tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

روح السياسة
من مظاهر تقدم العلم في الوقت الحاضر عدول العلماء عن الشروح البسيطة التي كانوا يكتفون بها. وما لاح لهم أنهم أدركوا حقيقته في الماضي أخذت صعوبته تبدو لهم في هذه الأيام. هذا أمر عام لم تشذ عنه المباحث في تحول حياة الشعوب، فقد أبصر المؤرخون الآن أن الأوهام في الغالب هي التي استحوذت عليهم في مباحثهم، وإن كانوا قد زعموا فيما مضى أنهم شرحوا الحوادث شرحًا صادقًا.
اليوم نرى الحادثات الاجتماعية كثيرة التعقيد وثيقة الارتباط بعيدة جدًّا من البساطة والسهولة مماثلة لحوادث الحياة الجثمانية، فيجب على العالم الذي يكدح في البحث عن النواميس التي تتحول بها الأنواع، وتتكيف أن يبحث أيضًا عن سنن النشوء الاجتماعي التي لم يعلم منها سوى القليل.
وبما أن البحث في عناصر المجتمع لم يتجاوز دائرة المزاعم الباطلة ظل الاطلاع على حقيقة الأمور ناقصًا، ولا يعبأ أصحاب العلوم النظرية بغير ما يستوقف النظر في مقادير حياة الأمم. فترى غاية التاريخ عندهم البحث في أعمال الملوك وحروبهم فقط. وقد استمر تجاهلهم حياة الشعوب والاستخفاف بها حتى الزمن الأخير.
لا يكتفي العلم الحديث بأجوبة علماء الماضي المختصرة عن الأسئلة التي تمس حياة الشعوب السياسية، ومنها: لماذا ظهرت شعوب كثيرة بغتة فملأت العالم ضوضاء وعظمةً؟ ولماذا أفل نجم هذه الشعوب بعد تلك العظمة فانقطعت أخبارها عدة أحقاب؟ وكيف تظهر الآلهة والنظم واللغات وتتحول ثم تموت؟ وهل تؤثر هذه العوامل في المجتمعات أم هي التي تؤثر فيها؟ ولماذا انتشرت بعض الديانات كالإسلام فجأة مع أن أمر ديانات أخرى لم يتم إلا في كثير من القرون؟ ولماذا عاش الإسلام بعد أن توارى سلطانه السياسي مع أن أديانًا أخرى كالنصرانية والبوذية أوشكت أن تغيب؟ لا تفوتنا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، غير أن ما يكتفي به العلم في دور حداثته من الشروح لا يرضى به في دور كهولته.
مضى العصر الذي تقود فيه الآلهة التاريخ وانقضى، وقد أفل كوكب القدرة الصمدانية اللطيفة التي كانت تسيرنا فصار الإنسان وحبله على غاربه مكرهًا على الاهتمام بمصيره بين قوى مجهولة تحيط به. وما فتئت تلك القوى تهيمن عليه وإن أخذ يتدرج إلى التسلط عليها. ونعبر عن هذا التسلط المتصل بكلمة التقدم.
ولا يكفي أن يسيطر الإنسان على الطبيعة؛ فلكي يعيش في المجتمع يجب أن يعرف كيف يردع نفسه ويخضع للقوانين العامة. ومن واجبات قادة الشعوب أن يملوا على الناس هذه القوانين ويلزموهم طاعتها.
إن معرفة أساليب الحكم — أي معرفة روح السياسة — من أصعب المسائل في جميع الأزمنة ولا سيما في الزمن الحاضر حيث ثقُلت على الأمة وطأة مقتضيات الاقتصاد الناشئة عن مبتكرات العلوم والصنائع وأصبح لا تأثير للحكومات فيها. والحوادث تلجئنا إلى الاستعانة بفن السياسة، مع ما فيه من قواعد غير محققة. وللتدابير الناشئة عن هذه الحوادث أهمية عظيمة في الغالب، فقد تعاني أجيال كثيرة نتائج الخطأ الواحد، يؤيد ذلك وقائع القرن السابق الكثيرة.
