رغم جمال هذه المدينة التي تجمع بين الحضارة والحداثة إلا أنها تسمى بمدينة الضباب ... لندن .
شوارعها الجميلة التي تغطيها الثلوج و معالمها التاريخية الكثيرة ، وأناس من شتى الألوان والثقافات المختلفة . و ما بين غدو و رحيل ، إثنان اضطرا للسفر إليها أو على الأقل أحدهما كان مضطرا للذهاب مع الآخر .
وفي وسط هذا شاب يعزف الهارمونيكا وهو في عالم آخر بعيدا عن هذا البرود وعندما يريد الخروج من أحزانه ولا أحد يعلم لماذا هو واقفا عند المترو.
أب وإبنته الوحيدة ذاهبان لأمرين كلاهما أكثر أهمية من الآخر ، مستعدان للخروج من الطائرة إلى هذه المدينة الباردة و ما فيها.
رجل في بداية الخمسينات من عمره يرتدي معطفه البني الداكن وبنطال أسود وشعره متشحا بعض الشيء باللون الابيض مرتديا نظارته الطبية والذي بدأ بالاعتياد على ارتدائه منذ أن تجاوز الأربعين يدعى فهمي ثابت و معه شابة محجبة ذات ملامح حسنة بعض الشيء.
رغم عمرها الذي تجاوز الرابع وعشرون عاماً إلا أن ملامح وجهها ما زال محتفظا بالبراءة التي تجعل الناس يظنون أنها أصغر بكثير ، ذو عينين بنية اللون لكن من يراهما يستطيع أن يعلم مشاعرها وما تريد أن تعبر عنه إلا أنها كتومة وانطوائية بعض الشيء.
بمجرد أن خرجا من المطار نظرت ندى إلى والدها فهمي وأردفت بملل وهي ممسكة بحقيبتها : " أبي ! لم نحن واقفين هكذا ؟! ، هل هناك شيئا ما ننتظره ؟"
ابتسم فهمي لإبنته ثم نظر للطريق وأردف مازحا : " لا شيء ننتظره ، كنت افكر فقط والآن كل ما علينا الآن انتظار سيارة أجرة تقلنا من هنا إلى المترو "
يبدو أن تساؤلات ندى كثيرة لدرجة أنها تساءلت بضيق : " إلى متى يا أبي ؟! "
بعد خمس دقائق تقريبا اتجهت سيارة نحوهما ثم توقفت أمامهما ليخرج منها شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره متجها نحوهما بينما لم يجب فهمي على سؤال ابنته بل نظر إليه وهو متجها نحوه و أردف مبتسما :
" مرحباً ، هل أنت كنان الذي سيوصلنا إلى المنزل بدلا من منصور ؟ "
ابتسم كنان و تمتم قائلا : " نعم ، أنا من سيوصلكم ، أما بالنسبة لمنصور فقد أرسل اعتذاره إليك "
تعجبت ندى وسألت والدها مرة آخرى : " لماذا لم تخبرني بأن هناك من سيوصلنا إلى منزل العمة فاطمة ؟ و لماذا لم يأتي منصور ؟ "
تردد فهمي قليلا ثم أجاب متمتماً : " لم أجد وقتا مناسبا ، سأخبرك فيما بعد . لكن علينا المغادرة "
أردف كنان خجلا : " عذرا ، آنسة . لكن منصور لم يستطع المجيء ؛ لإنشغاله بعمل مهم جدا لذلك كلفني بتوصيلكما "
اتجه السيد فهمي بنظره إلى كنان وقال بإمتنان : " لا عليك يا بني ، شكراً لك على هذا "
تبسم كنان واشار احتراما لهما نحو سيارته مردفا : " إذاً ، تفضلا معي لأوصلكما بسيارتي "
...
أثناء القيادة تحدث كنان إلى السيد فهمي عن مواضيع كثيرة بينما تنشغل ندى بالنظر من نافذة السيارة يكاد الإرهاق يغلق عينيها ، لم تكترث بهذا الحديث الدائر رغم أنه ليس من عادتها ذلك لكن ... فقط تريد النوم .
بعد مسافة طويلة بين المحادثة والصمت وصل الجميع إلى حي نيوهام ، أنه الحي المنشود الذي عاش فيه الأستاذ فهمي مدة طويلة منذ انضمامه لمنحة دراسية جعلته يظل فيها حتى قرر العودة إلى مصر وبعدها الزواج وانجاب ابنته ندى .
