الدعوة في مكة (عشر سنوات من الكفاح)
القرآن يتنزَّل في ليلة القدر (عام 611م):
ها هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يصدع بكلمة الحق داخل مجتمع عاش على الوثنية، وعبادةِ أصنامٍ لا تضرُّ، ولا تنفع.. ولم يكن هذا الصَّدْع بالحقِّ إلَّا امتثالًا لأمر الله -عز وجل.
فها هي السيدة عائشة تحكي:
(كانَ أوَّلَ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلَاءُ، فَكانَ يَلْحَقُ بغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فيه - قالَ: والتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلى أهْلِهِ ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ بمِثْلِهَا حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ، وهو في غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ المَلَكُ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما أنَا بقَارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي، فَقال: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي، فَقالَ: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِن عَلَقٍ(2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ(3) الذي عَلَّمَ بالقَلَمِ(4)) - الآيَاتِ إلى قَوْلِهِ - )عَلَّمَ الإنْسَانَ ما لَمْ يَعْلَمْ(العلق: 5 ، فَرَجَعَ بهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ، حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، قالَ لِخَدِيجَةَ: أيْ خَدِيجَةُ، ما لي لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فأخْبَرَهَا الخَبَرَ، قالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، أبْشِرْ فَوَاللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبَدًا، فَوَاللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ، وهو ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أخِي أبِيهَا، وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، ويَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعَرَبِيَّةِ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فَقالَتْ خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، قالَ ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا، ذَكَرَ حَرْفًا، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قالَ ورَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بما جِئْتَ به إلَّا أُوذِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً، حتَّى حَزِنَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.) ( ).
ولم يتوانَ النبي صلى الله عليه وسلم عن تبليغ دعوة الله للعالمين، فبدأ بعشيرته الأقربين؛ امتثالًا لأمر الحقّ تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}الشعراء:214
- فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هذِهِ الآيَةُ: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشاً. فَاجْتَمَعُوا. فَعَمَّ وَخَصَّ. فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيَ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ. فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلاَلِهَا".( )
- وفي رواية: " يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً. يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئاً. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ. لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً".
- وفي رواية أنه قال: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ"؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ أما جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهذَا؟ ثُمَّ قَامَ: فَنَزَلَتْ هذِهِ السُّورَةُ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.( )
حرب قريش للدعوة الناشئة
ولكن، ما موقف قريش من هذه الدعوة؟
- لقد حاربتها في مهدها، وطاردت أتباعها واحدًا، فواحدًا..
تلك الدعوة التي جاءت لهداية الأحمر والأبيض والأسود والأصفر.. لم تستثنِ أحدًا، ولم يكن هناك بيت في قريش إلَّا دخلته، ممَّا أوغر صدور السادة، فأحسوا بمكانتهم تتهاوى.. تلك التي هدّدها النبي "محمد بن عبد الله"- صلى الله عليه وسلم-..
- نعم، لقد خاطبت تلك الدعوة أبا بكر الصديق، وعثمان بن عفان اللَّذَيْنِ يمثّلان رأس المال، كما خاطبت العبيد ممثلين في بلال بن رباح، وصهيبَ الرومي.
- خاطبت الصبيان كعلي بن أبي طالب الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، والمرأة ممثلة في خديجة بنت خويلد..
نعم، لقد دخلت تلك الدعوة القلوب. وقبلتها العقول مستشرفة عهدًا جديدًا يطلّ به الإسلام على العالم.. ماحيًا ظلام الشرك والوثنية، آتيًا بالحرية والعدل والمساواة.. وقبل أن تنادي بتلك المبادئ الثورة الفرنسية بألف سنة..
التعذيب الممنهج:
- لم يقبل السادة في قريش أن يكون واحدٌ كمحمد- النبي- داعيًا للمساواة بين الحرّ والعبد.. الغنيّ والفقير.. المرأة والرجل.. فهالهم ما يدعو إليه، وناصبوه العداء.
- قيلت للنبي هذه الجملة المؤلمة المستنكرة حينما صدع بأمر الدعوة من فوق جبل أبي قُبيْس: " تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا"... لقد استكثر أبو لهب أن يكون ابن أخيه "محمد بن عبد الله" حاملًا لهذا الشرف، وطمع في منزلته التي كانت تكبر يومًا بعد يوم..
وبدأ التعذيب الممنهج للنبي والأتباع معًا، ونال النبي من الأذى ما نال معظم الأنبياء قبله من العنت، والظلم، والعسف والقهر، والاستخفاف. فقد بلغ الأمر بـ"خبّاب بن الأرتّ" أن واجه النبي بأمر ذلك العذاب.. فقال خباب- رضي الله عنه-: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّدٌ بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم، أو عَصَب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمرحتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" ( )
وعن عروة بن الزبير قال: كان بلال لجارية من بني جُمَح، وكانوا يعذبونه برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء( )؛ لكي يشرك فيقول: أحدٌ أحدٌ، فيمر به ورقة وهو على تلك الحال فيقول أحدٌ أحدٌ يا بلال، والله لئن قتلتموه لاتخذناه حنانًا. ( )
وها هو "عمار بن ياسر".. الذي ضرب أروع الأمثلة هو ووالداه في الصبر على أذى قريش، فعن محمد بن سيرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عمار بن ياسر وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع عنه، ويقول: أخذك المشركون، فغطّوك في الماء حتى قلت لهم كذا- إن عادوا فعد. ( ). لذلك نزل فيه قرآن يتلى إلى يوم القيامة، حيث يقول المولى سبحانه:
{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}[النحل:106]
فكان النبي يمرّ عليهم – هو وأبوه وأمه- فيرى حالهم، ويدمع قلبه قبل أن تبكي عيناه، فيبشرهم قائلًا: " صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"..
هذا، ولم يكتفِ المشركون بما فعلوه مع عمار، وأبيه. لكنَّ أحدهم طعن أمه سمية بنت خياط، فماتت.. وكانت أول شهيدة في الإسلام..
ولو شئنا لعدّدنا ما عاناه كل صحابي من صحابة رسول الله وما ناله من الأذى. نعم، لقد تحملوا- رضي الله عنهم - مرارة التعذيب حسبة لله، وتمسكًا بعرى الإسلام والإيمان..
فعن عبد الله بن عمر قال: خرجت يومًا، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، فدنوت منه، ودنا مني حتى وضع يده على عاتقي، وقال: يابن عمر، لا يغرنك ما سبق لأبيك من قبلي، فإن العبد لو جاء يوم القيامة بالحسنات كأمثال الجبال الرواسي، ظن أنه لا ينجو من أحوال ذلك اليوم، يابن عمر دينك إنما هو لحمك ودمك، وانظر عمّن تأخذ.. خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا". ( )
الأمر بالهجرة
أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة لما وجد أن قريشًا تناصبه العداء، ولا يريد أهلها الإنصات، ولا فتح القلوب لهذا النور الذي يحمله النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليهم.. هذا النور المبين الذي وصفه الله عز وجل.. وجد آذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، وأعينًا عميًا، ولم يكن أمام النبي الكريم سوى البحث عن أرض جديدة تستقبل هذا الهَدْيَ الرّبَّانِيَّ بالابتهاج والترحيب..
وكان النبي قبلها قد ذهب إلى الطائف، فوجد الصدّ نفسه والعنجهية والكبر من أهل الطائف المتكبرين الذين أغروا به أطفالهم، فعن عائشة أم المؤمنين: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحُد؟ قال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال، إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمر بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا مَلَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. ( ).
ولكن لما لم يعد في قوس الصبر مَنْزع، ولما استولت قريش بالقوة القاهرة على بيوت المسلمين.. ونهبت أموالهم، لم يكن أمام النبي وأصحابه الكرام إلّا الهجرة.. فأمر الأصحاب بالهجرة الأولى.. فهل تسكت قريش؟.. لا، فقد بعثت خلف المهاجرين في الحبشة من يحاول إرجاعهم، وكان من بين هؤلاء المبعوثين" عمرو بن العاص" الذي أوتي بيانًا وحجّة وحيلة، ولكن الله نصر المهاجرين الأوائل، ورفض " أصحمة النجاشي" ملك الحبشة أن يسلمهم لهؤلاء السفراء الأشرار.
وجاءت الهجرة الثانية، فتقاطر المسلمون على طيبة.. أرض النور.. تلك الأرض المباركة التي ستشهد انطلاق دعوة الإسلام إلى العالم.. تلك الدار التي سيرسل -انطلاقًا منها- رسول الله رسائله إلى ملوك الأرض.. لتبليع دعوة الله للعالمين..
خطوات عملية في تدعيم أصول الدولة الناشئة
وكان من أهم هذه الخطوات:
1- بناء المسجد:
تمت الهجرة.. وكان بناء المسجد.. أول بناء في المدينة تعلوه راية التوحيد. وصدع بلال بأذان أسمع به الدنيا.. فعرف العالم أن هناك امة قد ولدت في قلب الصحراء.. إنها الأمة المسلمة..
ووضع النبي الكريم اسس مجتمع قائم على العدل والمساواة والتوحيد.. لبناته ودستوره "لا إله إلا الله محمد رسول الله"..
2- المؤاخاة:
ثم كانت المؤاخاة في الإسلام بين المهاجرين والانصار، وإنهاء الحرب بين أكبر قبيلتين في يثرب.. الأوس والخزرج..
3- الدستور الإسلامي:
ثم أتت الخطوة الثالثة وهي الانتقال إلى نقطة جوهرية تؤسِّس لعلاقة منفتحة مع الآخر.. فتحفظ الحقوق، وترعى أصحاب الأديان المخالفة، فكانت (صحيفة المدينة).. أول إعلان دستوري إسلامي في التاريخ يوقعه النبي محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- مع يهود يثرب.. تلك المدينة التي تحول اسمها إلى "المدينة المنورة".
موقف قريش من دولة المدينة الناشئة:
- سنتان استغرقهما التأسيس، وبدأت قريش في "مرحلة الغيرة السياسية"! فكيف للفقراء المطاردين الذين استولت قريش على بيوتهم، وأموالهم أن تكون لهم دولة وجيش وحاكم" هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم"؟ لم يعد المسلمون هم تلك الشرذمة القليلة التي استهانت بها قريش في بادئ الأمر.. وإنما صاروا مواطنين يحكمهم دستور، وبدؤوا في إجراءات من شأنها تهديد مكانة قريش التي حققتها بين العرب عبر مئات السنين..
