الزيارة الثانية
حفيف أوراق الشجر يعلو، وهواء الليل المظلم يتبجح معه أكثر، فتعلو استغاثته بالبقاء أكثر، ما حفيف ورقة الشجر سوى صراع مع البقاء. هي تظل متماسكة، متشبثة في غصنها الضعيف أمام غشوم الهواء الشديد والرياح الظالمة، فالأخير لا يريد لها البقاء في شجرتها، بل التيه معه، لا تملك اختيارًا بـ أن تبقى في فرعها متشبثة به، أو ترحل مودعة إياه لتهوى فى الضياع، فالريحُ لن تتركها تسقط أرضًا وتعود إلى ما كانت عليه لتصبح ورقة جديدة بل عليه أن يعذبها معه في الشتات، ويستمتع بحفيفها ونحن أيضًا نستمتع به.. وما حفيفها سوى العذاب.
أفتح عيني رويدًا رويدًا.. الغرفة مظلمة لا يهتك ظلمتها سوى ضوء كشَافات الطريق، ألمح ظِلًا أمام النافذة، بل هو شخص واقف، يكاد يتمزق قلبي من الخوف، وكلما حاولت الصراخ، أَتَقَيَّأُ صمتًا.
- عدت مرة أخرى.
- ألم أخبرك بأنى سأعود.
- أنت جنيَ أم عفريت أم شيطان؟
- لماذا لم تقولي إنسان، فالأخير أبشع من الجن والشيطان؟
- لا يوجد إنسان بهذا القبح.
- بل هو القبح ذاته!.
يترنح من أمام النافذة قليلًا، يتضح رؤيته أكثر، بابتسامة على وجهه، وبصوت يشبه أداء المسرحيات.
- أنا الألم، يا سيدتي.
بغضب في صوتي.. "لا يوجد كائن اسمه الألم".
- بلى.. وها هو شخص أمامك يحدثك.
- ماذا تريد مني؟
- جئت لك نتسامر سويًّا.
- ماذا؟
- أنت وحيدة، لا يجالسك أحد، شعرتُ أنك باحتياج لي...
قلت بغضب: "لا أحب أن أجالس أحد، أُفضل البقاء بمفردي.."
بصوت عالي: أنا أيضًا، لذلك جئت لك.. هيا أخبريني قليلًا عن زائريك من الآلام غيري، هل هم مثلي أم أقبح؟
- "لم يسبقك أحد، أنت أول زائر لي".
"ضحك بسخرية وقال: "تكذبين علىَ وتظنين أنني لا أعرف عن أمرك شيئًا، أخبريني من زارك قبلي.
- "ولما يخبروك عني؟"
- "لأننا نعمل كفريق، لن آتي إليك إلا بعلم من سبقني لك.
- "أعرف من زارك قبلي من الألم. بغمزة من عيناه قال: "ألم الحب أليس كذلك؟".
نظرت له فى تعجب وبصوت خافض قائله: "ما هو ألم الحب؟"
- " هو ذاك الألم الذى يعتصر كل ما بداخلك، يمحو أفراحك ويبدلها بحزن عميق يمتص به جذورك، يسحقك أسفل منه وتصيري جسدًا فارغًا... "
دبدب الجنيّ بقدميه أرضًا كالأطفال.
- " هيا هيا كفى كلامًا، أخبريني أنتِ، ودعينا نتسامر طوال الليل. "
أطرقت بوجهي أرضًا.. ثم عرجت مني تنهيدة قوية كادت أن تقلع قلبي من جوفي.
- " يومًا ما فتحت قلبي لمن أحببت، فكسر أضلعي وهرب منه. "
وصمت كل منا إلى أن اختفى فجأة.
اليوم الثاني
أستيقظ من النوم، وأنا أشعر بأني مرهقة، منهكة، وكأني كنت في سباق شاق طوال النوم، لا أعلم سبب هذا الشعور.. سوى وجوده فقط.
أتطلع إلى هاتفي، أتفحصه، لم أجد اتصال من أمي أو إخوتي.. وكأنهم يتجاهلونني لكي يمحوا وجودي، وأن أصبح ظلًا شاحبًا في حياتهم، لا يتسم بالوجود ولا ينتمي للعدم بعد...