يخرج الأستاذ فهمي من السيارة ناظرا إلى البيت الذي كان يسكن فيه وقت بعثته وأخذ في استرجاع ذكرياته إلى أن قاطعته ابنته ندى مردفة وتكاد تكون كلماتها قد سقطت من فمها من شدة التعب :
" أبي ! هيا بنا ، لا وقت للوقوف . أنني أكاد أموت من الارهاق "
لم يجب فهمي رغم سماع ما قالته ابنته تواً ، ثم تحرك بهدوء نحو المنزل الذي يقطن فيها أخته فاطمة وإبنها منصور . أما كنان فقد تحرك بجواره مردفاً بابتسامة خفيفة :
" سيد فهمي ، لقد عرفت من منصور أنك كنت تسكن هذا المنزل منذ فترة البعثة و حتى عملك ، والدي أيضاً يعمل في المجال الصيدلي "
التفت فهمي إلى كنان مردفاً بتعجب : " حقاً ؟! ربما أكون قد قابلته هنا في لندن "
أزال كنان تعجب فهمي مجيباً : " رشيد أوغلو ، إنه والدي. لكني لم أره ؛ لأنه ... توفي عندما كان عمري عامين ولم أسمع عنه إلا عن طريق والدتي و عمي . ربما تكون قابلته من قبل ، لا أعلم حقاً "
قبل أن يجيب فهمي ، قطع حديثهما حقيبة وقعت على الأرض .. إنها ندى تحاول أخذ الحقائب من السيارة متمتمة بضيق : " ألا يمكنكما التحدث لاحقاً ؟ " .
التفتت ندى إلى أبيها وأكملت حديثها قائلة :
" أبي العزيز ! ليس من عادتك تجاهلي هكذا "
صمت كنان و لم يكمل كلامه عن الموضوع بل أردف خجلاً : " آسف أني جذبت انتباه والدك دون أن أحمل عنك "
اتجه كنان إليها على الفور و قام بمساعدتها في حمل الحقائب ، بينما اتجه فهمي إليها مردفاً بابتسامة خفيفة :
" وهل حملك للحقائب تعبيراً عن امتعاضك لإنشغالي عنك للحظات ؟! ، لن تتغيري أبداً منذ أن كنت صغيرة عندما كانت سفرياتي كثيرة من أجل عملي "
رغم معرفته بتصرفات إبنته جيداً عند الغضب إلا أنه لم يدرك شخصيتها قدر إدراكه بما تفعله . تقدم فهمي إلى و قام بطرق الباب ، فتح له منصور مبتسماً له قائلاً :
" خالي العزيز ، مرحباً بك . تفضل ".
ربما كل ما يحدث لا يهم ندى في شيء فهي فقط تريد أن تنام قليلاً ، بمجرد أن سلمت على عمتها فاطمة و تحدثا ثم اتجها إلى الغرفة التي جُهِزت لها و بعدها تركتها العمة لتقوم ندى بإلقاء نفسها على السرير و تغمض عينيها لتغط في نوم عميق.
...
- أمي ! أين ذهبتِ ؟ ، أرجوكِ عودي إلي . لا تتركيني وحدي.
= لا تخافي ! فأنا في قلبك دائماً . مهما ابتعدت عنكِ ، سأظل معكِ للأبد .
- ماذا عن أبي ؟ إنه حقاً منشغل عني هذه الأيام . ماذا أفعل ؟
= أبوكِ يحبك ، لا يمكن أن ينساك أبداً . لكن احذري ! لا تجعلي إنشغاله عنكِ يثير حفيظتك تجاهه.
- كيف لفتاة أن تغضب من حبها الأول ؟ ... أبي هو كل ما تبقى لي ، لا يمكنني أن أغضب منه أبداً.