قد قلنا- سلفًا- إن قريش قد اعتدت على المسلمين وهم مستضعفون في مكة، فاستولت على أملاكهم، ونهبت أموالهم.. فحزّ ذلك في نفوس المؤمنين، الذين امتثلوا لأمر الرسول بالهجرة، لكن قلوبهم كانت تدمي حزنًا وكمدًا على حقوقهم ودورهم، وضياعهم..
لقد ترك بعضهم أبناءهم ونساءهم، فكانوا أسرى لدى قريش.. وها هو "صهيب بن سنان الرومي" خير شاهد على ما نقول..
- فعنه رضي الله عنه أنه قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: ياصهيب، قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم كالي تخلونعني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك رسول النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: ربح صهيب، ربح صهيب. مرتين..( )
لماذا اتجه الإسلام إلى الحرب؟
تمهيد:
قبل أن ندخل في تفاصيل المعارك التي خاضها المسلمون.. ينبغي علينا أوّلًا أن نجيب عن السؤال: لماذا لجأ الإسلام إلى الحرب؟ كما أننا سنفند للفرية القديمة الجديدة التي يطلقها ناعقو البوم من آن لآخر.. ألا وهي: انتشار الإسلام بالسيف!
إذا أردنا الإجابة عن السؤال المطروح، فإننا سنقول: إن الإسلام قد أجاز الحرب في حالتين اثنتين فقط..
* حالة الدفاع عن النفس.
*الدفاع عن الدين والعقيدة.
فقد قال الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز(40)}[الحج]
وما من شك في أن الحرب في الإسلام هي حرب دفاعية، وعلى الرغم من أن الإسلام قد أباح القتال، فإنه ينبغي على المسلمين الذين أجبروا على هذا الأمر أن يردوا الاعتداء بالقدر اللازم دون مجاوزة أو تنكيل.. فقد قال تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} [البقرة:194]
كما حرم الإسلام الاعتداء بأية صورة من الصور، واعتبر العدوان على الغير غير مشروع، ومجاوزة للحدود التي حدّها.. ضمن آيات القرآن الكريم.. وليس أدل على ذلك من قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190].
مما سبق يتضح ان الإسلام قد ارتقى بفكرة الحرب، وسما بأسبابها، ولكن كيف كان هذا الارتقاء؟ وما أهم دلائل هذا السموّ؟
سوف نجمل الإجابة في النقاط التالية:
1- إن الحرب في الإسلام تقوم على دفع الظلم، والبغي والاضطهاد، ورد العدوان والدفاع عن النفس.
2- اشترط الإسلام ضرورة إعلان الحرب قبل البدء في أي قتال؛ حتى لا تكون الحرب حصيلة للخداع والخيانة من جانب المسلمين.
3- الكف عن القتال إذا كف الأعداء عنه، "فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ" البقرة/ 193
4- الاستجابة إلى السلم إن لاحت بارقة أمل فيه: " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ" الأنفال/ 61
5- قصر الإسلام الحرب على الجيش المقاتل، فلا يجوز التعرض للنساء، والأطفال والشيوخ، والرهبان.. فقد روي عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا" ( )
6- حرَّم الإسلام التمثيل بالقتلى والإحراق بالنار؛ لأن هناك نهيًا نبويًّا عن ذلك، حيث ورد عن حمزة الأسلمي أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أمّره على سرية وقال: إن وجدتم فلانًا، فاحرقوه بالنار، فولّيت، فناداني، فرجعت إليه، فقال: إن وجدتم فلانًا، فاقتلوه، ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلّا رب النار". ( )
7- حرم الإسلام إتلاف الأموال، والتخريب في بلاد العدو، وتجويع العدو، والإحسان إلى الأسير، حيث قال القرآن: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" الإنسان/88
8- مراعاة الناحية الإنسانية، وتأكيد الرحمة في القتال، والوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة. فقد قال الله عز وجل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون(91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون(92)} [النحل]
9- عدم التفاخر بالنصر، أو التظاهر بالقوة:" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ" الأنفال /47
10- قرر الإسلام أن الغنائم ليست هدفًا في حد ذاتها، وليست هدفًا يحرص عليه المسلمون، فقد جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: " يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرضًا من الدنيا، فأجابه النبي- لا أجر له"( ). لأن النية لم تكن إعلاء لكلمة الله.
ولنأتِ الآن إلى المقولة الكاذبة.. هل انتشر الإسلام بالسيف؟
- الإجابة بالقطع لا. ولنتتبع ما فعله الرومان بأهل مصر.. إنهم لم يرحموهم، وخاضوا في دمائهم، وولغوا فيها!
- كما أن المغول عندما استولوا على بغداد، قتلوا من المسلمين الآلاف، حتى أن المؤرخين يؤكدون أن خيولهم كانت تمشي على الجثث في دجلة والفرات!
- ثم إن الصليبيين لم يرحموا المسلمين في بيت المقدس، ونشروا القتل والرعب بينهم.
- كما أن الملكة "إيزابيلّا" ملكة أسبانيا نصبت محاكم التفتيش للمسلمين واليهود على السواء. وبقرالأسبان بطون الحوامل، واغتُصِبَتِ النساء جهارًا نهارًا، وعلى رؤوس الأشهاد، والمتاحف في أوربا بها آلات التعذيب التي لا تزال الدماء عليها حتى يومنا هذا..
- في الوقت الذي شهدت فيه الأندلس" أسبانيا" أعظم حضارة صنعها المسلمون شهد لها العالم كله.. وكان أمراء وملوك أوربا يبعثون أبناءهم ليتعلموا في جامعة قرطبة( )..
- أما عن الجزية، فتلك قصة أخرى، فلقد تعامى هؤلاء المستشرقون عن الضرائب التي قصمت ظهور العباد، حتى أجبرت البربر مثلًا في الشمال الأفريقي على بيع أبنائهم في الأسواق وفاءً للديون، والضرائب التي فرضها الرومان!
نعم، تعامى المستشرقون عن قوانين الجباية التي فرضها اليونانيون والرومان والفرس على البلاد التي احتلوها.. أم أن هذه نقرة، وتلك أخرى؟!
ثم إن للجزية نظامًا شرعه الإسلام لأهل البلاد المفتوحة التي لا يريد أبناؤها الاشتراك في الحرب. ( ).
إن المستشرقين" الآثمين" أرادوا هدم الإسلام، فلم يفلحوا، فاستداروا من الناحية الأخرى ليلقوا عليه التّهم... وهيهات أن ينهدم بنيان الإسلام؛ لأن الذي تكفل بحفظه هو الله رب العالمين..
من الدستور القرآني الخالد
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}[الحج 39- 41]
1- غزوة بدر الكبرى
أما سبب تسمية هذه الغزوة ببدر،- فيعود إلى أن الكثير من الغزوات والحروب سمِّيتْ بأسماء الأمكنة والبقاع التي دارت عليها المعارك والحروب، ومن هذه الغزوات "غزوة بدر" التي سميت باسم مكان المعركة إذ أن المعركة وقعت على أرض بدر ، و بدر اسم لوادٍ يقع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو أحد أسواق العرب وأحد مراكز تجمعهم للتبادل التجاري و المفاخرة، وكان العرب يقصدونه كل عام .
عدد المشاركين في هذه الغزوة:
أما عدد المشاركين في هذه الغزوة من المسلمين و المشركين، فيقدرون بـ ( 1313 ) مقاتلًا، ( 1000) منهم من المشركين، و( 313 ) منهم من المسلمين، أما المسلمون، فكان ( 82 ) منهم من المهاجرين، و( 230 ) من الأنصار، و أما الأنصار، فكان (170 ) من قبيلة الخزرج، و(61 ) من قبيلة الأوس .
أحداث الغزوة
نزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، ثمّ تغيّر الوضع من كفٍّ وإعراضٍ عن المشركين إلى السماح بقتالهم؛ فبدأ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالإعداد التربوي، والنفسي لأصحابه بأنّ قتالهم لا يكون إلّا في سبيل الله -عزّ وجلّ-؛ لتظلّ روح الجهاد عالية، ورأى أنّ مهاجمة قوافل قريش المُتّجِهة إلى الشام هو الحلّ الأنسب للقوّة الإسلاميّة من حيث العدد والعُدّة، وضمان الرجوع السريع إلى المدينة؛ نظرًا لأنّ هذه القوافل تَمُرّ بالقُرب منها.
المشاورة وتنظيم الجيش الإسلامي:
سمع رسول الله باقتراب قافلة قريش العائدة من الشام، ويرأسها أبو سفيان، فقرّر مهاجمتها؛ إذ إنّ هذه القافلة كانت مُحمَّلة بأموالٍ لقريش، وخرج مع ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا، وكان معهم من البعير والخيل سبعون بعيرًا، وفَرَسان؛ فالأوّل للزبير، والثاني للمقداد بن الأسود، آخذين بعين الاعتبار أنّ ذلك سيكون ضربة لاقتصاد قريش؛ حيث لم يكن يحمي القافلة سوى أربعون رجلاً، أو نحو ذلك، وقد عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا للشورى مع صحابته الكرام ليستشيرهم بالخروج لاعتراض عير أبي سفيان، فقام أبو بكر -رضي الله عنه- موافقًا ومؤيّدًا ذلك، وقام بعده عمر بن الخطاب، والمقداد بن عمرو -رضي الله عنهم- مؤكّدين على الموافقة، حتى قال المقداد بن عمرو كلامًا رائعًا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللهُ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ".
ولا زال النبي يستشيرهم حتى قام سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وقال كلامًا بليغًا، ومن كلامه المشهور: "لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ ... فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ... فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ"، وعندئذٍ قام -صلى الله عليه وسلم- مبشّرًا أصحابه، ورافعًا لعزائمهم، ولِكونه -صلّى الله عليه وسلّم- القائد الأعلى للجيش الإسلامي، اهتمّ بالاستعداد للمواجهة؛ وذلك بتنظيم الجيش، وإرسال العيون؛ لاستطلاع الأخبار، ثمّ توزيع المَهامّ على أصحابه على النحو الآتي: استخلف ابنَ أم مكتوم على المدينة، وعلى الصلاة بداية، ثمّ أعاد أبا لبابة بن المنذر إلى المدينة، واستخلفه عليها عندما وصل إلى الروحاء. وعَيّن مصعبَ بن عُمير قائداً للواء المسلمين، وكانت راية اللواء بيضاء اللون. ثم قسّم جيشَه إلى كتيبتَين: مهاجرين، وأنصار، وكلّف عليًّا ابن أبي طالب بحمل علم المهاجرين، وسعدًا بن معاذ بحمل علم الأنصار. وعَيّن الزبيرَ بن العوّام قائدًا لميمنة الجيش، والمقدادَ قائدًا لميسرته.