والتأثير هو أهم قواعد ذلك الحكم، فمن تقدير وقت التأثير وكيفيته وحدوده يتألف فن السياسة.
•••
وبإنعام النظر في الهفوات السياسية التي حدثت في غضون التاريخ نرى أنها ناشئة عن جهل علم النفس، وكما أن الفنون والعلوم تخضع لقواعد لا يجوز نقضها كذلك قيادة الناس لها قواعد لا تخرق حرمتها، من غير أن يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة، ويصعب اكتشاف هذه القواعد بدليل أن عدد الذي صيغ منها حتى الآن قليل جدًّا.
والكتاب الحقيقي الوحيد الذي بحث في روح السياسة هو الكتاب الذي وضعه فلورنسيٌّ منذ أربعة قرون فخلد به اسمه، وهذا المؤلف مدفون تحت قباب كنيسة الصليب المقدس (سنتا كروشيا) الشهيرة في مدينة فلورنسا، فهذه الكنيسة التي هي عنوان مفاخر إيطاليا تحتوي على قبور جميلة أقيمت ذكرى لعظماء إيطاليا مثل ميكل آنجلو وغاليله ودانتي … إلخ، وقد نقشت مآثر هؤلاء بحروف من ذهب، وليس بين قبورهم غير واحد رؤي الإطناب في وصف صاحبه لا يجدي نفعًا، إذ لم ينقش عليه سوى هذه الكلمة وهي «ماكيافيلي ١٥٢٧» لا يبلغ أعلى المجد شأو هذا الاسم.
والأثر الذي من أجله استحق ماكيافيلي ذلك التاريخ المجيد الوجيز هو كتابه «الأمير» فقد تضمن هذا الكتاب قواعد سديدة في قيادة أبناء ذلك الوقت، ولو لم يختص هذا الكتاب النفيس بذلك الزمن لما ساء صيته بعد أن تطورت الأفكار والعادات، فأصبح لا يعبر عن مقتضيات هذه الأيام، ولما صار اسم (ماكيافيلي) مرادفًا للغدر والخداع.
اطلع هذا العالم الكبير بثاقب نظره على حقائق الأمور، فكان يبحث عن الممكنات لا عن الكمال، ومن يود أن يقف على درجة عبقريته ودهائه فليرجع بصره إلى ذلك العصر الزاهر الفاسد حين كانت حياة المرء لا قيمة لها عند الآخرين، وكان الناس يرون من الأمور الطبيعية أن يأخذ الرجل خمره معه عندما يذهب؛ ليتناول طعام الغداء على مائدة أحد الكرادلة أو مائدة أحد أصدقائه، خوفًا من سمه. فتفسير سياسة العصر المذكور بأفكارنا الحاضرة هو من عدم الإصابة كشرح الحروب الصليبية والحروب الدينية، وملحمة سان بارتلمي بمبادئ زماننا.
وما كان (ماكيافيلي) من أصحاب العلوم النظرية، فقد اختبر — بما تقلده من المناصب الكثيرة — سياسة بلاده العملية، وآلمته الفتن الدامية المستمرة التي استحوذت على جمهوريات إيطاليا ذات النظام النقابي، وفي سنة ١٥٠٢ شاهد دخول فلورنسا في حوزة الحكم المطلق الدائم، فاستنتج أن هذا النظام ينشأ عن الحكومات الشعبية في كل زمن. وما كان واهمًا في ذلك. فلقد أصاب جميع جمهوريات إيطاليا وأثينا وروما مثلما أصاب فلورنسا.
