انعقد إجماع الأمة سلفًا وخلفًا على أن السَّيرَة النَّبويَّة هي الرافد المباشر والمؤثر في وجدان وكيان وثقافة الأمة بعد القرآن الكريم، ومن ثم فهي جزء رئيس من ثقافة الفرد المسلم.
ومن روائع السيرة النبوية أن الإنسان لم يكن وحده هو الهدف الذي يتحرك داخل الحدث السيري؛ وإنما أيضًا جمال المنهج الذي هو مصدر هذا التحرك وهدفه وغايته.
ويأتي في أولويات مُدارسة السَّيرَة النَّبويَّة دراسة متأنية خُلق التأسي الذي يمثل شرف الانتساب للنبي محمد ﷺ ثم بعد ذلك تُرتب تلك الأولويات حسب فقه الواقع مثل المضي نحو مرحلة فقه التمكين الذي تفتقده الأمة في وقتنا الراهن، ومن ثَم تحطيم لأنظمة الكفر وقهرها بناء على تعامل الرسول ﷺ مع تلك الأنظمة.
فمضمون مناط السيرة النبوية هو دوام الرجوع إليها لإدراك الخطأ من الصواب وهذا المقصد الغائي يتحقق بتنزيل حركة السيرة الفاعلة على الواقع ومعايشة الناس وتطبيقها تطبيقًا شرعيًا بما يتلاءم وفقه الواقع.
هذا التطبيق الحركي يصبح هو المعيار الضابط لفهم حركة التدين صعودًا وهبوطًا، وضبط أفعال الناس، وبذلك تصبح سيرة النبي ﷺ هي أساس المراجعة والتقويم، وبيان لمواقع الخلل وتحديد مواطن التقصير.
إنَّ إعادة تطبيق الفهم الحركي للسيرة النبوية في واقع الأمة هو تحقيق المعادلة الصعبة بين حب الاقتداء وصعوبة التطبيق؛ ولكي تحل هذه الإشكالية يجب فهم السيرة النبوية بالعقلية التي بناها الوحي؛ لأنه عقل تعليلي استقرائي وليس عقل مقلد رجعي.
ولا يختلف اثنان على أن السِّيـرَة النَّبَـوِيَّة هي أصل العلوم، وأنها منهج التطبيق العملي للقرآن، ولا ريب أن التعمق في فهمها وتطبيقها من أهم وسائل البناء الحضاري والتقدم والرقي، وأن إهمال دراستها، وترك التفقه في أحداثها والأخذ من معينها الذي لا ينضب، وتطبيق مراميها في الواقع، وعدم الاستفادة من صحيح أخبارها دليل على الركود الحضاري والثقافي والتخلف التقني الذي تعانيه الأمة.
فالسيرة النبوية: نهج ومنهاج عطله كثير من دعاة الإرجاء والمتأسلفة المعاصرين والجماعات الإسلامية والأحزاب التي ادعت التدين وهي موالية للطاغوت.
هذا المنهاج تم تعطيله قسرًا، فلم يقتبسوا منه سوى المظهر الخارجي الذي لم يُشكل أي وعي حقيقي، ولم يكن رافدًا من روافد الفكر في وجدان الأمة في عصرها الراهن؛ بل أورثوها جهلًا بفقه الواقع وتخلفًا وبُعدًا عن المنهج التطبيقي/ الحركي للسيرة النبوية، ولا يكون هذا التعطيل إلا بطمس متعمد من جهة تقابله غفلة شديدة من جهة أخرى، والسيرة النبوية كانت من أول ما حاولوا تشويه أحداثها ليتحقق لهم سبيل ذلك الطمس.
ولذا كانت الدعوة لإعادة ضبط السِّيرَة النَّبَـوِيَّة قراءة ومُدارسة واجبًا شرعيًا ضروريًا في عصرنا الراهن.
والسِّيـرَة النَّبَـوِيَّـة بمفهومها المتسع لعموم منهج الإسلام تعد من أعظم العلوم وأشرفها، وعلمها يجمع بين علوم الإسلام كلها؛ وذلك لأنها دعوة أُخذت منها العقيدة الصحيحة التي هي الملاذ للفرار من أبواب الشرك، ووضعت أحكامَ الفقه، وهي الترجمة الفعلية للقرآن.