تحرُّك الجيش الإسلاميّ
بدأ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالمسير مع جيشه على الطريق الرئيسيّ المُؤدّي إلى مكّة المُكرّمة، ثمّ انحرف إلى اليمين باتِّجاه منطقة النازية؛ قاصدًا مياه بدر، وقبل وصوله إليها، في منطقة الصفراء بَعث بسبس بن عمرو الجهنيّ، وعديّ بن أبي الزغباء الجهنيّ إلى بدر يتحسّسان أخبار القافلة، ووصلت الأخبار إلى أبي سفيان بأنّ رسول الله خرج مع أصحابه؛ للإيقاع بالقافلة، فبعث ضمضم بن عمرو إلى مكة يستصرخ أهلها؛ لحماية القافلة، إلّا أنّ أبا سفيان لم ينتظر وصول المَدد من أهل مكة، بل بذل أقصى ما لديه من دهاء وحنكة؛ للهروب من جيش الرسول -عليه السلام-؛ فعندما اقتربت قافلته من بدر سَبَقها، ولَقِيَ مجدي بن عمر وعَلِم منه بمرور راكبين بالقُرب من بدر، فسارع أبو سفيان بأخذ بعض فضلات بعيرَيهما، ووجد فيها نوى التمر، فعَلِم أنّ جيش النبيّ قريب من بدر؛ لأنّه علف أهل المدينة، ممّا جعله يسارع إلى القافلة مُغيِّرًا اتّجاهها تاركًا بدرًا يساره، فنجت القافلة.
استعداد المشركين للغزوة
سمع أهل مكّة بما جاء به رسول أبي سفيان ضمضم، وسرعان ما تجهّزوا، وخرجوا إليه فيما يُقارب الأَلْف مقاتل، منهم ستمئة يلبسون الدروع، أمّا البعير والخيل، فكان معهم منها سبعمئة بعير، ومئة فرس، بالإضافة إلى القِيان معهم يُغنِّين بذَمّ المسلمين! وعلى الرغم من أنّ أبا سفيان أرسل إليهم خبر نجاة القافلة، وأخبرهم بالرجوع، إلّا أنّ أبا جهل رفض الرجوع، وعزم على المسير بالجيش إلى أن يصل بدرًا، فيقيمون هناك ثلاثة أيام يأكلون، ويشربون، ويُغنّون؛ حتى تسمع بهم قبائل العرب جميعها؛ بهدف فرض السيطرة والهَيبة لقريش، وتدعيم مكانتها.
التطوُّر المُفاجئ في الأحداث
عَلم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بخبر تغيير القافلة مسارَها، وأنّ جيش مكّة خرج وواصل مسيره بالرغم من نجاة قافلتهم، ورأى أنّ الرجوع يَدعم المكانة العسكريّة لقريش في المنطقة، ويُضعِف كلمة المسلمين، وليس هناك ما يَمنع المشركين من مواصلة مسيرهم إلى المدينة، وغَزو المسلمين فيها، فسارع إلى عقد مجلس عسكريٍّ طارئٍ مع أصحابه، وبيّن لهم خطورة المَوقف؛ إذ إنّهم مُقدِمون على أمر لم يستعدّوا له كامل الاستعداد؛ حيث كانوا قد خرجوا لأمر بسيط، ولكنّهم وُضِعوا في موقفٍ صعب، فلم يكن من المسلمين؛ مهاجرين، وأنصار إلّا أن وقفوا وقفة رجل واحد إلى جانب رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فقال لهم مُبَشّرًا: (سيروا على بركةِ اللهِ وأبشروا، فإنَّ اللهَ قد وعدني إحدَى الطَّائفتين، واللهِ لكأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القومِ).
خُطّة المسلمين في الغزوة
أراد رسول الله أن يصل أوّلًا إلى مياه بدر؛ ليمنعَ المشركين من الاستيلاء عليها، وبعد أن اقترب من أدنى ماء من بدر، نزل بها، وكان قد علم الحباب بن المنذر من رسول الله أنّ المَنزل الذي نزله الجيش هو من باب الحرب، وليس أمرًا من الله لا يُمكن تجاوزه، فأشار عليه بخُطّة مُحكَمة مَفادها أن ينزل الجيش بأدنى ماء من المشركين، ويُبنى عليه حوض يُملَأ بالماء ليشرب المسلمون منه دون المشركين، فأخذ رسول الله بمشورته، ونزل الجيش الإسلاميّ المَنزل الذي أشار إليه الحباب بن المنذر، وتَحسُّبًا للطوارئ اقترح سعد بن معاذ بناءَ مَقرٍّ للقيادة؛ بهدف الحفاظ على حياة الرسول برجوعه إلى أصحابه في المدينة فيما لو هُزِم المسلمون، ونال اقتراحه التأييد والثناء من رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فتَمّ بناؤه على تَلٍّ مُرتفع يُطِلّ على ساحة المعركة، وتَكفّل سعد بن معاذ مع شباب من الأنصار بحمايته.
نزول المطر
بات المسلمون ليلتهم وقد امتلأت قلوبهم بالثقة، والاستبشار بعطاء الله، وكان رسول الله مُتفَقِّدًا لأصحابه، ومُنظِّمًا لصفوفهم، ومُذكِّرًا لهم بالله، واليوم الآخر، ومُتضرِّعًا لله - جلّ جلاله- يدعوه بقوله: (اللهمَّ آتني ما وعَدتَني، اللهمَّ أنجِزْ ما وعَدتَني، اللهمَّ إنْ تَهلِكْ هذه العِصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعبَدُ في الأرضِ أبدًا)، فأنزل الله تلك الليلة مطرًا خفيفًا يُثبِّت به القلوب، ويُطهّرها من وساوس الشيطان، ويُثبّت به الأقدام؛ حيث إنّ الرمل تماسك، وتلبّد بماء المطر، فسَهُل المسير عليه؛ فقد قال الله تعالى:
(إِذ يُغَشّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطانِ وَلِيَربِطَ عَلى قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ) الأنفال/11
والتقى الجمعان
كان اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة هو اليوم الذي التقى فيه الجيشان، وبدأ المشركون بالهجوم عن طريق الأسود بن عبد الأسد الذي حلف أن يشرب من حوض المسلمين، فإن لم يتمكّن من ذلك هَدَمه، فتصدّى له حمزة بن عبد المطلب حتى قتله، واشتعلت نار المعركة، فخرج ثلاثة من أفضل فرسان قريش، وهم: عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، إلّا أنّ فرسان قريش طلبوا من رسول الله فُرسانًا من بني عمّهم لمُبارزتهم، فأخرج لهم رسول الله عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبدالمُطّلب، وعليًّا بن أبي طالب، وقِيل إنّ رسول الله هو من أرجع الأنصار؛ حتى تكون عشيرته أوّل من يواجه العدو، فبدأ النزال، وسرعان ما انهزم فرسان قريش.
- بَلغ الغضب أَوْجَهُ لدى المشركين لهذه البداية المُحبِطة؛ إذ فقدوا ثلاثة من أفضل فرسانهم، فهجموا هجمة رجل واحد على المسلمين، مُتّبِعين أسلوب الكَرّ والفَرّ في قتالهم؛ وهو أسلوب يتمثّل بهجوم جميع المقاتلين؛ مشاة، وفرسان، ونشّابة بالسيوف، والرماح على العدو، فإن صمد العدو فرّوا؛ لِيُعيدوا تنظيمهم، ثمّ يعودوا ثانية إلى القتال، وهكذا إلى أن يَظفروا بالنصر، أو تلحق بهم الهزيمة، أمّا المسلمون، فقد قاتلوا بأسلوب مُختلف تمامًا؛ حيث اهتمّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بترتيب المقاتلين صفوفًا؛ فجعل الصفوف الأمامية تُقاتل بالرماح؛ لمواجهة فرسان العدو، أمّا بقيّة الصفوف، فقد كانت ترمي العدوّ بالنِّبال، مع رباط الصفوف جميعها في مواقعها حتى يَفقِد المشركون الزخم في عددهم، فتتقدّم الصفوف كلّها مُهاجمةً العدوَّ، وبذلك يكون رسول الله قد اتّبع أسلوبًا جديدًا في القتال يَصلح للدفاع والهجوم في آنٍ واحد، الأمر الذي مكّنه من إدارة قوّة جيشه، وتأمين قوّة احتياطية للطوارئ، على خِلاف أسلوب الكَرّ والفَرّ.
- وتابع المسلمون قتالهم بحماس وشجاعة، واستمرَّ رسول الله بحَثِّهم وتشجيعهم على القتال؛ فالموقف صعب، ولا بُدّ من الاستمرار برَفْع المعنويّات، فكان يُحفّزهم بقوله: (قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ)، وواصل التّضرع لله والدعاء للمسلمين حتى أوحى الله إليه: (إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ)الأنفال/9، وأمر الله ملائكته بقوله: (أَنّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنوا سَأُلقي في قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبوا مِنهُم كُلَّ بَنانٍ) الأنفال/ 12فكان المَدد من الله أعدادًا من الملائكة، وليس مَلَكًا واحدًا على الرغم من كفايته؛ وذلك بشارة للمسلمين؛ إذ قال -تعالى-: (وَما جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلّا بُشرى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم) آل عمران/126 ، ولم يَتوقّف دور النبيّ على التشجيع، والدعاء فقط، بل قاتل مع أصحابه؛ حيث كان يهاجم العدوّ وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، وأخذ حفنة من التراب، وألقاها على المشركين، فلم يَسلَم أحد من تلك الحفنة إلّا وقد أصابت عينه وفمه، وقد قال -تعالى-: (وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلـكِنَّ اللَّـهَ رَمى)، وشارفت المعركة على النهاية إذ تزعزت صفوف المشركين واضطربت وبدأوا بالانسحاب والفرار وأخذ المسلمون بالقتل والأسر حتى ألحقوا الهزيمة الفادحة بالمشركين. أسباب غزوة بدر قال الله -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ)، فعامّة الناس يكرهون القتال، وقد يكون القتال أحيانًا الفاصل بين طرفَين يُدافِع كلٌّ منهما عن قضاياه، ومعتقداته، ومعركة بدر كغيرها من المعارك لها عدّة أسباب يمكن إجمالها في ما يأتي: 1- إعلاء الحقّ الذي جاء به رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ودَحر الباطل الذي تتمسّك به قريش، وتُدافع عنه.
2- القضاء على الخطر المُحدِق بتجارة المسلمين، وحياتهم، والمتمثّل بمرور قوافل قريش المُتّجِهة إلى الشام بالقُرب من المدينة.
3- الغضب الذي استولى على مُشركي قريش بخروج النبيّ مع سريّته المُتّجِهة إلى منطقة نخلة التي تقع بين مكّة والطائف.
