريق صالح بخطواتٍ ثقيلة وحزن مرسوم على ملامح وجهِ!
ملابسه غير مهندمة بالمرة وغير مرتبة، يُمسكُ بحقيبتهِ الصغيرة الَّتي مَلَّ مِن حملِها باستمرارِ!
إنه ملَّ كل شيء...
كما مَلَّ أصحاب الحي من رؤيتها بهذا الشكل وبهذه الطريقة،
كل يوم يخرجُ من الساعة السابعة صباحًا ولا يعود بيته إلا كل مساءٍ...
كل يوم يخرج للبحث عن عمل، لدرجة أنه أحيانًا كان يصله اعتقادا داخلي أنه لم يخلق للعمل إنما خلقَ للبحث عن العمل!
ها هو اليوم يعود ولا يعلم كم مرة عاد خالي الوفاض، كم يوم مر عليه قضاه في البحث عن وظيفة، لكنه كان واثق اليوم أنه عادٌ بخيبةٍ جديدةٍ!
وجملة أعتاد عليها الجميع " لم أجد عملاً".
لم يعد يهتم بِه أحد الجميع اعتاد على أمره وعلى مظهره!
بثقل وحزن دخل بيته، وهو خائفٌ من أنه تراه أمه هكذا وتبدأ بكاء كل يوم عندما ترى خيبة الأمل مرسومة على وجهه!
لم يستغرق الوقتُ كثيرًا في التفكير، خرجت والدته من غرفتها فوجدته!
تحركت تجاه قائلة: "هل وجدت عملًا ؟"
نظر لها بعينيه المحملة بخيبات الأمل التي شعر بها طوال عمره التاسع والعشرين، ثم تحرك لغرفته دون كلام وكأن صمته يحكي لها عن فشله للمرة المئة!
تنهدت الأم بحزن، تفكر في حالة ابنها الوحيد رافعة يديها ناحية قلبها لألمها المفاجئ!
اليأس بدأ يتسلل إلى أعماقها كحالِ ابنها
هي أكثر من يعلم أن فرصة عمله ضعيفة جدًا بسبب شهادة الهندسة
قطع شرود الأم صوت الباب عند فتحه ليظهر بعدها هذا الرجل العجوز الذي يظهر على ملامحه الإرهاق والتعب الشديد!
زوجها يعمل في عمل بسيط لا يوفر منه إلا بعض المال الذي يكفي لحياته!
فتسرع الأم له بقلق: "سيد! لماذا عدت مبكرًا؟"
نظر لها "سيد" نفس نظرة ابنه قبل قليل، يضع يده على ظهره من الألم قائلًا : "أخذت إجازة باقي اليوم لشعوري بالمرض!"
تنهدت الأم بحِمل أصبح خانقاً على قلبها، ثم بدأت تسند زوجها الذي لم تعد صحته جيدة كما كان وذلك أكثر ما يرعبها من المستقبل المجهول الذي يلعب بهم وكأنهم عبارة عن دمى لا روح فيها.
.........
ألقى جسده على الفراش الحديدي الموضوع عليه قطعة قماش بالية.
و ظل ينظر إلى سطح غرفته الذي يظهر عليه خدوش تدل على عمر البيت الطويل، يفكر في يومه الروتيني الخائب للأمل!
نهض من جلسته عندما شعر بدخول شخص إلى غرفته، فوجد والده يدخل بحركاته البطيئة بسبب مرضه، فوقف الابن يسند والده قائلاً
: "أبي... لم أكن أعلم بقدومك."
جلس الأب على مقعد أمام الفراش مصنوع من الخشب الممتلئ بالخدوش من كثرة الاستخدام
: "أخبرتني والدتك أنك لم تجد عملاً اليوم ايضاً يا صالح."
صمت "صالح" بحزن، وهو يتذكر يومه الشاق الذي انتهى بإرهاق نفسه الطَموحة، تنهد الأب سيد يُخرج من جسده علامات المرض، والعجز عن مساعدة ابنه : "سامحني يا بني."
