tafrabooks

Share to Social Media

المرض النفسى هو جسر للهروب من بعض الأشياء التي نريد أن ننساها، وربما أيضًا محاولة منع سقوط بعض الذكريات من عقولنا.
أنا "منير زاهر" طبيب نفسى.. تسلّمت عملى فى أحد المستشفيات للأمراض النفسية والعصبية.. المستشفى كان مهجورًا، وتم إعادة فتحه بعد سنوات عديدة من غلقه لأسباب لا أعلمها..
اليوم هو الأول.. أجلس فى غرفتى منتظرًا بداية العمل، فالحالات بالمستشفى ليست كثيرة، وهناك أطباء آخرون يباشرون تلك الحالات..
بدأ الملل يتسرَّب إلى عقلى رويدًا رويدًا.. أمسكت بأحد المراجع الطبية، وبدأت بالقراءة، وبعد دقائق معدودة أغلقت الكتاب، بعدها بدأت بالعبث بأدراج مكتبى.. فأنا أقوم بفتحها وإغلاقها مرة أخرى حتى توقفت أمام أحدهم، حيث وجدته لا يفتح، فقمت بجذبِهِ بقوة؛ لكن يبدو أنه مغلق بالمفتاح.. طلبت مساعدتى.. كنت أعلم أنها كانت تعمل بذلك المستشفى قبل غلقها، وسألتها إن كان ذلك المكتب قديمًا؛ لأن هناك أحدَ الأدراج مغلق.. قالت: إنها تعتقد أنه يعود للطبيب التى كانت تعمل معه؛ ولكن يبدو أنه قد تمّ إعادة طلائه.. طلبت منها أن تحضر مطرقة، أو أن يساعد أي أحد فى فتح ذلك الدرج.. الفضول قد بدأ ينهش عقلى.. بعد دقائق معدودة كانت قد أحضرت المطرقة، فقمت بتحطيم القفل.. وجدته مليئًا بالأوراق، ودفتر ملاحظات الطبيب السابق.. لفتت نظرى أسطر معدودة فى إحدى الصفحات، حيث قال: (النفس البشرية معقدة للغاية، فالمريض النفسى امتلك ما لم يمتلكه بشر غيره.. هو صفوة البشر، فقد امتلك العقل القادر على حفظ كافة الذكريات.. عقل لا ينسى أبدًا، وقلب يعشق بجنون).. كانت تلك هى نتيجة كل تجاربى.
أغلقت دفتر الملاحظات، وأمسكت بباقى الأوراق.. كانت كل ورقة تحمل صورة المريض، وما قاله أثناء الجلسات العلاجية الخاصة به؛ لذا سأقرأ لكم تلك الأوراق دون تدخُّلٍ منِّي، أو محاولة التأكيد بجنون ذلك الشخص، أو أنه يحاول ادِّعاء الجنون.. سأترك القرار لكم، وتذكّروا أنكم ستجدون أشياء ليس لها تفسير، أو غير منطقية، وقد لا تُصَدَّق؛ ولكن لا تعتقدوا أنها مجرد تخاريف؛ لذا دعونا نبدأ!


الورقة الأولى- ما زال روتينى اليومي كالمعتاد لم يتغيَّر، فزوجتى تفتح ستائر النافذة، وتضع بجانبى طعام الإفطار، وتخرج دون أن تتكلم!
أعلم أنها غاضبة، وحزينة ممّا حدث؛ ولكنى لم أقصد ذلك، فمنذ أن تشاجرنا آخر مرة داخل السيارة، وهى لا تتحدث معى، وتكتفى بأن تأتى كل يوم صباحًا، ثم تختفى.. أتمنى أن أحادثها مرة أخرى.. وددتُّ أن تعلم أنها أغلى ما أملك فى حياتى، وأن الحياة بدونها جحيم؛ ولكن فات الأوان الآن، رغم أنه قد مرّ على تلك الحادثه أكثر من عام، وأنا داخل ذلك المستشفى فاقدٌ للحركة؛ بسبب تأثير ذلك الحادث اللعين..
إني أراها حولى فى كل مكان، ولا أزال أنتظر وقت رحيلى، حتى أكون إلى جانبها، فمن الصعب أن تفقد جزءًا منك؛ لكنَّ الأصعبَ أن تكون أنت السبب فى ضياع ذلك الجزء.....

الورقة الثانية - لا أزال أشاهد ذلك الحلم اللعين يوميًّا.. أشعر بأنى أجلس أمام شاشة تلفاز لأشاهد الفيلم نفسه؛ لكنى لم أهتمّ يومًا بتكرار تلك الرؤية، فتركت عقلى الباطن يفعل ما يحلو له، حتى ذلك اليوم.. الأمر كان مختلفًا.. حيث بدأت أشعر بأن ذلك الحلم يتحقق.. ها أنا ممسكٌ بالسكين وهى تقف أمامى تتوسل إلَيّ أن أرحمها.. لا أعلم لماذا يحدث هذا؟
لم أشعر سوى وأنا أطعنها عدة طعنات جزاء ما فعلته معى.. الخيانه شيءٌ صعب؛ لكن الأصعب أن تأتى من أقرب الناس إلى قلبك.. لكنَّ ما يحيّرنى أن عقلى قد رسم لى كلّ ما حدث قبل وقوعه.. أيعقل هذا؟!