4- رغبة المسلمين في استعادة الممتلكات المسلوبة منهم، وإضعاف القوّة الاقتصاديّة لقريش.
نتائج غزوة بدر:
انتصار المسلمين:
انتهت الغزوة بالنصر المُؤزَّر للمسلمين، والهزيمة الساحقة للمشركين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وقد سمّى الله يوم بدر بيوم الفرقان، وذلك في قوله: (يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ)؛ لأنّه فرّق فيه بين الحقّ واالباطل.
الغنائم:
أقام رسول الله في بدر ثلاثة أيّام بعد انتهاء المعركة؛ وذلك لدفن الشهداء، والقضاء على أيّة محاولة يُمكن أن تصدر عن المُنهَزِمين، وليأخذ الجيش مقدارًا كافيًا من الراحة، إلى جانب جمع الغنائم، وقبل الرحيل من أرض المعركة كان المسلمون قد جمعوا الكثير من الغنائم، ولم يكن الشرع قد بيّن حُكمها بعد، فأمرهم رسول الله بإعادة ما تمّ جَمعه منها، ثمّ نزل قوله -تعالى-: (يَسأَلونَكَ عَنِ الأَنفالِ قُلِ الأَنفالُ لِلَّـهِ وَالرَّسولِ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصلِحوا ذاتَ بَينِكُم وَأَطيعُوا اللَّـهَ وَرَسولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ)، ثمّ أنزل -تعالى- كيفيّة تقسيمها في قوله: (وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ)، فقسّمها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على المسلمين بالتساوي بعد أخذ خُمسها.
الأسرى:
تحرّك رسول الله بجيشه نحو المدينة ومعه الأسرى من المشركين، وقد بلغ عددهم سبعين رجلًا، قُتِل منهم اثنان مّمن عُرِفوا بأذيّتهم الشديدة للمسلمين، وهما: النضر بن الحارث الذي كان حاملًا للواء المشركين في المعركة، وعقبة بن أبي معيط الذي حاول من قَبل خَنق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بردائه. وعندما وصل رسول الله إلى المدينة، استشار أصحابه في قضيّة الأسرى، فرأى أبو بكر -رضي الله عنه- أخذ الفدية منهم، ورأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الحزم وقَتلهم؛ لأنّ إيذاءهم كان شديدًا للمسلمين، وقد أخذ رسول الله بمشورة أبي بكر بأخذ الفدية منهم.
أمّا كيفية الفداء، فكانت بأخذ ألف إلى أربعة آلاف درهم عن الأسير، فإن لم يجد ما يفدي به نفسه، علّم الكتابة لعشرةٍ من مُسلِمي المدينة، وقد مَنّ رسول الله على عدد من الأسرى بإطلاق سراحهم دون الفداء، منهم: المطلب بن حنطب، وأبو العاص زوج ابنته زينب، والذي اشترط عليه تركها مقابل ذلك.
شهداء المسلمين وقتلى المشركين:
كان عدد المسلمين الذين استُشهِدوا في المعركة أربعة عشر رجلًا؛ ستّة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، أمّا قتلى المشركين، فقد بلغ عددهم سبعين رجلًا معظمهم من قادة قريش، وكان أبو جهل واحدًا منهم، فقد قتله شابّان من الأنصار، هما: مُعَاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، إذ أصرّا على قتله؛ لأنّهما سمعا أنّه كان يَسبّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وكان ممّن قُتِل من قادة قريش أيضًا أميّة بن خلف الذي قتله بلال ابن رباح؛ لما عاناه من أشدّ أنواع العذاب، وأقساه في مكّة على يديه، قال -تعالى-: (قاتِلوهُم يُعَذِّبهُمُ اللَّـهُ بِأَيديكُم وَيُخزِهِم وَيَنصُركُم عَلَيهِم وَيَشفِ صُدورَ قَومٍ مُؤمِنينَ* وَيُذهِب غَيظَ قُلوبِهِم وَيَتوبُ اللَّـهُ عَلى مَن يَشاءُ وَاللَّـهُ عَليمٌ حَكيمٌ). وقد بيّنت نصوص القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية فضل الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر، حيث قال الله سبحانه: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّـهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)، كما روى البخاري في صحيحه الحديث الذي يخاطب فيه جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما تعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضلِ المسلمين، أو كلمةً نحوَها، قال: وكذلك من شَهِد بدرًا من الملائكةِ).
صحابة استشهدوا في بدر:
وقد استُشْهِد من المسلمين في غزوة بدر أربعة عشر شهيداً، ـ كما ذكر ابن هشام وابن كثير وغيرهماـ: ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس، قال الذهبي: شهداء بدر:
عبيدة بن الحارث المطلبي، وعمير بن أبي وقاص الزهري ـ أخو سعد ـ، وصفوان بن بيضاء ـ واسم أبيه: وهب بن ربيعة الفهري ـ، وذو الشمالين عمير بن عبد عمرو الخزاعي، وعمير بن الحمام بن الجموح الأنصاري ـ الذي رمى التمرات، وقاتل حتى قُتِل ـ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح السلمي، ومعاذ بن عفراء، وأخوه عوف ـ واسم أبيهما الحارث بن رفاعة من بني غنم بن عوف ـ، وحارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي الأنصاري ـ جاءه سهم غرب وهو غلام حدث وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم حارثة! إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" ـ، ويزيد بن الحارث بن قيس الخزرجي ـ وأمه هي فسحم، ويقال له هو فسحم ـ، ورافع بن المعلى الزرقي، وسعد بن خيثمة الأوسي، ومبشر بن عبد المنذر أخو أبي لبابة، وعاقل بن البكير بن عبد ياليل الكناني الليثي ـ أحد الإخوة الأربعة البدريين ـ، فعدتهم أربعة عشر شهيدا"..
النتيجة السياسية للغزوة المباركة:
لفتت غزوة بدر أنظار ساكني شبه الجزيرة العربية، ومن جاورها لوجود قوة وليدة (هي المسلمون)، وأنها عازمة على زيادة نفوذها وتأثيرها، خاصة تُجاه المناطق التي تمر منها قوافل التجارة، ممّا استثار بقية القبائل التي تخشى هذه القوة، وجعلها تقرر الدخول في حلف لقتالها مجدّدًا. كان هذا الحلف مكوّنًا من مقاتلين من مكة، وقبائل أخرى ناصرتهم، ولا يفوتنا أن نذكر أن عشائر يهودية من داخل المدينة نفسها، مثل بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع وغيرهم، كما كان منهم مجموعات سكانية قبلية تعيش في البوادي، والفيافي المحيطة بالمدينة يسمّون "الأعراب"، وفي مقدمهم قبيلة "بني سليم"، وقد اجتمعوا في العام التالي وحاربوا المسلمين، وانتصروا عليهم في غزوة أحد. تلك التي سنتحدث عنها في السطور المقبلة...
2- غزوة أُحُد
سبب الغزوة:
غزوة أحد هي إحدى جولات الصراع بين المشركين والمسلمين، وقد وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وسبب وقوع غزوة أحد الرئيسيّ؛ هو حنق ومَقْت كفار قريش لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه بعد انتصارهم في غزوة بدر، فظلّ يدور في خلدهم الرغبة في الانتقام ممّا حصل في غزوة بدر، فاحتجزوا العير التي نجت من مهاجمة النبيّ -عليه السّلام- يوم بدر، وهي التي تسبّبت في وقوع غزوة بدر، فاحتجزوها وطلبوا أن تكون مددًا لتمويل الغزوة التالية، وحثّوا مَنْ حولهم على التطوّع في دخول تلك المعركة، فانضم في صفوف القتال ما يقارب ثلاثة آلاف شخص بينهم نساء! وجمعوا الأموال، والدروع، والعير؛ استعدادًا للهجوم على المسلمين، لكنّ عيون النبيّ -عليه السّلام- الموجودة في الأنحاء بلغها خبر استعداد قريش للقتال، ووصل الخبر إلى النبيّ عليه السّلام، فاجتمع مع أصحابه مشاورًا إيّاهم في الحال المستجدّ، فاستنفر المسلمون، وبدؤوا بجمع أسلحتهم، ووضع المراقبة الحثيثة في مداخل المدينة؛ استعداداً للأمر الطارئ.
أحداث الغزوة:
- نزل المشركون قبالة "جبل أُحُد " قرب المدينة وخيّموا، فشاور النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بين الخروج، وملاقاتهم خارج المدينة، أو انتظارهم في المدينة وهو رأي النبيّ -عليه السّلام- إذ رأى أنّ المشركين إن همّوا دخول المدينة خسروا الحرب مباشرةً؛ لأنّهم قلّةٌ، فيستقبلهم المسلمون بالنبال والحجارة، فذاك كان رأي النبيّ عليه السّلام، إلّا أنّ عددًا من الصحابة أبدى حماسة، ورغبةً للخروج في ملاقاة العدوّ خارج المدينة؛ فنزل النبيّ -عليه السّلام- على رأيهم، وسار الجميع متوكّلين على الله -تعالى- سائلينه النصر والتأييد.
- بدأت المعركة بالمبارزة الفرديّة بين الفرسان؛ فقابل عليّ -رضي الله عنه- طلحة ابن عثمان، فقطع رجله، وأوشك أن يقتله، والتقى الزبير والمقداد مع مشركين فقتلاهما، ثمّ اشتبك جيش النبيّ -عليه السّلام- مع جيش أبي سفيان، ففر جيش أبي سفيان، وتراجع القهقرى، وتتابعت الجولات، حتى ظهر شبه حسمٍ وانتصارٍ للمسلمين على عدوهم، ورأى الرماة من أعلى الجبل تراجع جيش المشركين، وتركهم لشيءٍ من الغنائم خلفهم، فشغلهم ذلك عن أمر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالثبات، وانتظار الأمر منه، فنزل بعضهم يسارع إلى الغنائم، فلاحظ خالد بن الوليد قلّة الرماة، فانعطف إليهم فقتلهم، وأدرك المشركون الاضطراب الذي حصل، فعادوا إلى حيث خالد، وعاونوه، وأصابوا عددًا من المسلمين، ودارت الدائرة لهم هذه المرة.
