قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ " (مجموع الفتاوى 10/300-302)
يولد الفرد منا مسلمًا متمثلًا دين أهله، حتى إذا ما بدأت آلة الإدراك لديه تتشكل، يبحث له عن وجهة.
قد يكون الإسلام الذي وُلدنا به لا يربو عن كونه شعائر نرى منها ما يُمارَس يوميًا وسنويًا، ولكن تلك الصبغة التي نولد بها قد لا تزيد عن كونها قشرةً خارجيةً قد تنكسر مع سؤال يلقيه في جعبتك متشكِّكٌ من وسيلة تواصلٍ، أو قلمٍ يطعن به في قلبٍ كان مطمئنًّا، أو حادثة تهتز فيها ركائنك التربوية إذا لم تكن ركيزتها قوية، أو انبهارًا بقوة أمةٍ لا تدين للإسلام دون وقوفٍ على أسباب ذلك.
تتردد على آذاننا تلك الآيات التي تحكي لنا قول الكافرين" إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) " سورة الزخرف
وتحكي لنا قصة إبراهيم -عليه السلام- عندما كسر الأصنام ليترك صنمًا واحدًا لعل قومه يرجعون إليه ليسألوه عن بقية الآلهة إن كانوا ينطقون، لعلَّ فطرة العقل فيهم أن تلفظ تلك الآلهة الضعيفة وتعبد إلهًا قويًّا، ولكن بعد أن رجعوا إلى أنفسهم بدلًا من أن يسلكوا طريق الحق، أعدُّوا النار لإبراهيم!
إننا قد نتمثل الإسلام في الينبوع الأول الذي نستقيه منه سواء كان ذلك في الصغر من الوالدين، أو المربين، أو في مرحلةٍ أخرى من مراحل حياتنا من متحدثين عن الإسلام، فلو كان الينبوع رائقًا لا زيغ فيه يُحسِن السُقيا للمرتوين سيتلذذ منه النشء ويحبون الإسلام، أما إذا أصاب الينبوع خللٌ، أو زللٌ، أو كان به شائبةٌ فستجد من يرتوي منه به غصَّة.
إننا لا نفرق بين المنهج وبين أخطاء من يعلمك المنهج، فالقرآن الذي فيه الدعوة إلى الجدال بالتي هي أحسن، والنظر والعقل قد تصادف من المربين لك ممن أخذوا بيدك في أول الطريق غلظة، أو آسفك منه بفعلٍ فتجد في نفسك نفورًا ليس من خطئه، بل عن الطريق بالكلية، وما ذاك لأن الطريق إلى الله فيه خلل -حاشا لله- بل لأنك قصرت نظرك لخطأ المربي الذي تلقيت منه وأوذِيَت منه نفسك؛ فظننت الطريق كذلك.
فالإسلام الذي ورثناه عن أباءٍ مسلمين في زمنٍ من الأزمنة بالفطرة نحتاج فيه لمزيدِ تعلُّم، كما نزداد في مقدار العلوم واللغات بحسب ما تتحمله قدراتنا العقلية في فترات العمر، خصوصًا في هذا العصر الذي تقتحم فيه الأجهزة الإلكترونية معظم البيوت إن لم يكن كلها.
أتذكر مع رفيقات المدرسة كانت جُلُّ أسئلتنا عن الحجاب والصلاة، حتى إذا كنا بالجامعة تجد أسئلةً أخرى، فتجد من يحدِّثك عن سؤال الشر، وآخر يشكك في أصلٍ من الأصول كالسنة المطهرة، هنا لم يعد القدر الذي علمته عن الإسلام كافيًا!
قلّما لا تجد جوابًا عن أسئلتك في الإسلام، والعقل والفطرة السليمة لا يرتضون دينًا سوى الإسلام.