الورقة الثالثة - بدأت أتيقن من أن ذلك المكان به أشياء شيطانية، فمنذ أن ورثته عن أبي، وأنا لا أجد من يدخل إليه، رغم أنى أتذكر وأنا صغير أن المكان لم يكن يخلو من الزبائن، فقد اشتُهِرَ المكان بتقديم بعض الأطباق الشهية.. إلى أن أتى ذلك اليوم، فدخل شخص يرتدى ملابس ونظارة سوداء، وكان اليوم ممطرًا وتقريبًا لا يوجد أحد من الزبائن.. جلس إلى الطاولة، ولم ينطق بكلمة.. لم أنْسَ للحظة نظرة أبى عندما رآه.. تغيّرت ملامحه.. وشعرت بأن عمره قد تخطّى المائة! تجمَّد فى مكانه، وأنا أقف بعيدًا، وأرى ذلك المشهد، ولا أعلم ما منعنى من التحرّك.. اقترب ذلك الغريب من أبى وهمس بشيءٍ فى أذنه ليسقط بعدها أبي والدموع محبوسة داخل عينيه! خرج الغريب، وعندها تحرَّرتْ قدماى.. ركضت خلفه؛ لكنه كان قد اختفى! لم يصبح له أثر، ومعه أيضًا اختفى والدى الذى أعرفه.. تمر السنوات وأبى يموت ببطء أمامى، ولا أعلم ماذا يحدث حتى خرج فى يوم، ولم يعد، وورثت أنا ذلك المكان الذى منذ أن دخلته وأنا أرى ذلك الغريب حولى فى كل مكان حتى فى أحلامى.. إلى أن نصحنى البعض بأن أدخل إلى المصحّة النفسية؛ لكن لم يتغير الحال، ظل كما هو وها هو يجلس أمامى وأنا أكتب تلك الكلمات؛ لكن الغريب هذه المرة أنه يبتسم... يبتسم بشدة!

الورقة الرابعة- هى كل ما أملك بالحياة.. إنها ابنتى العزيزة.. عندما تبتسم أشعر بأني قد ملكت الدنيا، وما فيها.. لم أكن أرفض لها طلبًا، فكنت أمتلك عملًا وثروة يجعلانى قادرًا على مواجهة الحياه بقوة؛ ولكن مع الوقت تدهورت الأحوال الاقتصادية، وخسرت الكثير فى تجارتى، وبدلًا من أن تقف زوجتى إلى جانبى اختارت أن تتركنى، وأن تترك السفينة، وأخذت روحى معها، ومنعتها عنى واختفتا فجأة! ولم أعلم أين ذهبتا.. كل يوم يمر وهى بعيدة عن أحضاني.. كنت أشعر بالموت، ولا أجد ما أفعله حيال ذلك الأمر، بدأ اليأس يتسرَّب إلى داخلى، وأدمنت.. نعم؛ ولكن ليس المخدرات، أو الكحول.. إن إدمانى كان من نوع آخر.. عشقت الدماء.. كنت أرى زوجتى أمامى فى كل واحدة قتلتها؛ لكن الغريب أن نار الانتقام لم تهدأ أبدأ.. مرت أعوام وأنا أبحث عنها فى كل مكان.. حتى رأيت تلك الفتاة التي تشبه زوجتى للغاية، وكانت هدفًا سهلًا لقاتل مات قلبه وضميره منذ زمن، أصعب شيءٍ أن تقتل أعزَّ ما تملك دون أن تقصد، وأن تفقد آخر ما يجعلك إنسانًا. نعم كانت ابنتى ورغم أنها لم تخرج من عقلى لم أعرفها بعد كل تلك السنين.. بيدى قتلت ما تبقَّى من روحى.....