- تعددّت الحوادث في هذه الأثناء، فقتل حمزة -رضي الله عنه- عددًا من المشركين، إلا أنّ وحشيًّا كان له بالمرصاد يتابعه، وقد كان وحشيّ عبدًا حبشيًّا مملوكًا لجبير ابن مطعم، فأخبره سيده إن كان قد قتل حمزة، فهو حرٌّ عتيقٌ، فلم يكن لوحشيّ هدفٌ في اللقاء إلّا قتل عمّ النبيّ عليه السّلام، ولقد رماه بحربته؛ فسقط شهيدًا رضي الله عنه، وفي خضمّ الأحداث أصيب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أيضًا، وشجّ رأسه وسال الدم من وجهه، وكسرت رباعيته، وضعفت همّة وعزيمة المسلمين في هذا الوضع قليلًا، خصوصًا بعد إشاعة خبر مقتل النبيّ -عليه السّلام-، وفي هذا الوقت سجّل أنس بن النضر موقفًا عظيمًا حينما التقى ببعض المسلمين متثاقلين عن الجهاد بعد سماع خبر مقتل النبيّ -عليه السّلام-، فقال لهم أنس بن النضر -رضي الله عنه- مشجعًا لهم للقيام: فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا، فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء يعني المسلمين، ثمّ قاتل -رضي الله عنه- حتى قُتل شهيدًا.
نتائج غزوة أحد:
انتهت غزوة أحد باستشهاد سبعين من الصحابة رضي الله عنهم، إضافةً إلى جرح عددٍ منهم، وكان الفوز في المعركة من حليف المشركين بعد أن خالف المسلمون أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد عودة النبي -عليه الصلاة والسلام- من الغزوة إلى المدينة المنورة أُهين وقُلّل من شأن رأس المنافقين عبد الله في المسجد بعد أن وقف متظاهراً بتأييده للنبي بعد عودته من حمراء الأسد، وكان رجوع المنافقين من غزوة أحد سبباً في تجنّب المسلمين لهم والحذر منهم. وبعد انهزام المسلمين في غزوة أحد ثارت اليهود والأعراب وقريش على المسلمين، وقلّلوا من شأنهم، إلا إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يقلّ عزمه وإصراره، فقام بعدّة أعمالٍ عسكرية لعودة النظام إلى المدينة، واستعادة هيبة المسلمين بين القبائل، فقام بحملاتٍ على الأعراب لبثّ الرعب، والفزغ في قلوبهم، وأجلى اليهود من المدينة، وطهّرها منهم، وبعد ذلك أظهر المنافقون الولاء، والتأييد للرسول -عليه الصلاة والسلام- وللمسلمين، وبعد ذلك استعاد المسلمون هيبتهم وسيطرتهم على المدينة المنورة، وقضى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المشاكل التي لحقت بالمسلمين بعد غزوة أحد.
أسماء شهداء غزوة أحد:
حمزة بن عبد المطلب. حنظلة بن أبي عامر. مصعب بن عمير. عبد الله بن عمرو بن حرام. عمرو بن الجموح. خارجة بن زيد . سعد بن الربيع. النعمان بن مالك. عبدة بن الحسحاس. مالك بن سنان. سهل بن قيس. عمرو ابن معاذ. الحارس بن أنس بن رافع. عمارة بن زياد بن السكن. سلمة بن ثابت بن وقش. عمرو بن ثابت بن وقش. رفاعة بن وقش. اليمان أبو حذيفة ابن اليمان. صيفي بن قيظي. الحباب بن قيظي. عباد بن سهل. عبد الأسهل إياس بن أوس بن عبد الأعلم . عبيد بن التيهان. أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد. أنيس بن قتادة. خيثمة أبو سعد. عبد الله بن سلمة. سيبق بن خاطب بن الحارث بن هيشة . أوس بن أرقم بن قيس بن النعمان. مالك بن سنان بن الأبجر. سعد بن سويد بن قيس بن عامر. عتبة بن ربيع بن رافع ابن معاوية بن عبيد بن ثعلبة . علبة بن سعد بن مالك بن خالد بن نميلة. حارثة بن عمرو. نفث بن فروة بن البدي. عبد الله بن ثعلبة. قيس بن ثعلبة. طريف الجهيني. ضمرة الجهيني. نوفل بن عبد الله . العباس بن عبادة بن نضلة. النعمان بن مالك بن ثعلبة بن غنم. مجدر بن ذياب. عنترة مولى بني سلمة. رفاعة بن عمرو. خلاد بن عمرو بن الجموح. المعلى بن لوذان بن حارثة بن رستم بن ثعلبة. ذكوان بن عبد الله قيس. عمرو بن قيس. قيس بن عمرو بن قيس. سليط بن عمرو. عامر مخلد. أبو أسيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو بن مالك. عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو. أوس بن حرام. أنس بن النضر بن ضمضم. قيس بن مخلد كيسان مولى بني النجار. سليم بن الحارث. النعمان بن عمرو. وهب بن قابوس. الحارث بن عقبة بن قابوس. عبد الله بن حجش. سعد مولى خاط. شماس بن عثمان بن الشريد. عبد الله ابن الهبيت. عبد الرحمن بن الهبيت.
3- غزوة الأحزاب
سبب الغزوة وتاريخها:
اتّفق العُلماء على أن السبب المُباشر لحدوث غزوة الخندق؛ هو الحقد والحسد الذي أضمره يهود بني النضير بعد إجلاء النبي -عليه الصلاة والسلام- لهم من المدينة، فبدؤوا ينتظرون الفُرص للتشفّي والانتقام منه، وكان سبب إجلائهم ما فعلوه من التّحريض على المُسلمين، وذلك بعد أن قدِم بعض أشراف يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى خيبر؛ كحُييّ بن أخطب، وسلام بن مشكم، وغيرهم، فاجتمعوا بأشراف قُريش، وحرّضوهم على حرب المُسلمين والرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووعدوهم بإعانتهم ونُصرتهم، فقالوا: "إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ"، فوافقت قُريش على ذلك، وقالت لهم: يا معشر اليهود، إنكم أهل كتاب، أفدينُنا خيرٌ أم دينه؟ فقالوا: دينكم أفضل، فنزل قول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) النساء:51، ثُم ذهب اليهود إلى تحريض غطفان على المُسلمين، فاستجابوا لهم أيضًا، وخرجوا معهم، وقد كانت هذه الغزوة في شوّال من السنةِ الخامسةِ للهجرة.
سبب تسمية غزوة الأحزاب:
سُمّيت غزوة الأحزاب بهذا الاسم؛ بسبب استجابة المشركين لدعوة أشراف بني النضير في الحرب على الإسلام، فقد خاب المشركون من القضاء على الإسلام والمُسلمين في غزوة أُحد، وكذلك بسبب استجابة غطفان معهم، فقال الله -تعالى-: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، وأمّا تسمية الغزوة بالخندق؛ فهو لأن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر خندقٍ حول المدينة، حتى يكون بينهم وبين المُشركين، لعدم قُدرة المُسلمين على قِتالهم لكثرة أعدادهم.
الأحزاب المشاركة في غزوة الأحزاب:
كانت الأطراف المُحاربة للنبي -عليه الصلاة والسلام- في غزوة الخندق تتكوّن من خمسة أصناف، وهم: مُشركو أهل مكّة، ومُشركو القبائل العربيّة، واليهود من خارج المدينة، وبنو قُريظة، والمُنافقون.
أعداد المسلمين وشُهداؤهم و المشركين وقتلاهم:
- أعداد المسلمين: بلغ عدد المُسلمين الذين خرجوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- قُرابة ثلاثة آلاف مُقاتل، وبلغ عدد الصحابة الذين استُشهدوا فيها ثمانية، وكان منهم زعيم الأوس سعد بن مُعاذ -رضي الله عنه-، حيث أُصيب في أكحله، وبنى له المُسلمون خيمةً في المسجد، ومات بسبب جُرحه.
- أعداد المشركين: بلغ عدد المُشركين قُرابة عشرة آلاف مُقاتل، وكان أربعةُ آلافٍ منهم من قُريش وأحابيشها، ومن تبعهم من عرب كِنانة وأهل تِهامة، وقادوا معهم ثلاثمئة فرسٍ، وألفًا وخمسمئة بعيرٍ، وسبعمئة مُقاتلٍ من بني سليم، وألف مُقاتلٍ من قبائل غطفان، وأربعمئة مُقاتلٍ من بني مُرّة، وأربعمئة مقاتلٍ من بني أشجع، وخرج معهم قومٌ آخرون، وقُتل من المُشركين ثلاثة رجال، وهم: عمرو بن عبد ودّ العامريّ، وابنه حسل، ونوفل بن عبد الله المخزوميّ.
أحداث الغزوة:
- تآمر المُشركون ومن كان معهم على النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابِه، واتّجهوا نحو المدينة، فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأخذ مشورة "سلمان" بحفر الخندق من جهة الشمال؛ وذلك لأن الجبال والبساتين تُحيط بها من جميع جوانبها ما عدا جهة الشمال، وهجوم المُشركين عليها يكون من هذه الجهة، ولمّا وصل الأعداء إلى المدينة، فُوجِئُوا بوجود الخندق، فذهب زعيمهم "حُييّ بن أخطب" إلى الجهة الجنوبية التي لم يكن فيها الخندق، وكان يسكُنها بنو قريظة، فحرّض بني قُريظة على نقض عهدهم مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، فرفض زعيمهم ذلك في البداية، لكنه وافق في النهاية بعد أن أغراه بقوة الأحزاب وعددهم، والأسلحة التي معهم، وطمْأَنه بأنّ النصر سيكون معهم، فأشار النبي -عليه الصلاة والسلام- مُصالحتهم على ثُلث ثمار المدينة، لكن الأنصار رفضوا ذلك؛ لِعزّة الإسلام وأهله، وبدأ القتال بدخول بعض المُشركين من زوايا الخندق الضيّقة، وقتلهم المُسلمون. وجاء نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بإسلامه، وأخفاه عن قومه، فقال له النبيّ أن يُخذِّل عنهم، ويحميهم بقدر ما يستطيع( فإن الحرب خدعة) ففرّق بين المُشركين وحُلفائهم وبين بني قُريظة، وأوقع الشكّ بينهم، فسأل قريش هل يسمعون كلامه ويقبلون بنصيحته لثقتهم به، فأجابوه بالقبول، فقال لهم: إن اليهود ندموا على نقض العهد الذي كان بينهم وبين النبيّ والمسلمين، وأنّهم تواصلوا معه لأخذ رهائن من قريش عوضًا عن ذلك، ثمّ يجدّدون العهد معهم، وطلب نعيم من قريش ألَّا يستجيبوا لهم ويعطوهم الرهان، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك، فأرسل الله -تعالى- عليهم ريحًا شديدةً وباردةً، فقُلِبت قُدورهم وخيامهم، وشعر المُشركون بالرُّعب، وارتحلوا من مكانهم، وقد قال الله -تعالى- واصفًا هذا المشهد في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا* إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا).