أغلق "صالح" عينيه بألم، وظلم لم يعد يستطيع إخفاءه، فقال بدموع لا تغادر حجرة عينيه : "لماذا يا أبي؟"
صمت الأب لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال الذي أتى بعده سؤالاً آخر أكثر ألماً: "لماذا يجب أن نشعر بكل هذا الظلم لأننا لا نملك المال؟!"
نظر الأب بحزن أرضاً، ولم يصمت الابن بل صرخ بأخر جملته، وهو يتحرك لخارج المنزل : "لقد اكتفيت."
بعد سماع الأم لصوت صراخ غريب من ابنها المعروف بهدوئه، نهضت سريعاً تنظر لابنها الذي لأول مرة يرفع صوته على أحدٍ منهما، هبطت دموعها، تستند بجسدها على حافة الباب بعد مغادرة ابنها تتأمل عجز زوجها، وحزن ابنها بقلة حيلة.
ساد الصمت في المنزل، يكسره صوت التلفاز يخبر الجميع كعادة كل يوم بزيادة ما يسمى ب "البطالة" والتي كان لفظها سهلاً جداً مقارنةً بنتائجها.
كانت عبارة عن مرض صعب علاجه، سيطر على جميع أساس اسرتهم حتى قام بتفتيتها الواحدة تلو الأخرى...!
ظهر على الأب العجز الذي يجعله لا يقوى على النظر لعائلته خجلاً منهم، وتبدل حال الابن البار طوال حياته إلى بن عاق لا يشعر بوالديه، وشعور الأم أن حنانها لا فائدة منه كالسابق لإزالة هذا المرض.
في التاسعة صباحًا......
وقفت أم صالح في شرفة بيتها الحزين، لترى هذه الفتاة الواقفة في شرفة أمامها، فتنهدت الأم بحزن على حال هذه الفتاة التي بعمر السابع والعشرين وحتى الآن لم تجد نصيبها، ليطلق عليها المجتمع بأكثر لفظ حاد يُمزق قلب الأنثى "عانس"...!
تمتلك من الجمال ما يجعلها لامعة في عين كل من يراها وذلك بلون بشرتها البيضاء المائلة للاحمرار، وعينيها البنية.
لتصبح في النهاية "جهاد" التي أطلق عليها الحي منذ صغرها "الأميرة الصغيرة ".
التي بعد عامها العشرون بدأ إقبال الكثير على والدها طلبًا منه يد ابنته الكبرى "جهاد" وهو الشيء المتوقع لحسن مظهرها ولكن كان جمالها سلاح قتل رضا والدها...!
يطلب ما هو مستحيل على الرجال هذه الأيام، منزلًا في مكان ما، سيارة، مال لا ينتهي.....
لتصبح الفتاة التي لا يلتفت إليها أحد إلا للنظر فقط، وكأنها لوحة غالية على حائط معرض لم يتجرأ أحد على لمسها أبدًا.
تعاني بعد ذلك من كلام الآخرين، ونظرة المجتمع لها القاسية وكأنها سبب عدم زواجها...!
دخلت الأم لمنزلها لتغلق باب شرفتها، وتظل "جهاد" كما هي شاردة حتى تستمع لصوت والدتها تنادي عليها، لتدخل بهدوء قائلة: "نعم يا أمي."
الأم بصوت عالي كالمعتاد : "تجهزي لنذهب لصديقة لي."
جهاد بهدوء وبملامح لا تذكر رغم هذا الحزن المخيم في عينيها
: "لا أريد يا أمي."
الأم: "لا أحتاج لرأيك، ستذهبين معي، هيا لم يعد هناك وقت."
وكالمعتاد بجسد هش لا قوة له سارت معها جهاد، لتذهب لجلسة أخرى مع صديقة جديدة لأمها، لتعرضها لها بكل وضاعة دون الاهتمام بمشاعر ابنتها ...!
وها هي تجلس أمام الصديقة ليبدأ مديح والدتها في جمالها، لتبتسم الصديقة بفرحة، والأم بأمل، وصمت جهاد التي تنتظر جملة واحدة..!
: "ولكن لماذا فتاة جميلة مثلك لم تتزوج حتى الآن!؟"
ظهرت بسمة جهاد الساخرة لحدوث ما كانت تنتظره...