الورقة الخامسة- ها أنا أنتظر ذلك الشيطان الذى قابلته منذ سنوات، نعم شيطان؛ ولكن لا يمتلك وجهًا سيِّئًا، أو قبيحًا، بل على العكس تجد أنه أقرب ما يكون إلى الملائكة، أحببته.. نعم، وتمنيت أن أقضي عمرى معه؛ لكن كانت الظروف ضدنا، فهو لم يكن يملك المال الكثير، ووالدى رفض أن أخطب له لحين يتيسر الحال؛ لكن أنا عشقته بالفعل.. أصبحت لا أستطيع أن أستغنى عنه.. قد تقول إنه أصبح إدمانًا.. لا أستغنى عن صوته فى أذنى، أو كلامه وهو يمس لقلبى، وفى ذلك اليوم اتفق معى على أن أساعده ليدخل المنزل ليسرق ما يستطيع، وعندها يتوفر لديه المال، ويصبح غنيًّا، فليس أمام أبي ساعتها سوى الموافقة، وفى تلك الليلة فتحت له بيدى الباب ليدخل، ويسرق ما يستطيع من غرفه مكتب والدى! لكن القدر دائمًا هو الأقوى.. فقد استيقظ كلٌّ من أبي وأمي, ومرت الثوانى أمام عينَيَّ كالساعات، وأنا أراهما يسقطان وسط بركة من الدماء جثتين هامدتين، ولا أستطيع فعل شيء.. أما هو، فقد حمل ما استطاع، ورحل دون حتى أن يلتفت إليّ ويعتذر عمّا فعل!
فقدتُّ أعز وأغلى ما عندى لمجرد أني أحببت شيطانًا.....

الورقة السادسة- الانتظار سيِّئٌ عندما تريد حدوث أمر ما، ويكون قاتلًا حينما لا تعرف ماذا تنتظر، أعيش وحيدًا.. حياتى هادئة، ولكن كل ذلك تغيّر فجاة عندما وصلنى خطاب هو الأغرب بكل ما فيه..
لم أجد سوى ورقة وبها بعض الكلمات التى لا أفهمها، ولا يوجد أي توقيع فقط جملة: ( انتظر دورك، فإنه قد حان)! فى البداية ظننت أنها مزحة؛ لكن ما حدث بعدها أكد لى عكس ذلك.. بدأت أشعر به حولي.. لا تسالني من هو؟ لأنى لا أعرف.. إنه يراقبنى طوال الوقت.. أشعر بأنفاسه إلى جانبي، وصوته يهمس فى أذني، ويردد: "الموت قادم"!
لم أستطع النوم، فكل مرة أحاول النوم فيها أشعر بيديه حول عنقي، وأنا لا أراه.. أصرخ فى كل مرة أشعر به؛ ولكن دون صوت، وأنا أردّد: لماذا تريد قتلى؟ من أنت؟ أسمع ضحكاته فى أذنى..، صدقنى أريد أن أموت، فالبقاء أصبح جحيمًا.. لم أكن أقصد ما فعلت.. كنت فى حاجة للمال من أجل علاج والدتى.. اتفقت مع بعض الأصدقاء، وعددهم ثلاثة من أصدقاء الدراسة على سرقة أحد المنازل.. يعيش به رجل عجوز لا يغادر منزله إلّا قليلًا.. بعد منتصف الليل تجمعنا أمام باب المنزل.. الغريب أنه كان مفتوحًا، ولم نجدْ صعوبة فى اقتحامه، كأنه كان يترقّب وصولنا، الظلام كان يغطي كل شىءٍ حولنا، ورغم كلِّ ذلك كنت أشعر بأن هناك أحدًا آخر معنا، بحثنا طويلًا عن أيِّ شيءٍ يستحق السرقة؛ ولكن لم نجد.. حتى وجدنا باب تلك الغرفة يُفْتَحُ من تلقاء نفسه.. ظننا جميعًا أن أصحاب المنزل قد استيقظوا؛ لكن لم يخرج أحدٌ.. تقدّم أحدنا إلى الإمام داخل الغرفة.. أتذكر تلك الصرخة المرعبة.. انتفض جسدى أنا، ومن كنت أظن أنهم إلى جانبي وجدت نفسي وحيدًا، وهناك مَنْ يهمس فى أذني: أهلًا بك فى الجحيم!
ومنذ تلك الحادثة، هو لم يغادر رأسي أبدًا حتى أنه يهمس الآن بجملة واحدة الموت إلى جانبك......

الورقة السابعة- ليلة اكتمال القمر، قد لا يكون ذلك ذا معنى لديك، ولكن لشخص يعيش بصحراء ينتظر ضوء القمر ليؤنس وحدته. أثناء خدمتك فى التجنيد قد تقوم بحراسة آلاف الأمتار حولك وحدك، ولا يكون هناك أحدٌ معك سواه.. لم يصدقونى عندما أخبرتهم بأن هناك شيئًا غير طبيعى، وقرروا وضع جندي آخر مكاني.
ولكنَّ ذلك الشيء أخبرنى بأنه لا يظهر لأحد غيرى؛ ولذلك اتهمونى بالجنون! وها أنا أمامك لك الحق في أن تتساءل ما ذلك الشيء؟ الحقيقة لا أعرف؛ ولكن هو أشدّ سوادًا من الليل، وأعظم حرارة من الشمس يسكن العقول التى لا تتوقف عن التفكير.
نعم، فالتفكير سجن أبديٌّ لا يعرف أحدٌ الخروج منه إلّا إذا أصبح بلا عقل، وهو مَنْ يقوم بحراسة ذلك السجن.. كلّ ما أعرفه أنه إذا حضر لن يغادر أبدًا....
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.