نتائج غزوة الأحزاب:
- انتهت غزوة الأحزاب بنصر الله - تعالى- للمؤمنين بالرغم من قلّة عددهم، وأيّدهم بِجُندٍ من عنده، وأمدّهم بالثبات والطّمأنينة، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)، وكانت غزوة الأحزاب عبارةً عن معركة أعصاب، ولم تكن معركة خسائر؛ لأنه لم يجرِ فيها قتالٌ كبيرٌ، فانتهت بتخاذل المُشركين، وقَويت شوكة المُسلمين، لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (الآنَ نَغْزُوهُمْ ولَا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ نَسِيرُ إليهِم).
4- فتح مكة
سبب هذا الفتح الأعظم:
لم يكن يدور في خلد عمر بن الخطاب الفوائد الجمة التي سيجنيها المسلمون والدعوة الإسلامية من صلح الحديبية؛ لذلك حزن بسببها في بادئ الأمر، واعترض وتسخَّط حتى نزل القرآن يصف الصلح بأنه فتح مبين وحقًّا كان هو؛ لأنه كان السبب المباشر لفتح مكة! لأن من بنوده:
* أن من أحبّ أن يدخل في حلف الرسول دخل.
* ومن أراد أن يدخل في حلف مكة وقريش دخل.
فدخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة أيام الجاهلية، وفي شهر شعبان 8هـ اعتدت بنو بكر على خزاعة، وأعانت قريش بني بكر على ذلك بالسلاح والرجال، وعُدَّ ذلك خرقًا لبنود المعاهدة والصلح؛ لأن الاعتداء على الحليف بمثابة اعتداء على من يحالفه, وهذا الاعتداء يعتبر مباشرة على الرسول والمسلمين, خاصة أن الإسلام قد فشا، وانتشر في خزاعة، وقتل في هذا الاعتداء رجال من المسلمين، ولما وصلت الأخبار بذلك للرسول قرر ردّ العدوان، وأخذ القرار الكبير بالسير لفتح مكة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يأتيه الخبر قد تجهّز للجهاد، ولا أحد يعلم وجهته حتى أزواجه أمهات المؤمنين.
جهود أبي سفيان سفير قريش:
كان أبو سفيان بن حرب من أعقل أهل قريش، وأشدهم ذكاء.. ذلك أنه أدرك أن ما فعلته بنو بكر والمتهورون من شباب قريش يعدّ بمثابة نقض للميثاق وبنود الصلح، فخاف من غائلة ذلك وعاقبته، فخرج مسرعًا للرسول يطلب منه تجديد الصلح، وقد أخبرهم الرسول-صلى الله عليه وسلم- بمجيئه، فدخل أبو سفيان المدينة، ونزل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة، فأراد أن يجلس على فراش الرسول، فأبت أم حبيبة، وقالت له: "أنت رجل مشرك نجس"، وحاول أبو سفيان تجديد الصلح، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يردّ عليه شيئًا، فحاول الاستشفاع بأصحاب النبي، فلم يستطع أحد منهم أن يجير على رسول الله, فقام أبو سفيان، فآجر نفسه بين الناس عملًا بنصيحة علي بن أبي طالب, فلم يقم أحد لإجارته، وتيقّن من عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة.
الاستعداد للغزوة:
أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس بالتجهيز للغزو، وصرّح لهم بما يريده، ولكنه وللمفاجأة دعا ربه -جل وعلا- أن يأخذ العيون، والأخبار عن قريش؛ حتى يباغتوها في ديارهم، وزيادة في الإخفاء والتمويه بعث الرسول بسرية في 1 رمضان 8هـ في اتجاه آخر؛ ليظن الناس أنه متوجّه لها.
حادثة حاطب بن أبي بلتعة:
أثناء الاستعداء للغزوة كتب "حاطب بن أبي بلتعة" - وكان من المهاجرين الأولين ومن أهل بدر- في لحظة من لحظات الضعف الإنساني التي تؤكد على بشرية الصحابة، وعدم عصمتهم برسالة لأهل مكة يخبرهم بالأمر، وذلك مع امرأة مستأجرة لذلك، فأطلع جبريل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ما حدث استجابة لدعوة الرسول بأخذ العيون عن قريش، فأرسل الرسول عليًّا والمقداد، فأحضرا المرأة، واستخرجا الكتاب منها، ثم دار هذا الحوار بين حاطب والرسول، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "ما هذا يا حاطب؟" فقال حاطب: "لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددتُّ، ولا بدَّلتُ, ولكني كنت امرأ ملصقًا في قريش لست من أنفسهم ولي فيهم أهل وعشيرة، وولد وليس فيهم قرابة يحمونهم، وكل من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاقني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي"، فقال عمر بن الخطاب: "دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق", فقال الرسول: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك يا عمر, لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"؛ فبكى عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
خروج الجيش الفاتح:
بعد أن أتم الرسول - صلى الله عليه وسلم- إعداد الجيش، وجاءته القبائل العربية المسلمة من كل حدب وصوب، خرج الجيش الفاتح في 10 رمضان 8هـ من المدينة إلى مكة واستخلف الرسول في المدينة أبا رهم الغفاري الملقب بالمنحور، وفي الجحفة لقيه العباس ابن عبد المطلب مهاجرًا بعياله وماله، فكان بذلك آخر المهاجرين كما أن أبا سلمة هو أول المهاجرين.
كانت هذه المسيرة في رمضان؛ لذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قد أمر الجيش بالفطر ليكون أقوى لهم على القتال، ثم أمر كل جندي في الجيش أن يوقد نارًا ليلقوا الرعب في قلب قريش، فأوقدوا عشرة آلاف نار، ووصلوا حتى منطقة مرّ الظهران وقريش لا تعلم شيئًا عنهم.
كان العباس أرحم الناس بأهل قريش، فخرج ليلًا يلتمس بعض أهل قريش يخبرهم بالجيش حتى يخرجوا للرسول يستأمنون عنده، وبالفعل يقابل العباس أبا سفيان، ويخبره بقدوم الجيش، فدخل أبو سفيان مع العباس إلى معسكر المسلمين ليطلب الأمان من الرسول، ويراه عمر بن الخطاب، فيتربص وراءه ليقتله؛ ولكن العباس يجيره عند رسول الله، فيكفّ عمر عنه، ويقف أبو سفيان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويعرض عليه الرسول الإسلام، فيتلكّأ أبو سفيان، ويتردد ثم يشهد شهادة الحق، فقال العباس: "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا"، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم- "نعم، من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام، فهو آمن".
أثناء تحرّك الجيش أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بشنِّ حربٍ نفسية على أبي سفيان ليحدث له هزيمة نفسية، ورعب ينقله أبو سفيان لأهل قريش فتخور قوتهم وتسقط مقاومتهم للمسلمين، وهذه الهزيمة النفسية حدثت لأبي سفيان عندما حبسه العباس عند مضيق وادي مرّ الظهران؛ ليرى مرور كتائب الجيش الإسلامي، فأذهله ما رآه من كثافة الجيش وقوته، ودخله الرعب الشديد، فقال للعباس: "والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا", فقال العباس: "يا أبا سفيان إنها النبوة", فقال أبو سفيان: "فنعم إذن".
كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة المشهور بحماسته وغيرته الشديدة، فلما رأى أبا سفيان قال له: "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحلّ الحرمة, اليوم أذلّ الله قريشًا"، فاشتكى أبو سفيان للنبي ما قال سعد, فنزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- اللواء من سعد، وأعطاه لولده قيس.
دخول مكة:
دخل أبو سفيان مكة مسرعًا، وصرخ بأعلى صوته: "يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن", فسبَّته زوجته هند، ولكن الناس عرفوا الجدّ من كلام أبي سفيان، فهرعوا مسرعين لبيوتهم والمسجد الحرام.
رفض بعض المتهورين من شباب قريش وسفهائها إلقاء السلاح، وأصرّوا على مقاومة الجيش المسلم، واجتمعوا عند "منطقة الخندمة" لقتال المسلمين، وجعلوا عليهم "عكرمة بن أبي جهل".
وزع الرسول جيشه على قسمين الميمنة وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وغيرهم، وجعل عليهم خالد بن الوليد، وأمرهم أن يدخلوا مكة من أسفلها على أن يتولوا القضاء على أي جيب من جيوب المقاومة، والميسرة وعليها الزبير بن العوام ومعه راية الرسول ويدخل مكة من أعلاها، والمشاة وعليهم أبو عبيدة بن الجراح.
دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة على راحلته وهو يضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمسّ واسطة الرحل، ودخل المسجد الحرام، ومن حوله المهاجرون والأنصار، فاستقبل الحجر الأسود، وطاف بالبيت وفي يده قوس يطغى به الأصنام الموجودة بالحرم ليحطمها، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"، ودخل الكعبة وطهرها مما كان بها من الصور، ثم صلى فيها ركعتين.
العفو النبوي:
بعد أن صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة فتح بابها، ثم أخذ بعضادتي الباب، وخطب فيهم ثم قال: " يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: "خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم"، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم, اذهبوا فأنتم الطلقاء".
لم يمنع العفو العام الذي أصدره الرسول - صلى الله عليه وسلم- قراره بإهدار دماء رجال من أكابر المجرمين الذين كانت عداوتهم، وشرورهم أكبر من غيرهم منهم عكرمة ابن أبي جهل، وعبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة وغيرهم, بلغ عددهم تسعة نفر ستة رجال وثلاثة نساء، ولكن الرسول عفا عن بعضهم.
أثناء طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكعبة جاء رجل من قريش اسمه فضالة بن عمير، وكان جريئًا، وأراد أن يغتال النبي وهو في الطواف، ولكن الله -عز وجل- أطلع رسوله على الأمر, فنادى الرسول على فضالة، وأخبره بما في نفسه، فأسلم فضالة من فوره.
خاف الأنصار من بقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم- بمكة وقالوا: "أترون رسول الله إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها", فلما علم الرسول قال لهم: "معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم".
كان هذا الفتح من أعظم انتصارات المسلمين، وبشارة عظمى بقيام دولة الإسلام في أقوى صورها، وإيذانًا بغروب شمس الكفر، والشرك في شبه الجزيرة العربية.