قد يصيب حصن إسلامك الذي ورثته سهم الشك؛ فإما أن تظل تنزف بسموم الشبهات والشهوات دون أن تجتهد أن تجد عالمًا بارعًا يطبب جرحك بأجوبةٍ شافية للعقل والنفس، أو أن تتعلم كيف ترد السهام على أصحابها وتعود بحصنٍ منيع.
في محاضرته عن "غرس القيم" يذكر الشيخ "محمد خيري" أن القيمة تحتاج إلى مكونٍ عقليٍّ، ومكونٍ عاطفيّ، فالمكون العقلي يحمي صاحبه من سهام الشبهات، مثل الوقوف على صحة دلائل الإسلام، والمكون العاطفي يدفع صاحبه لمزيد إحسان.
فالأم التي تكتشف أن ابنتها بلغت سن التكليف ثم تأمرها بالحجاب بلا تمهيدٍ سابقٍ بعقيدة التسليم لله وعبوديته، قد تجد تعنتًا في قبوله لدى ابنتها، أو يكون حجاب الموضة هو الحل البديل؛ على نقيضِ أخرى تتلو على مسامع ابنتها صفات الله وآيات عظمته، وقدرته، وصفات جنته، وصفات ناره، وشقاء الإنسانية عندما حادت عن منهجه، وثواب من أطاعه، وضلال من عصاه، فتمهد الطريق لقبوله.
تجدنا نقبل زي المدرسة بلا نقاشٍ في تفاصيله، ونلتزم بزي الوظيفة إن كان لها زي خاصٌّ بلا جدال؛ فذاك ولا بد له طابعٌ خاصٌ يدل على المؤسسة وطريقتها، ويحقق لها هدفًا يحفظ على أصحابها تميزهم عن غيرهم، سواء كنت ترتدي خوذة تحميك من الارتطام في الموقع، أو واقٍ خاصٍ من أقمشة محددة تحفظك من تسرب ميكروبات أو موادَ خطرة، أو تلتزم لونًا بعينه يكون رمزًا لمؤسستك أو زيًا رسميًا، تقبل ذلك بلا جدال؛ سواء أكنت مقتنعًا بأهميته أم لا! فعلمك بعظم الأمر يجعلك منصاعًا له، حتى إذا ما جاءت إحداهن للحجاب الذي جعله الله فرضًا وعلامةً للمؤمنات، تجد جدالًا لم تخض نصفه مع رؤساء مؤسساتٍ قضت فيها معظم أوقاتها!
فتجدها ترى أن التزام أوامر مديرها في العمل احترامٌ ونظامٌ لسير حركة العمل، أما التزام أمر خالق الكون ومبدعه، والخبير بمكنونات النفس -حاشا لله- تعقيدٌ وتقييد! وتجد آخر لا يرضى أن يتساوى بينه وبين من هو أقل منه درجةً في الوظيفة، بينما يرتضى أن يترحم على ملحدٍ كما يترحم على المؤمن!
إننا قد نتربى على تقديم أمر الناس على تقديم أمر رب الناس، فنعظم أمرهم ونحن لا نشعر، ونجادل لنرضيَ الأهواء، فالأم قد توقظ أبناءها في السادسة صباحًا للمدرسة ولا توقظهم لصلاة الفجر، وينفق الآباء على مدارس فاخرة ما لا ينفقون نصفه لتعليم أبناءهم القرآن، يُنفقون الغالي والنفيس لينال الابن الدرجات العلا في الدنيا، ولا ينفقون مثله لاستنقاذه من الدركات والنار!