أثناء تفحصي لحسابي على "فيسبوك"، وجدت صورة طفل حديث الولادة على حساب أختى. علمت أنها قد أنهت مخاضها على خير، ثم قرأت تعليق الأصدقاء والأقارب لها وردودها المنمقة عليهم.
أحسست بالضيق والغضب المكتوم، لم أخطر ببالها أو حتى مر طيفي أمامها، أنا أختها الصغرى، ألا تذكر شيئاَ أو ذكرى بيننا.
كان فيما بيننا الكثير من الحكايات التى نرويها لبعض منذ الصغر، رغم أنى الأصغر سناَ، لكني كنت أشعر أنني الأكبر.. لكنك الآن نسيتني أو تناسيتني.. أفهم أن لا أحد يود أن يسقط معي فى بئر الحزن والكآبة...
تطرق نرجس الباب ثم تدخل دون اذن لها، يبدو أن كل شيء أصبح مباح، أفكاري وخصوصيتي، لا تغرى أحدًا لاحترامها.
- "لن نقدم الفطور اليوم، ذلك ممنوع قبل الجلسة".
باغتها على الفور دون اهتمام.
- "متى ميعاد الجلسة؟ "
- "بعد قليل".
وضعت أمامي كيس مغلف أبيض، طالبه منى أن أرتديه قبل الجلسة.
انصرفت نرجس وأنا أنظر لهذا الكيس المغلف، ولا أعلم لما تذكرت وقت اكتشاف المرض.
بدأ المرض بظهور كتله تحت إبطي، يبدو أنني تأخرت فى ملاحظتها، ثم ظهرت الكتلة "ميلانوما"
خطيرة وخبيثة، شكل مميت من سرطان الجلد.. قال الأطباء إن حالتي لا تبدو جيدة، لكن عليهم إجراء المزيد من الاختبارات قبل إبلاغي بالتشخيص، لكنهم عادوا إليّ بأخبار فى ظنهم أنها جيدة.
أخبروني بأنه يمكن علاج مرضي بجلسات الكيماوي قبل انتشاره، رغم محاولاتهم بأن أتفاءل لكن لم أشعر بذلك.
مع الوقت تحول حزني إلى صمت يسحبني نحوه بشدة، يجعلني أغوص فيه وأتعمق، أصبح صمتي وحدة شاسعة كالمحيطات وكالفضاء لا نهاية له. ساهمت أمي وإخوتي فى تحويل صمتي إلى هذا الفضاء الشاسع من الوحدة عندما ألقوا بي في هذا المشفى، حينها أدركت أن صمتي ووحدتي ما تبقى لي.
استلقيت على الترولي وبدأت نرجس تدفعني نحو غرفة الحقن، قلبي يخفق بشدة وتسري في أطرافي رعشة أكاد أخفيها حتى لا يلاحظها أحد، كنت خائفة، وأحاول ألا أظهر ضعفي وخوفي، كنت أظن أنني قوية أملك انفعالاتي وخوفي، لكن عندما مددت على السرير ورأيت الجميع حولي يتأهبون للحقنة الأولى لي علا الخوف بي أكثر..
احتقن صوتي وبدأت عيناي تدمع حينما كشفوا عن ساعدي، وغرزوا الحقنة بها، رأيت هذا السائل الأحمر الشبيه بالدم، يسري في عروقي مخلفًا أثرًا مميت في مجراه.
زادت الدموع في مقلتاي، سرعان ما أدركت أن يجب أن أخفى هذه الدموع سريعًا، فتمتمت في سري.
عجبت منك ومني... يا منية المتمني.
أدنيتني منك حتى... ظننت أنك أني.
وغبت في الوجد حتى... أفنيتني بك عني.
يا نعمتي في حياتي... وراحتي بعد دفني.
مالي بغيرك أنس... إذ كنت خوفي وأمني.
أن تمنيت شيئـــــًا... فــــــأنت كل التمني.
كان الحلاج، ولا أدري لما الحلاج، ألم أكتفي منه بعد، ألا يجب عليّ أن أتمتم بالقرآن... لكن لم أفعل ووجدت لساني ينطق بهذه الكلمات في صمت...