أهم معارك دولة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين
5- بعث أسامة
قصة سرية اسامة بن زيد:
كانت هذه السرية إلى "أبنى"، ناحية بالبلقاء من أرض الشام، وهي آخر السرايا، أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين السادس والعشرين من صفر من السنة الحادية عشرة بالتهيّؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعاه وقال له: " سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، وقد وليتك أمر هذا الجيش"، فلما كان يوم الأربعاء حُمَّ وصدع (صلوات الله وسلامه عليه)، فلما أصبح يوم الخميس عقد له لواء وقال له: "اغزُ باسم الله وفي سبيل الله"، وخرج أسامة، فدفع اللواء إلى بريدة بن الحصيب، وتهيَّأ المهاجرون والأنصار للخروج، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، واستنكف قوم من تأمير أسامة، وقالوا: غلام، وكان سنُّه ١٧ أو ١٩ أو ٢٠ سنة، وبلغت النبي مقالتهم، فغضب كثيرًا، وخرج وقد عصب رأسه، فصعد المنبر، وقال: "أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ ولئن طعنتم في إمارته، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إن كان لخليقًا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإنه لمظنّة كل خير، فاستوصوا به، فإنه من خياركم".
وكان ذلك يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول، وأمر النبي أبا بكر بالتخلف ليصلي بالناس، فلما كان يوم الأحد اشتد وجعه، فجاء أسامة وطأطأ فقبله، ثم رجع إلى معسكره «بالجرف»، ثم عاوده يوم الاثنين فقال له: «اغدُ على بركة الله» فودعه وخرج، وأمر الجيش بالرحيل، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول: لا تعجل، فإن المرض قد اشتد على الرسول، فأقبل وأقبل معه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، وانتهوا إليه -صلى الله عليه وسلم- وقد تُوُفِّيَ، وعاد الجيش إلى المدينة، وعاد بريدة باللواء، فغرزه عند النبي، فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، وأن يمضي أسامة لما أمر به، فخرج وسار أبو بكر (رضي الله عنه) يودّعه ماشيًا، وقد نصره الله وأيَّده.
حروب الردة
تمهيد:
ما المقصود بحروب الردة؟!
هي: مجموعة من الغزوات، أو الحملات العسكرية التي قام بها جيش المسلمين على القبائل العربية التي ارتدّت عن الإسلام في عهد الخليفة "أبي بكرٍ الصدِّيق" - رضي الله عنه- وقد مثَّلتْ هذه الحروب عودة حقيقيّة لعصر الجاهلية، والتعصُّبِ القبلي الذي كان في ذلك العصر، لولا تدخُّلُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وضبط حالة الفوضى التي عمّت القبائل العربية بعد وفاة خير الخلق -عليه الصلاة والسلام-.
6- معركة اليمامة "عقرباء" سنة 632 م/ 11هــ
تعدُّ معركة اليمامة واحدة من حروب الردّة، وواحدة من أشرس المعارك التي خاضها المسلمون في عهد الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وهي معركة دارت بين المسلمين، وبني حنيفة الذين ظهر منهم مسيلمة الكذاب، ومسيلمة هذا رجل من بني حنيفة ادّعى النبوّة بعد وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وادّعى أنَّ رسول الله أشركه معه في أمر الرسالة، وقد شهد له بعض أتباعه بأنهم سمعوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يشركه معه في الدعوة والرسالة، وقد ارتدَّ هو، ومن معه عن الإسلام، وقد وصَلَ الأمر بهم إلى أن كتبوا كلامًا ادّعَوْا أنّه وحي من الله -سبحانه وتعالى- ينزِّلُهُ على مسيلمة الكذاب، وكلُّ هذه الظروف أدَّت إلى زيادة عدد أنصارِهِ وأتباعه ممّن ارتدُّوا معه. ولكنَّ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كانَ حازمًا، جسّد كلَّ أفكار وأقوال وأفعال القائد العظيم، والخليفة الإسلامي الغيور على هذا الدين، فقرر قتالهم وردّعهم بالسيف، ولم يتوانَ عن إراقة الدم فداء للإسلام وحفظًا للمسلمين، فبعث لهم جيشًا كبيرًا اصطدم مع جيشهم في معركة اليمامة أو "معركة عقرباء" كما تُسمّى أيضًا، وكان هذا في السنة الحادية عشرة للهجرة،
تفاصيل تلك المعركة:
وقعت هذه المعركة في السنة الحادية عشرة للهجرة، أي سنة 632 للميلاد، في منطقة "عقرباء".
شعرت قبائل عبس وذبيان بضعفها، وعدم وجود جيش يدافع عنها في حال شنَّ المسلمون هجومًا مباغتًا عليها، وهي من القبائل التي ارتدّت عن الإسلام بعد وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وعندما خرج أسامة بن زيد بجيش المسلمين إلى الشمال خرجت جيوش عبس وذبيان باتجاه المدينة المنورة تترصّد لها، وشنّوا هجومًا على المدينة المنورة، ولكنَّ أبا بكر استطاع أن يجمّع من معه من الصحابة الكرام الموجودين في المدينة، وجعل نفسه رئيسًا لهذا الجيش المدافع عن المدينة المنورة، وردّ جيوش عبس وذبيان على أعقابهم، ثمَّ جهّز جيشًا، وخرجَ إليهم، وتركَ بعض الصحابة في المدينة. وقد أمر أبو بكر الجيش بالخروج في آخر الليل، وعسكر بالمسلمين قرب جيوش عبس وذبيان، وهجم عليه بعد صلاة الفجر مباشرة، وانتصر عليهم انتصارًا ساحقًا، وطاردهم حتّى منطقة تُدعى "ذا القصة"، وقد أرسل أبو بكر الصديق في هذه المعركة رسالة واضحة لكلِّ القبائل المرتدة على قوّة جيوش المدينة، فلم يجرؤ أحد من القبائل على مهاجمة المدينة بعدها، وقد تابع أبو بكر التجهيز للحروب ضد المرتدين من القبائل، فحرس المدينة أوّلًا، وجهّز عددًا من الفرق العسكرية بقيادة الصحابة الكرام، فحرسوا المدينة المنورة ليلًا ونهارًا، ثمَّ نادى في القبائل التي لم ترتدَّ عن الإسلام، وجمعَ منهم جيوشًا عسكرت في "ذي القصة" وأرسل رسائل قاسية، وإنذارات شديدة اللهجة إلى القبائل المرتدة، يدعوهم إلى العودة إلى الدين الحنيف.
التجهيز لحروب المرتدين
بدأ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- في تجهيز عددٍ من الجيوش التي ستحارب المرتدين في كلِّ أنحاء الجزيرة العربية، فجهّز أحد عشر جيشًا وأمَّرَ عليهم قادة من خيرة رجال الصحابة، وكان العدد التقريبي لكلِّ جيش ما يقارب ألفين إلى ثلاثة آلاف رجل، موزّعين على جيوش منظمة، تحمل في قلوبها حبَّ الموت والجهاد في سبيل الله -عزَّ وجلّ- وفي سبيل إعلاء كلمة الدين الإسلامي، ثمَّ وزّع هذه الجيوش على أصقاع الجزيرة العربية، حتّى تتمكن جيوش المسلمين من الوصول إلى أية نقطة في الجزيرة العربية بسهولة تامّة، فلا تبقى أية قبيلة لم يصلّها جيش المسلمين، وكان من قادة هذه الجيوش:
"خالد بن الوليد، شرحبيل بن حسنة، عكرمة بن أبي جهل وغيرهم من كبار الصحابة الكرام".
أحداث معركة اليمامة:
انتصر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- انتصارات ساحقة في حروبه ضد قبائل بني أسد وتميم، وعاد إلى المدينة المنورة محمّلًا بالنصر العظيم للإسلام والمسلمين، وفي الوقت نفسه كانت جيوش عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة تُهزم في اليمامة أثناء حربها ضد بني حنيفة، فأمَرَ أبو بكر الصديق خالدَ بن الوليد بالانضمام مع جيشه إلى جيوش عكرمة وشرحبيل لقتال جيوش مسيلمة الكذاب في منطقة اليمامة، وبعد أن اجتمعت الجيوش الثلاثة بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أرسل أبو بكر الصديق مددًا آخرَ بقيادة سليط بن قيس، ومعه عدد من الصحابة، فلحق بجيش خالد، حتّى أصبح تعداد المسلمين يقارب الاثنيْ عشر ألف رجل، وجدير بالذكر أنَّه في الوقت الذي انطلق فيه خالد بن الوليد ليحارب جيش مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة كانَ هناك جيش آخر يتجه إلى بني حنيفة أيضًا لمحاربة مسيلمة، وهو جيش سجاح المرأة التي ادّعتِ النبوّة أيضًا، فهو جيش من القبائل المرتدّة يهاجم المرتدّين مع مسيلمة أيضًا، وهذا دليل على كذب ادّعاءاتهم جميعًا، وكان تعداد جيش سجاح كما تقول الروايات ما يقارب المئة ألف رجل. وقد تقدّمتْ جيوش المسلمين باتّجاه بني حنيفة، فقسّم خالد بن الوليد جيوشه، فجعل شرحبيل بن حسنة ومن معه في مقدمة الجيش، وجعلَ على يمينه زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- وعلى يساره أبا حذيفة، وفرّق المهاجرين والأنصار، فجعل على المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، وجعل على الأنصار ثابت بن قيس، وبقي خالد بن الوليد في منتصف هذه الجيوش ليستطيع قيادة المعركة كيف شاء، وجعل فسطاطه في مؤخرة الجيش، وجعل في مؤخرة جيشه سليط بن قيس، فكانَ لهذا التقسيم حنكة كبيرة، حيث إن المعروف أنَّ مؤخرة الجيش لا تقاتل في العادة، ولكنَّ هذا التقسيم جعل الجيش كلّه يقاتل حتّى المؤخرة منه، وأمَّا فيما يتعلّق بجيوش مسيلمة الكذاب، فقد كانَ يحصِّنُ نفسه ضمن مجموعة من الحصون ذات الأسوار العالية والتي أسماها "الحديقة"، ولكنَّ العدد الكبير من الرجال الذين كانوا معه جعله يخرج خارج اليمامة؛ لأن الحصون لم تستوعب عدد الرجال الكبير الذي كان معه، فخرج إلى منطقة "عقرباء"، وعسكر هناك وقسّم جيشه، فجعل على ميمنته محكم بن الطفيل وهو وزير مسيلمة الذي اتخذه له وزيرًا بعد أن ادّعى النبوّة، وعلى ميسرته رجل من المرتدين معه واسمه نهار الرَّجال، وبقي هو في المؤخرة، واقترب خالد بجيش المسلمين فاصطدم الجيشان في معركة اليمامة وانتصر جيش المسلمين انتصارًا كبيرًا وانهارت كلُّ حصون بني حنيفة، وقُتلَ مسيلمة الكذاب في تلك المعركة، وكانَ لهذه المعركة تأثيرٌ كبيرٌ في مجرى الأحداث التاريخية الإسلامية.