كأن عقول الجميع متشابهة لا اختلاف بينهم إلا هذه الملامح التي يحاول الجميع بها رسم ما لا يعكس شخصيته لتبدو كأقنعة اسفلها ما يرعب بدنك من كثرة ما بها من شر.
أسرعت الأم تقول بارتباك : "لم يأتي نصيبها."
حركت الصديقة رأسها بعدم اقتناع قائلة بتعجب: "عندما أخبرتني ذلك على الهاتف لم أتعجب ولكن عندما رأيتها بعيني الكلام يتغير، فلا أحد سيصدق أن واحدة بهذا الجمال لم يأتي نصيبها بعد!
:هل ارتحتِ الآن يا أمي؟!
سألت ذلك جهاد بغضب ليس ظاهر، وهي تسير في الطريق مع والدتها التي قالت بغضب أصبح وسيلتها لتخفي ألمها هذه السنين: "لقد كنت أحاول مساعدتك!"
جهاد بعدم تصديق، وهي تقف عن تقدمها : "كنت أتمنى أن تساعدني قبل أعوام."
صمتت الأم لعدم إيجادها لعذر ما، فأكملت جهاد: "لماذا الآن تقومي بتنازلات؟!... وقبل خمسة أعوام لم تفكري غير في المال أنتِ وأبي؟!"
تتكلم الأم بغضب لطريقة ابنتها السيئة: "اصمتي!، لقد فعلنا ذلك لصالحك."
تتحرك جهاد، تكمل طريقها قائلة بصوت منخفض ساخراً استمعت له الأم : "أنا أعيش بسعادة بسبب أفعالكما!!"
في طريقهم بعد انتشار الصمت بينهم، تكلمت الأم أخيراً قائلة لهذه السيدة التي كانت تسير أمامهم: "أم عزيزة.!... كيف حالك؟"
توقفت السيدة أم عزيزة بابتسامة مرتبكة: "أهلًا يا أم جهاد."
الأم بفضول: "ما حال عزيزة ؟"
السيدة بعبس مصطنع: "لا تعلمي!.. تم خطبتها ليلة أمس."
لم تنتظر السيدة رد والدة جهاد حيث قالت مسرعة، وهي تتحرك
: "سأغادر... وداعًا."
ساد الصمت مرة أخرى، ومازالت جهاد ووالدتها يقفون في منتصف الطريق، فابتسمت الأم بارتباك: "لقد تأخرنا هيا."
تحركت جهاد بدون كلام، ليست المرة الأولى التي ترى فيها أحد معارفهم يخفي عنهم خطبة أو زفاف، فخوفهم منها معروف، قد تلقي على ابنتهم لعنة أو شيء مشابهة حسب اعتقادهم، ولكن هذه المرة تشعر أن صبرها قد نفذ، إنها تريد الصراخ بالجميع.
في الثالثة عصرًا...
كان يقف في مكان ما، يفكر في مستقبله المجهول فحتى أبسط ما قد يتمناه المرء لا يستطيع هو تحقيقه، كأسرة صغيرة كباقي الشباب من عمره!
فقريبًا سيبدأ عامه الثلاثون دون أسرة صغيرة تسانده حتى تأكد أنه لا يستحق ذلك، ولن يحصل عليه أبداً.
ولكن رغم اليأس الذي بدأ يتغلغل بداخله، سيحاول مرة أخرى، فالمحاولة يجب أن تنتهي بنجاح في يومًا ما.
:"صالح".
نظر "صالح" لمصدر الصوت، فوجد صديقه الذي يشاركه في هذا الألم حيث لم يجد عمل هو الآخر، تحرك صالح يصافح صديقه: "مرحبًا يا صديقي."
تكلم الصديق بسعادة لم يراها "صالح" عليه منذ فترة كحاله: "لقد وجدت عملًا."
ازدادت ابتسامة "صالح" بأمل وسعادة: "حقًا!؟"
هز الصديق رأسه بسعادة مؤيدًا ما يقوله، فقال "صالح" سريعًا: "هل هناك فرصة لي؟... أين تم قبولك؟"
يضرب الصديق كتف "صالح" بنفس سعادته: "لا تقلق... وجدت لك أيضًا."