ويرى المنصفون من العلماء أن إيقاظ الأمة الإسلامية يبدأ بمُدارسة السِّيـرَة النَّبَـوِيَّـة كعلم الترجمة الفعلية لمنهج الإسلام؛ فالسيرة دائمًا هي الموقظة للقلوب، وأحداثها الملهمة تساعد في فهم أحداث العالم عبر إدراكنا نحن بتغير التوجه الفكري والعقلي وحتى تغير أنماط السلوك.
والحقيقة الصادمة أن السيرة النبوية ظلت في حس المسلمين ووجدانهم عبارة عن قصص بطولية رائعة خاضها النبي العظيم مع ثلة من الرجال لم يحظ التاريخ البشري بمثلهم، وأنها تحوي مواقف تحكي عن أخلاق النبي ﷺ والطاعة العجيبة من أصحابه له. وهذا وإن كان صحيحًا إلا أنه غمط للحقيقة المحمدية الكبرى وحقيقة سيرته ﷺ، فالتركيز على هذا المعنى هو خيانة علمية ودعوية في حق أعظم رسول عرفه التاريخ كله، مما تسبب في غياب أنماط فكرية وثقافية وشرعية عن غالبية الناس فلم تكن السيرة في وعيهم قط مركزًا للفكر والوعي ومحطًا لبناء الحضارة وسببًا للنهوض من الكبوة، ساعد على استمرارية هذا الفكر عدة عوامل منها:
1- كثرة تناول السرد في المساجد من خطب ودروس دون التركيز على إيقاظ الوعي.
2- تناول كثير من الدراسات العلمية الأكاديمية تناولًا نظريًا باهتًا خاو من أي تجديد فكري وأيديولوجي.
3- كثرة انتشار كتب السيرة التي تتناول الحدث السردي فقط وقد اهتم بنشر هذه الكتب مجموعة من القابعين خلف القنوات الفضائية.
4- إهمال السيرة كمصدر فكري والتعامل معها على أنها مجرد مصدر تراثي يجب الحافظ عليه دون مساس.
5- أنها قرئت بطريقة وعظية مغرقة في العاطفة دون تفاعل حقيقي في الواقع.
وهذا العامل الأخير من أهم أسباب عدم الوعي المنتشر بحقيقة فاعلية السيرة النبوية إذ العاطفة نحو نبينا عاطفة جاهلة لم تبن على وعي وفهم حقيقي ومعرفة شاملة وإدراك لقيمة فاعليتها. فأهمية السيرة النبوية تكمُن في تطبيق حياة الرسول ﷺ من عقيدة وأحكام فقهية ومعاملات في الواقع كمعايشه فعلية لها.
ويجب أن نوضح وجود فارق بين أن نعيش حياة النبي ﷺ وبين أن نعيش عصر النبي ﷺ! فالتمني الصادر من سلفية وصوفية ومرجئة ومداخلة، والخطاب الدعوي الساذج الذي تبناه هؤلاء جعل الناس تنفصل عن الواقع، والصحيح أن الإنسان لا يتمنى مشهدًا غيبه الله عنه... فقد جاء في صحيح الآثر عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ، وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ، فَاسْتُغْضِبَ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ، مَا قَالَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَرًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُ، لَا يَدْرِي لَوْ شَهِدَهُ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فِيهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ كَبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، أَوَلَا تَحْمَدُونَ اللَّهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِلَّا رَبَّكُمْ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ بِغَيْرِكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ لِلْإِيمَانِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهَا لَلَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ (الفرقان: 74).
والصحيح أننا نريد أن نعيش حياة النبي ﷺ وليس عصر النبي ﷺ وهو ولا شك أفضل العصور.لكن كيف نحقق هذه الإرادة ونحولها إلى واقع معايش، ونحن إلى الآن لم نضع خططًا ممنهجة توضح العمق العقدي والفكري والثقافي بل والمعرفي بأن محمدًا ﷺ بدأ في مجتمع جاهلي غارق في أعماق الكفر والفسوق والرذائل ثم تم تحويله إلى مجتمع رباني؟!
ولذا جاءت هذه الدراسة لتخط نمطًا معرفيًا وزادًا ثقافيًا شرعيًا لمعرفة قدر حياة محمد ﷺ.