التفوق الدنيوي أمر محبوب لو كان الإيمان والدين يحاوطه؛ فـ "المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف"، ونحن إذا جعلنا الإيمان واتباع منهج الله، وتعظيم أمره هو المركز الذي ينطلق منه الفرد، حمينا الإنسانية من مصائب وكوارث الأهواء؛ فالعالِم الذي تجده يخشى الله لن يصنع سلاحًا يفتك بالبشرية، لأنه يعلم أنه "من قتل نفسًا أو فسادًا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، بل تجده يصنع أمانًا، ويبتكر رحمة للبشرية، وصاحب الثراء الذي يعلم أنه ملاقٍ ربه لن تجده يكنز ثروته وفي بلده فقير يلهث، بل ستجده يجعل الفقير يأكل حتى يشبع، لأنه مستخلَفٌ على أمانة سيُحاسَب عليها، والطبيب الذي يراقب ربه لن يشق على المرضى ليكتسب مزيدَ ثروةٍ وينتهك سَتر ربه، بل ربما خصص للمحتاجين يومًا بلا مقابل، والباحث الذي يطور عقارًا جديدًا وهو يعلم بمراقبة خالقه له، لن تجده يصنع لك وسيلة للموت الرحيم ليخلص أصحاب الأمراض المزمنة من حياتهم بالكلية!
إن تحكُّم الأهواء الذي كان بعضه بسبب تكالبٍ على الدنيا، وآخر بسبب تربية على أنك الأميز، تورث التقاتل بين المرء وأخيه، وأن يقضي القويُّ على الضعيف؛ فإذا وهنت فلا حاجة لبقائك! وتورث أيضًا تفرقةً بين الناس؛ وتجعل الغاية تبرر الوسيلة!
إننا إذا علمنا ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين وابتعادهم عن دينهم، علمنا أن النعيم الدنيوي أن تجد منهج الله مطبقًا، ولنا في قصة عمر بن عبد العزيز المثل الأوفى، فلا محتاج يسهر ليلته مغمومًا، ولا فقير أقض الجوع معدته، ولا سائر يخشى جور معتدٍ، ولا محكوم يخاف ظلم حاكمه.
إننا حين نربي القوى الأمين، ونختار الأقوى الأتقى، ونضع منهج الله ميزانًا نحتكم إليه ستزول عنا كثير ويلاتٍ أرّقت البشرية، فتجد المؤسسة الصغيرة في الأسرة تقوم فيها على الفضل لا العدل، وتجد ميزان القوة لا البطش، بل القدرة والقوة مع ضبط النفس، وتقديم مرضاة الله على مرضاة الهوى.
وكم استوقفتني تلك الآية "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا"، كم ضَبَط القرآن الأهواء! فلا تكون هي المحركة المتحكمة؛ وتجده في سورة المائدة "ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، ولا يحملنكم عداوةُ قومٍ على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة (تفسير الطبري).
هل ترى من مواثيقَ تضمن حق الإنسان مثل تلك الآية! إنك تجد التنكيل بالمخالف -غير المعتدي- لمجرد اختلافٍ دون رحمة، وكم من أهل بلدةٍ انقسمت وذاقت الويلات لتحكيم الأهواء بدلًا من تحكيم شريعة الله؛ تلك آيةٌ واحدةٌ كفيلٌ بتطبيقها أن تزول خلافاتٌ أنهكت نفوسًا كثيرةً لأعوامٍ مديدة.
إننا بحاجةٍ إلى أن نجدد إسلامنا من مجرد إسلامٍ لا نعرف منه سوى الشعائر، إلى إسلامٍ نطبقه ونحكّمه في حياتنا، وبيوتنا، وأعمالنا، وبلادنا.
من إسلامٍ نخاف منه ونخشاه، إلى إسلامٍ نعرف قيمته، وويلات الحياد عن طريقه.
من إسلام نأخذ بعضه ونترك بعضه، إلى منهج ننتهجه.
إن دراسة شيءٍ من صحة دلائل أصول الإسلام، وشيءٍ من غيره من الأديان من مصدرٍ صحيحٍ وبعقلٍ منصفٍ يجعل المسلم يستشعر النعم التي وُلد بها، كما يستشعر طالب الطب المتأمل نعمة العافية من كمِّ الأمراض التي عُوفي منها.