ومع أنه لم يبقَ لتعاليم (ماكيافيلي) العظيم من فائدة في قيادة الناس، فقد مضت أربعة قرون على وفاته دون أن يسعى أحد في تجديد أثره في روح السياسة وهي من الأمور الحاجية التي لا غنية لأولي الأمر عنها. حقًّا إن روح السياسة — وإن شئت فقل: فن الحكم — ضرورية لهم، غير أن قلة الدساتير الصريحة تلقي أزمة قيادتهم إلى اندفاعات الوقت وعدد من القواعد التقليدية المختصرة اختصارًا مخلًّا، وإدلاء مثل هذه تؤدي إلى ضلال بعض القادة، فقد جهل نابليون — وهو الخبير بأحوال الفرنسويين الروحية — مزاج الروس والأسبان الفكري فشهر عليهم حروبًا لم تعصمه مزاياه الحربية الخارقة للعادة من الفشل فيها إزاء وطنيتهم الصادقة التي لا تقهرها قوة. وقد أتى وارث اسمه الذي لم ينصح نصيحة حسنة بأغلاط فكرية في القريم والمكسيك وإيطاليا وغيرها من البلاد، فأوجب بذلك غزو العدو لبلاد فرنسا في نهاية الأمر.
ويكون قادة الناس من المطلعين على أحوال الرجال الفكرية بحكم الضرورة، فلولا علم (بسمارك) بمزاج الأفراد والشعوب النفسي لم تكف الجيوش الجرمانية لإقامة صرح اتحاد ألمانيا.
•••
لروح السياسة مقومات مختلفة أهمها: روح الأفراد وروح الجماعات وروح الشعوب، وهذه المعارف في نظر أساتذة مدارسنا شيء لا فائدة فيه، يدلك على ذلك عدم ذكرها في برامجهم، ولا علم لمدرسة العلوم السياسية بوجودها. أوليس من العجيب أن ينال الطالب فيها لقب دكتور من غير أن يسمع بمعارف هي أسس عالم السياسة الحقيقية؟
وتنحصر بضاعة رجال السياسة القصيري الباع في علم النفس في بضعة مبادئ تقليدية لا تنفع لحل المشاكل الحديثة. وقد أصبحت اندفاعات الأحزاب المتقلبة دليلهم فكثرت زلاتهم الفكرية، ومن هذه الزلات الخطرة فصل الكنيسة عن الدولة، ومنح الإكليروس استقلالًا وسلطة لم يسمح بمثلهما أشد ملوكنا كثلكة، ومنها مبادئنا في التربية المناقضة لمبادئ التربية الألمانية مع أن هذه المبادئ سر مبتكرات العلم والصناعة والاقتصاد في ألمانيا، ومنها سياسة الإدغام والتمثيل التي نطبقها على مستعمراتنا، فأوجبنا بها انحطاط هذه المستعمرات وتأخرها، وقرار الحكومة بإدخال الأشقياء في سلك الجيش بعد أن كانوا لا يقبلون إلا في كتائب خاصة خوفًا من أن تسري عدواهم إلى غيرهم، وإذعان الحكومة لأول اعتصاب قام به موظفو البريد، وسن كثير من القوانين التي زعم أنها مشبعة من حب الإنسانية، والاعتقاد الوهمي القائل: إن المجتمعات تتجدد بفعل المراسيم، وإن الأمة تتحرر من تأثير الماضي.
ولا ريب في أن العوامل المسيرة للأمة كثيرة التعقيد، ومنها العوامل الطبيعية والعوامل الاقتصادية والعوامل التاريخية والعوامل السياسية … إلخ، فهذه العوامل تُعيِّن وجهة أفكارنا وانتحاء سيرنا في نهاية الأمر؛ أي أنها تتحول إلى عوامل فكرية من حيث النتيجة.
وفي بعض الأحيان تشتد المشاكل بين الشعوب فلا يحلها غير المدفع، وحينئذ يكون الحق في جانب الأقوى، وعلى هذه الصورة حسم الخلاف بين بروسيا والنمسا وبين الترنسفال وإنكلترة وبين اليابان وروسيا، غير أنه يمكن فصل المشاكل الثانوية بأساليب نفسية بدلًا من فصلها بالحديد والنار، ولا يزدري هذه الطريقة سوى الأقوياء الذين يفوقون أعداءهم قدرةً فلا يرون — كنابليون وبسمارك — غير السيف حكمًا، وما على الأعداء آنئذ إلا أن يلتزموا جانب الصمت حتى تدق ساعة الانتقام في وقتها المحتوم.