قفز "صالح" لأحضان صديقه: "لن أنسى لك هذا أبدًا."
الصديق، وهو يبتعد: "غدًا في الثامنة صباحًا تجهز وأنا سأخبرك بالعنوان في رسالة."
هز "صالح" رأسه بعدم تصديق لكثرة فرحته، وأخيرًا سيبدأ حياته كأي شاب آخر.
في الثامنة صباحًا ......
خرج من بيته ببذلته التي تعد الشيء الوحيد الجيد لديه، فمنذ بدايته للبحث عن عمل قام بشرائها بماله الخاص بعد تجميعه ما يقارب عامين لمالها، تحرك في منتصف الحي ككل اليوم ولكن هذه المرة كانت مختلفة حيث يقوم بأخبار الجميع بعمله الجديد...!
دخل هذه القهوة بسعادة يتكلم بصوت عالي أنه أصبح لديه عمل، ويخبر التجار بسعادته، ويطلب من الشباب البدء في البحث عن عمل بدلًا من جلوسهم هكذا...
ويلهو مع الأطفال في طريقه حتى ابتسم الجميع على هذا الرجل الذي تحول لطفل عند حصوله على دميته المفضلة.
...........
جلس بسعادة ينتظر سماع اسمه للدخول إلى رئيس عمله، وفي منتصف انتظاره وجد هذا الشاب الذي يسير بغرور، يتحرك خلفه مجموعه من الحراس، ودون اهتمام بأحد دخل غرفة الرئيس.
تجاهل "صالح" الأمر وعاد لاستعداده حيث ظل يقوم بالتدريب على تعريف نفسه حتى لا يخطئ عند المقابلة.
قاطعته هذه الفتاة المساعدة للرئيس قائلة : "أعتذر.... لقد تم أخذ العمل من شخص آخر."
هربت أنفاسه من قفصه الصدري وهو يستمع لجملتها التي اخترقت قلبه دون رحمة فظل "صالح" كما هو رافعاً يده التي كانت تتدرب معه لتصبح هذه أصعب خيبة أمل شعر بها في حياته.
نهض "صالح" بروح حزينة، تبكي بدون توقف رغم مظهره الهادئ من الخارج..!
خرج هذا الشاب الذي علم "صالح" أنه أخذ مكانه باستخدام ما يسمى ب" الواسطة"، نظر الشاب لصالح بغرور، وتحرك دون اهتمام به.
فإذا كانت مشكلة "البطالة" تم حلها فلن يتم حل مشكلة فقر صالح بسهولة.
.........
تحرك بخطواته البطيئة في منتصف الحي كما كان يفعل عند عودته كل يوم، بذلته التي أصبحت بالية وكأن روحه بهتت عليها حزنها..!
رفع "صالح" نظره، فوجد أصحاب الحي بأكمله يقف له بحزن، يبدو أن مظهره اخبرهم بما حدث أو خطواته التي تشبه خطوات الموتى الأحياء، أي كان فهو ظاهر جدًا أنه تلقى خيبة أخرى وليست كأي خيبة...!
وبعد أن أصبح الرجل طفلًا، أصبح عجوزًا لا يقوى على الحراك وكأن ظهره يحمل من الأثقال ما يجعله ينحني طوال حياته.
دخل بيته كالعادة ولا أحد يعلم من الحي هل سيعود "صالح" في صباح اليوم التالي بنفس حقيبته ليبحث عن عمل ككل يوم أم أن يوم جلوسه على القهوة كباقي الشباب قد أتى؟!
كانت تقف "الأميرة العانس" في شرفتها تراقب خيبة الأمل في وجه جارها "صالح" التي لا يعلم أحد مدى ألمها أكثر منها.
طوال حياتها البائسة كانت تنظر لهذا الجار المتفائل، تشعر أن حياتها ستتحسن إذا تحسنت حالته؛ فصبرت كصبره ولكن يبدو أن صبرهم لن ينتهي.
وبدون خيار آخر سيكملون طريق صبرهم الإجباري حتى لو أصبح الصبر مُر بالنسبة لهم سيتحلون بالصبر، فالمحاولة تنتهي دائمًا بالنجاح حتى لو بعد حين.
النهاية.