أهم نتيجة لهذه الموقعة
" جمع القرآن بعد استشهاد كثير من الحفّاظ":
ولكن كانت هناك نتيجة مهمة جِدًّا لتلك المعركة، ألا وهي استشهاد عدد كبير من الصحابة ممَّن يحفظون كتاب الله، فكان ذلك إيذانًا بجمع المصحف.. تلك الفكرة التي أنعم الله بها على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- والتي لم يوافق عليها أبو بكر في البداية؛ كونها بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكن ما زال عمر يقنع بها أبا بكر حتى اقتنع، واستدعى زيد بن ثابت، وأقنعاه بأن يبدأ في جمع القرآن.. الأمر الذي كان فتحًا للإسلام والمسلمين.. وأدَّى إلى نشر كتاب الله في جميع الأصقاع...
- كما أن هناك نتيجة أخرى، حيث أظهرت موقعة عقرباء قوة شوكة المسلمين في المدينة، وكونهم أعظم قوة في الجزيرة العربية؛ لذا دانت لهم كل القبائل بالطاعة والولاء.. بل وتسابقت على عَقْدِ الأحلاف والمعاهدات مع سلطة المدينة مرهوبة الجانب موطدة الدعائم في عهد العبقري القائد
" أبي بكر الصديق" رضي الله عنه.
7- فتح الشام
انطلاق الجيوش الإسلامية ورد الفعل البيزنطي:
انطلقت الجيوش الإسلامية من قاعدتها في المدينة باتجاه أهدافها المحدَّدة في أوقاتٍ مختلفة، وقد شعرت القبائل العربيَّة المتنصِّرة والمتحالفة مع بيزنطة بهذا الزحف، فخشيت من اجتياحٍ إسلاميٍّ لقراها وأراضيها، كما خشي سكان المدن من توغُّلٍ إسلاميٍّ في عمق بلاد الشام ممَّا يُشكِّل تهديدًا لهم، فكتبوا إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل يُعلمونه بالأوضاع المستجدَّة، ويطلبون منه مساعدةً عاجلةً لصدِّ الزحف الإسلامي.
كان هرقل آنذاك في فلسطين أو في دمشق، فدعا إلى عقد اجتماعٍ مع مستشاريه وأركان حربه للتشاور، وأدرك في الوقت نفسه مدى جدِّيَّة المسلمين في تقدُّمهم باتجاه بلاد الشام في هذه المرحلة التي تختلف في التخطيط، والأداء عن الحملات السابقة؛ لذلك عرض على المجتمعين تجنُّب القتال وعقد صلحٍ معهم؛ إذ إنَّ إعطاءهم نصف خراج البلاد والاحتفاظ بالنصف الآخر أفضل من خسارة خراج البلاد بكامله، غير أنَّ المجتمعين عارضوا هذا الرأي، فنزل عندئذٍ على رأيهم، على الرغم من أنَّه كان أكثرهم تقديرًا لخطر المسلمين على ملكه ودولته، كما كان أكثرهم ذعرًا وخوفًا، حتى أنَّه رحل عن فلسطين، واستقرَّ بعيدًا في أنطاكيَّة في أقصى طرف بلاد الشام الشمالي؛ ليُوجِّه الجيوش منها، ويبعث بتعليماته إلى قادته، ويُدير العمليَّات العسكريَّة.
كان للبيزنطيين في بلاد الشام جيشان كبيران، يتمركز الأوَّل في فلسطين، ويبلغ عدده سبعين ألف مقاتل، ويتمركز الثاني في أنطاكيَّة ويبلغ عدده مائتي ألف مقاتل معظمهم من الأرمن والروم.
معركة مؤاب :
وصل يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه- إلى تبوك في أواخر عام 12هـ، في الوقت الذي نزل فيه شرحبيل بن حسنة -رضي الله عنه- في بصرى، وأبو عبيدة -رضي الله عنه- في الجابية، وكان هرقل قد جهَّز قوَّةً عسكريَّةً قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة سرجيوس قائد منطقة غزة، وأرسلها إلى "وادي عَرَبة" في فلسطين لحصار المسلمين المتقدِّمين باتجاه الشمال من الخلف، وقطع خطوط إمداداتهم مع المدينة.
كان من المفروض أن يتصدَّى خالد بن سعيد -رضي الله عنه- لهذه القوَّة، وقد أمره أبو بكرٍ رضي الله عنه بأن يتقدَّم في تيماء دون أن يقتحم حتى لا يُؤتى من خلفه، غير أنَّ خالدًا توغَّل أكثر ممَّا سُمِحَ له حتى أنَّه سبق جيش أبي عبيدة -رضي الله عنه- المرابط في الجابية، فبلغ مرج الصفر في ضواحي دمشق.
علم يزيد بتقدُّم جيش سرجيوس وهو في البلقاء في مكانٍ يقع شرق البحر الميت، ثُمَّ شاهد طلائعه، فاصطدم به في مؤاب وتغلَّب عليه، وانسحب البيزنطيون في جوِّ الهزيمة القاتم إلى داثن، إحدى قرى غزَّة حيث أعاد سرجيوس تنظيم صفوف قوَّاته ليستأنف القتال.
كانت "مؤاب" أوَّل مدينة بيزنطيَّة في بلاد الشام تسقط في أيدي المسلمين، والواضح أنَّه كان من المجازفة أن يقوم هؤلاء بنشاطاتٍ عسكريَّةٍ كبرى إلى الغرب من وادي عربة دون فتح هذه المدينة؛ إذ أمَّن هذا الفتح المركز المسيطر عسكريًّا على المنطقة الواقعة جنوب وادي الموجب أو نهر أرنون، وسمح للمسلمين القيام بنشاطاتٍ عسكريَّةٍ في وادي عربة ثُمَّ في "داثن"، بعد أن أضحى جناحهم الشمالي محميًّا، وأزاح كلَّ الحواجز العسكريَّة الجديَّة من طريقهم، حيث أضحى الانتشار في ربوع فلسطين يتمُّ وفق إرادتهم.
أدَّى بذل الحدِّ الأدنى من الضغط -في اللحظة الحرجة والمكان الصحيح- إلى انتصار المسلمين مع تكبُّدهم الحدَّ الأدنى من الخسائر، ويتحمَّل سرجيوس -الذي ربَّما استخفَّ بقوَّة المسلمين- المسئوليَّة؛ حيث كان استعداده العسكري غير واضح، ودخل المعركة بشكلٍ عشوائي، وبدا واضحًا بعد اختراق المسلمين لجنوبي فلسطين أنَّه لم يكن ثَمَّة خطَّة بيزنطيَّة مدروسة، ومتماسكة للدفاع عن بلاد الشام، وما اتَّخذه هرقل -بعد ذلك- من إجراءاتٍ لتجنُّب الكارثة جاءت متسرعة ولم تحل دون وقوعها.
معركة داثن:
تحصَّن سرجيوس في "داثن"، وخاض المعركة الثانية ضدَّ المسلمين فخسرها، وخسر حياته، حيث قُتل في المبارزة التي جرت بينه وبين ربيعة بن عامر، كان ذلك في (24 من ذي الحجة 12هـ=1 مارس 634م).
عزَّزت معركة "داثن" النجاح الذي حقَّقه المسلمون أصلًا إلى مدى أبعد شرقًا وفي منطقةٍ مختلفة، وخلَّفت الخسارة البيزنطيَّة صدًى قويًّا تراوح بين الفرح الذي عمَّ السكَّان اليهود خاصَّةً الذين عدُّوا انتصار المسلمين فاتحة زوال السيطرة البيزنطيَّة، وبين الأسى الذي عمَّ الدوائر الحاكمة في القسطنطينية، وبعض القبائل العربيَّة في بلاد الشام، وتُمثِّل هذه المعركة -إلى جانب الهدف الديني الأسمى للمسلمين- المقاومة الإسلاميَّة للمحاولات البيزنطيَّة لتضييق الخناق الاقتصادي عليهم من واقع فرض السيطرة على المناطق الحدوديّة، والتحكُّم بمرور القوافل التجارية، بعد أن استعاد هؤلاء سيطرتهم على سواحل البحر الأحمر.
تابع يزيد زحفه بعد انتصاره، فاجتاز حوران وغوطة دمشق حتى وصل إلى أبواب مدينة دمشق، وتمركز حولها، ومنع حاميتها من الاتصال بالقيادة المركزيَّة في أنطاكيَّة، ثُمَّ اتَّصل ببقيَّة الجيوش الإسلاميَّة.
معركة مرج الصفَّر:
رأى هرقل أن يضرب أوَّلًا جيش خالد بن يزيد رضي الله عنه الزاحف باتِّجاه مرج الصفَّر، فاستنفر العرب المتنصِّرة مثل بهراء، وكَلَب، وسُلَيْح، وتنوخ، ولخم، وجذام، وغسَّان، فتوافدوا وعسكروا في مكانٍ قريبٍ من آبل، وزيزاء، والقسطل بقيادة باهان، فاصطدم بهم خالد بن يزيد -رضي الله عنه- بعد أن استأذن أبا بكرٍ- رضي الله عنه- وانتصر عليهم، وفرَّ باهان مع من تبقَّى من جنوده من ساحة المعركة.
كتب خالد بن سعيد - رضي الله عنه- بأنباء الانتصار إلى أبي بكر -رضي الله عنه-، وطلب منه إرسال المزيد من الإمدادات، فاستجاب لطلبه، ثم تسرَّع -خالد- فشقَّ طريقه إلى مرج الصفَّر متجاوزًا القواعد العسكريَّة الضروريَّة للزحف خاصَّةً إرسال الطلائع لاستكشاف المنطقة، ورصد وجود تحرُّكات العدو، ممَّا أعطى الفرصة لباهان -الذي كان يُراقب تحرُّكاته- لمهاجمته، وعندما وصل إلى مرج الصفَّر بين الواقوصة، ودمشق قطع عليه خط الرجعة دون أن يشعر، ثُمَّ التفَّ حول الجيش الإسلامي وفاجأه، فلاذ خالد بن سعيد -رضي الله عنه- بالفرار تاركًا جيشه تحت رحمة البيزنطيين، لكنَّ عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- نجح في إعادة تنظيم صفوفه، وانسحب من ميدان المعركة، وعسكر على مقربةٍ من الشام، وجرت المعركة في (4 من المحرم 13هـ=11من مارس 634م).
وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى مسامع أبي بكر، فكتب إلى خالد بن سعيد- رضي الله عنه -الذي وُصف بأنَّه قائدٌ غير كفء- يُعنِّفه، ويتَّهمه بالجبن، والفرار طلبًا للنجاة، وأمره بأن يظلَّ في مكانه.( )