ولا نرى أحدًا يقدر الآن على اتخاذ تلك الوسائل القاطعة، فالمحالفات بين الشعوب تحول دون استخدامها، وما من ملك تحدثه نفسه بعد الآن بأن يدعي أنه السيد الوحيد، وقد علَّمت حوادث مراكش الشعوب ماذا يكون مصيرها إذا لم تتحالف لتدافع عن نفسها.
إذًا تقع المذاكرة في أمور الحياة اليومية بين قوى متكافئة على وجه التقريب، ولعلم النفس شأن كبير ولأقطاب السياسة تأثير عظيم في حل هذه الأمور، وهذا التأثير في الوقت الحاضر أقل منه في الماضي، فالجمهور الذي يستقي معلوماته من البرقيات والتلفونات والصحف يناقش في أدق الحوادث السياسية، بينما يتبادل رجال السياسة مذكراتهم الغامضة ببطء وهذا ما يضطرهم إلى أن يجاروا الرأي العام، ويقتفوا أثره علنًا لا أن يتقدموه كما في الدور السابق.
ولا يمنعنا ذلك من القول إنَّ شأن السياسة الذي استخف به على غير حق لا يزال مهمًّا، فلقد حل بفضل المداخلات السياسية معضلات كثيرة كمسألة ضرب البارجات الروسية لمراكب الصيد الإنكليزية في أوائل الحرب الروسية اليابانية وكمشكلة الدار البيضاء، وكالاختلاف بين روسيا والنمسا في شأن الصرب … إلخ، ولو كان عندنا قبيل حرب السبعين ساسة خبيرون بحقائق الأمور ولو قليلًا ما وقعت هذه الحرب في زمن اختاره العدو، وتأخر حدوثها إلى يوم يكون لنا فيه حلفاء.
والوقوف على روح السياسة يعلِّم أولي الأمر كيف يحلون ما يعترضهم كل يوم من المشكلات، فيميزون بين الأوقات التي يلبون فيها رغبات الشعب أو يقاومونها. ومما يؤسف عليه أن هؤلاء الولاة يستصوبون تلك الرغبات أو يرفضونها حسب مزاجهم مع أن الواجب يقضي عليهم بأن يقاوموها أو يذعنوا لها حسب الأحوال، ولا شيء أصعب من معرفة ذلك في عالم السياسة، وقد يؤدي جهله إلى أسوأ النتائج، فلربما حيل دون نشوب الثورة الفرنسوية — أو اشتعالها بشدة على الأقل — لو لم يصر الأشراف سنة ١٧٨٨ على رفض مبدأ المساواة في الضرائب؛ أعني أيام الأزمة الزراعية المالية التي زادت بؤس طبقات العمال، فقد نشأ عن حقد هذه الطبقات على الأشراف فتن لم تنته إلا بتداعي أركان الماضي الطويل.
•••
استوقف نظري فقدان الكتب في روح السياسة، فكنت أرجو أن أشغل هذا الفراغ، وبعد عشر سنوات قضيتها في القيام بتجارب في الحكمة الطبيعية، ووضعت في أثنائها كتاب «نشوء المادة» اضطررت إلى ترك تلك التجارب لغلائها فاستأنفت البحث في علم الاجتماع فوددت أن أطبق المبادئ المشروحة في كثير من كتبي السابقة على السياسة، فطلبت إلى صديقي الفاضل الأستاذ (ريبو) أن يدلني على ما نشر حديثًا من الرسائل في روح السياسة، فقال لي إنه لم يؤلف شيء فيها، فاعتراني الدهش كما اعتراني منذ خمس عشرة سنة، عندما عولت على درس روح الجماعات فلم أقف على أثر للبحث عنها في أحد الكتب.
ولا تقل إنَّ كتب السياسة قليلة فقد أُلِّف منها منذ زمن أريسطوطاليس وأفلاطون عدد غير يسير، وإنما كان واضعوها في الغالب من أرباب العلوم النظرية الذين لم يعرفوا غير ما رأوه في منامهم من أشخاص وهمية، فمن العبث أن نطمع في العثور على شيء من علم النفس وفن السياسة في كتبهم.