طرق بالباب أوقظ ندى من حلمها ، فانتفضت على الفور مردفة : " تفضل ! "
دخل فهمي مازحاً : " أما زالت أميرتي الصغيرة ضجِرة مني لدرجة نومك وما زلت بثيابك . لا ، بل إنك نسيت الميعاد المتفق عليه "
نظرت إلى والدها قاطبة حاجبيها ثم فركت عيونها مردفة : " ماذا تقصد يا أبي ؟ عن أي ميعاد تتحدث ؟! "
ضحك فهمي قائلا : " ميعاد دوائك المفضل و الذي هو دائما ما تحبينه بشدة لدرجة إنك تشعرين بالاشمئزاز عند ذكره كما هو الحال الآن "
تمتمت ندى بإشمئزاز : " لا تذكرني أرجوك ، لقد شفيت تماما و ما زلت تجبرني على تجرعه كالسم "
تجهم فهمي ولم يجبها ثم غادر ، لا يريدها أن تستفزه أكثر من ذلك و في نفس الوقت استغربت ندى من عدم رده كأنه يخبئ أمراً ما ولا يريد أن يخبرها به.
اتجه فهمي إلى مكتبه القديم والذي يحمل بداخل حدوده الأربعة كتباً و ذكريات قديمة كاد أن ينساها لولا ظهور شخص جعله يتذكر كل شيء بتفاصيلها.
" أنني أعاني من متلازمة الذاكرة الحديدية ، لم أعد أنسى كل أحزاني السوداء وأحلامي التي لم تتحقق "
ينظر فهمي إلى صورة قد وضعها في إحدى كتبه التي اعتاد قرائتها دائماً أثناء بعثته . هذه صورة لأربعة أشخاص تظن للوهلة الأولى أنه يعرفهم ، لكن الحقيقة أنه لا يعرفهم سوى أسمائهم فقط . وضع الكتاب عند إحدى الرفوف ثم جلس على الكرسي الهزاز وأخذ يتذكر سبب وقوع هذه الصورة في يده
...
- هل لك أن تخمن ما بداخل هذا الصندوق الأسود الصغير ؟
يبدو
= كيف لي أن أعلم يا عمران ؟!
- فهمي ! هذا الصندوق سأدعه عندك ولا تقم بفتحه إلا إذا اختفيت. هل اتفقنا ؟
= حسناً . لكن أخبرني ، كيف سأعلم إن كنت اختفيت أم إنه مجرد غياب قصير ثم تعود ؟
- لا تقلق بشأن هذا . فقط أريدك أن تخبئ هذا الصندوق في أكثر مكان تألفه ولا يمكن لأحد أن يكتشفه .بالمناسبة خذ هذا الدواء معك ! أعلم إن ابنتك ما زالت حاملة للمرض مثل أمها . لكن تذكر ! لن يزول تأثير حملها للمرض بالكامل بل إنه سيضعف فقط تأثيره.
= أشكرك كثيرا ، سأحاول بكل جهدي أن أحافظ على ما في الصندوق .
- أعلم أنك تستطيع فعل ذلك .
= هل لي بسؤال أخير قبل أن أغادر ؟
- تفضل ، اسأل .
= ما سر بقاءك هنا في هذه الجزيرة ؟ رغم كل هذه الحوادث التي وقعت فيها ؟
- ما رأيك لو كانت اجابتي إنه باعتبار تكفير ذنوب سابقة وأخرها مشروع النواة وأميرتك الصغيرة ؟
يغمض فهمي عينيه يحاول مسح كل ما يتعلق بأمر الصندوق ، تصفية ذهن لا أكثر .
أما عن كنان ، المهندس النشيط الذي قرر أن يبقى في شركة لتكملة مشروعه حتى وقت متأخر من الليل يدور في عقله أمر واحد وهو الحوار الذي دار بينه وبين فهمي محاولاً جلب المعلومات عن والده لولا مقاطعة ندى لهما.
فجأة توقف عن عمله فجأة عند سماع صوت غريب صادر من مكتب أحد المهندسين ، حاول أن يخطو بحذر مقترباً من الباب وبعدها قام بفتحه فجأة ليرى المكتب كما هو ليس به أي أثر ، لكنه فقط وجد النافذة مفتوحة ، فقام بغلقه مرة أخرى ثم خرج سريعاً واغلق الباب .
قبل أن يغادر المبنى تذكر أنه ترك الهارمونيكا خاصته في مكتبه فاضطر للصعود مرة أخرى و فوجئ بوجود رسالة على مكتبه لم يرها من قبل .
قام بفتح الرسالة ليجد بداخلها منديلاً من الحرير لونه أحمر و ورقة مكتوب فيها جملة واحدة فقط :
"هل تريد أن تعرف المزيد عن والدك ؟! .. انظر إلى هذا المنديل !"