عندما تعرف أنك لا تركع لفأر، ولا صنم، ولا بقرة، ولا واسطة بينك وبين الله فيغفر ذنبك بمجرد أن صدقت في توبتك، وندمت وأتبَعت السيئةَ الحسنةَ، فلا حاجة لك للاعتراف لكاهنٍ تجلس بين يديه وتطلب العفو، فأنت الحر وأنت عبدٌ لله.
عندما تتحرر من قيد الشهوات المحرمة، وتنطلق في التمتع بالحلال دون إفراطٍ ولا تفريطٍ، بل وتؤجر! فأنت الحر وأنت عبدٌ لله.
في كتابه "الصراع من أجل الإيمان" يذكر البروفيسور "جيفري لانج" الذي كان مسيحيًا ثم ملحدًا ثم مسلمًا، أن القرآن كان يقرأه وليس هو الذي كان يقرأ القرآن! وسبب تأليفه للكتاب بعد رحلته العقائدية تلك هو سؤال ابنته "لماذا أنت مسلم يا أبي؟" عندما وجدت اختلافًا بينها وبين زميلاتها.
أبٌ وجد كل القناعة في هذا الدين فكان جوابه كتابًا! وهكذا من يعلم أنه يقف على أرضٍ صلبةٍ لا تؤرِّقه الأسئلة، بل هي فرصته لينشر دلائل صحة يقينه، ويزداد فوق الثبات ثباتًا ويقينًا.
والعبادة بعد أن يكون قلب العبد قد اطمأن أن هذا الدين حق، يكون فيها التسليم وغاية الاطمئنان وغاية التذلل؛ فالذي ركّب في الإنسان أجهزته وعقله الذي يدرك به، وقلبًا ينبض بلا تحكمٍ من العبيد، والذي نظّم فيه مشاعر متنوعة، ونوّع فصول السنة، وأبدع أنواعًا من الأطعمة والأشربة وجعل للِّسان حلماتٍ تتذوق مختلف الأطعمة، ونظّم حركة الأرض ودوران الشمس والقمر، والذي أنبت أزهارًا مختلفةً مبهرةً للناظرين، وجعل منها العطر يفوح للعابرين، وأضاء ليلنا بالنجوم المتفرقة، وعلّم الحيوانات العجماء أمومة أبنائها، والذي نظّم للأسماك رزقها في البحار، والنمل مسيره في الأغوار، وهدى الطير إلى العيش على الأشجار؛ الذي فعل كل ذلك وأكثر مما لا تحصيه الكلمات ولو كان المداد سبع بحارٍ، أحقُّ أن نسجد له بحبٍ وتذلل، ونخضع لأمره مطمئنين، أليس بعد ذلك كله بأحكم الحاكمين!
إن العبادة ليست شعائر جافة ظاهرة تؤدّيها وأنت تستثقلها، بل هي كما ذكرها "د. سامي العامري" في كتابه "لماذا يطلب الله من البشر عبادته؟" أن العبادة هي إعلانٌ للحب؛ فلا يعبد المرء ربه حق العبادة حتى يحبه أولًا، وفيها تجديد للإيمان من الغفلة يوميًا، فليس الإنسان جسدًا بلا روح؛ فكيف بدينٍ يجعل كل سعيٍ حلالٍ فيه ثواب! وإن كان فيه التمتع بالملذات الدنيوية، فالله يرضى للعبد أن يأكل اللقمة فيحمده عليها، ويرضى أن يسعى العبد لكسب حلال يعرف نفسه بها.
في الإسلام تجد حركات الدنيا قد ضُبطت بآدابٍ واعتدالٍ فلا إفراطَ ولا تفريط، تجدك تسعى بجسدٍ على الأرض وبقلبٍ مسافرٍ إلى الله يرجو بحركات جوارحه رضاه، إذا تحرَّر من حبِّ الدنيا والتعلق بها، وانغرس فيه ذكر الخالق والآخرة.