فقدان الكتب المدرسية في مثل هذا الموضوع وعدم تدريسه يثبتان لنا أن فائدته لا تزال خافية على المطالعين، ومن الضروري أن نوضِّحها في كتاب يبحث في روح السياسة.
قلت آنفًا إن مقومات روح السياسة هي روح الأفراد وروح الجماعات وروح الشعوب ودروس التاريخ، وكثير منها صار معروفًا، إلا أنها لم تكن البناء نفسه، فالسياسة — بحسب ما توصلنا إليه من المعرفة في الوقت الحاضر — هي التوفيق بين السير والحركة وبين مقتضيات الوقت معقولة كانت أم غير معقولة، وقد يقول العقل إن تقاليد الشعب الإرثية ومعتقداته باطلة، ولكن السياسي الحقيقي لا يناهضها لعلمه أنه لا طائل تحت ذلك، وهو في سيره على عكس أرباب العلوم النظرية الذين يعتقدون — لجهلهم حقائق الأمور — أن العقل سيحكم العالم ويحول الرجال. نعم إن العقل يهيئ بالتدريج العوامل التي تتحول بها نفوسنا، غير أن تأثيره المباشر ضعيف جدًّا، والأمور التي تتحول به بغتة قليلة إلى الغاية.
ومع أن فن السياسة لا يزال في دور الشك والتذبذب فإن قواعده تزداد كل يوم وضوحًا، ولا تثبت قيمة هذه القواعد بصوغها بل ببيان ما ينشأ عن جهلها من النتائج الوخيمة، وسيكون إيضاح ذلك من مقاصد هذا الكتاب.
والمبادئ التي اتخذناها دليلًا لنا تقتضي تفصيلًا لا يسعه صدر هذا السفر، فعلى القارئ أن يطالعها في كتبي السابقة، وقد صرفت همي في هذا الكتاب إلى تطبيق قواعد روح السياسة على حوادث العصر الحاضر وحدها، ومع قصر هذا الدور يجعلني اتساع الموضوع، الذي طرقنا بابه أكتفي في الغالب بملاحظات وجيزة فيه، فدرس شأن روح السياسة في تاريخ الأمم وفي تكوين معتقداتها وفي الحروب التي تتألف من مجموعها لحمة ماضيها يقتضي تخصيص مجلدات كثيرة، ولما في مباحث روح السياسة من جفاف قد يهول القارئ فيستنفد وقته سعيت جهدي في اجتناب الصيغ المدرسية، وفي إفراغ المبادئ في قالب تستمرئه النفوس.
•••
يثبت الفصل الذي خصصناه للبحث في عوامل الإقناع ما للتكرار من الشأن العظيم، فاعتقادي فائدته يدفعني أحيانًا إلى تكرير الشيء الواحد بتعبيرات مختلفة، وإني لأسف على كون ضيق المقام يمنعني من الإكثار منه، ولم يبالغ نابليون بقوله إن التكرار مظهر البلاغة الأساسي؛ لأنه من أشد عوامل الإقناع تأثيرًا، وقد اطلع جميع أقطاب السياسة على سلطانه القوي، فبه استطاع إمبراطور ألمانيا أن يقنع رعيته بضرورة الإنفاق على إنشاء أسطول حربي عظيم.
وإذا كان التكرار ضروريًّا لنشر الحقائق المعروفة، فلزومه لإذاعة الحقائق الحديثة أشد وأكثر، وقد جربت ذلك بنفسي عدة مرات، ولم يقدر الرسل في غضون القرون الماضية على تحويل أفكار الناس ومعتقداتهم إلا بتكريرهم الأمور تكريرًا متصلًا، ثم إن طريقة الإقناع الحقيقية تختلف عما جاء في الكتب اختلافًا تامًّا. فالعقل والبرهان يفيدان في إثبات القضايا العلمية يؤثران قليلًا في تكوين معتقداتنا، ولا يسلم الناس بالآراء لصحتها، بل يسلمون بها عندما تستولي — بفعل التكرار والعدوى الفكرية — على دائرة اللاشعور التي هي علة السير فينا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.