tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

مقتضيات الاقتصاد ونظريات السياسة
تأثير الصور والخيالات التي تحدثها الأخبار في النفس ضئيل جدًّا، والإنسان لا يستطيع أن يتصور الأمور المجردة كما يجب إلا إذا قاسها على ما أحسه بنفسه من الأمور قبلًا. فمن شاهد معركة أو غرقًا تؤثر فيه أخبار المعارك والغرقى كلما سمع بها.
والاستدلال على الماضي بالحال تجلى لي يوم ساقتني مصادفات السياحة إلى اجتيازي بالسيارة جسر النهر الذي يفصل مدينة (هوي) البلجيكية إلى شطرين، فالضباب الكثيف الذي كان يغشى هذه المدينة اضطرني إلى الوقوف، فنزلت من السيارة وتوكأت على حاجز الجسر، وفي أثناء ذلك كنت أبصر من خلال الضباب أثرًا من المدينة ثم بدد شعاع الشمس هذا الضباب فبدا لي عالمان — وإن شئت فقل مظهرين متقابلين من مظاهر العمران البشري — شطرهما النهر، وما كنت لأحتاج إلى إعمال الفكر كي أرى أول وهلة أن أحدهما يتوعد الآخر، وأنه لا يرجى التوفيق بينهما لشدة تباينهما، فعلى الضفة اليسرى مبانٍ قديمة يشرف عليها قصر فخم متين وكتدرائية جليلة زينتها الأجيال والقرون، وعلى الضفة اليمنى جدران مصنع واسع لصنع الآجُرِّ وتعلوه مداخن طويلة تقذف دخانًا أسود ذا لهيب، ويخرج في أوقات معينة من أحد أبوابه رجال غلاظ ذوو عيون غائرة ووجوه متكرشة تتفصد عرقًا. فهؤلاء الناس — وهم أحفاد أجداد استعبدتهم الآلهة والملوك — لم يغيروا سادتهم إلا ليكونوا عبادًا للحديد.
يخضع ذانك العالمان لعوامل متباينة تباين الآمال التي تبذرها في النفوس، فالأول وهو عالم الماضي لا نزال نعاني عزائمه على رغم موته، والثاني هو عالم الحال حافل بالأسرار لما يحمل بين ثناياه من مستقبل مجهول، ولقد وجد الحال والماضي في كل زمان، وبينهما هوة يملؤها إيمان مشترك ومشاعر متجانسة، وقد غابت المشاعر وزال الإيمان في هذه الأيام، فلم يبق غير البغضاء المتأصلة بين الغني والفقير، ولما تدرج العمال في زماننا إلى التحرر من ربقة المعتقدات، وروابط الماضي الاجتماعية أخذوا يصيرون أكثر تجبرًا من ذي قبل مهددين الحضارة باستبدادهم الجامع الذي سوف يجعل الناس يأسفون على استبداد أقسى الجبابرة، وهم الآن يملون أوامرهم على المشترعين كما يملي السيد أمره على أجيره ولا يقابلهم هؤلاء المشترعون إلا بتملقهم ومداراة أهوائهم، وهكذا نرى قوة العدد تحل الآن محل الذكاء أكثر منها فيما سلف.
إن الحياة السياسية عبارة عن توفيق المرء بين مشاعره وبين البيئة التي تكتنفه، وتحول طبيعة الإنسان ببطء يجعل هذه المشاعر قليلة التحول مع أن البيئة الحديثة تتحول بسرعة تابعة تقدم العلم والصناعة المستمر، ولما أخذت البيئة تتحول مسرعة على هذا الوجه صعبت ملاءمتها، فنشأ عن ذلك ما نشاهده اليوم من الارتباك والتذبذب.
يختلف الزمن الحديث عن الزمن القديم بأفكاره وطرق معايشه، فلا تشتق مقومات الحياة الجديدة التي تقودنا من البراهين العقلية المجردة، ولا تتكيف حسب آمالنا ومبادئنا المنطقية بل هي نتيجة مقتضيات الزمن التي نعانيها دون أن يكون لنا شأن في تكوينها، ولا يختلف الزمن الحالي عن الماضي بما فيه من المزاحمة والتنازع، فالحرص الثابت الذي لا يتغير هو مصدر المزاحمة والتنازع، وإنما يختلفان باختلاف عوامل تحول الشعوب، وإليك البيان:
يتصف هذا الوقت بحلول سلطان العوامل الاقتصادية فيه محل سلطان الملوك والقوانين، ثم بتبادل المنافع بين الشعوب التي كان بعضها منفصلًا عن البعض الآخر.
لتبادل المنافع الحديث أهمية كبيرة، فالأمم التي كانت لا تربطها في الماضي روابط التجارة لا تقدر اليوم على العيش من غير أن تتعاون، فلو أحيطت إنكلترة بسور عالٍ وزال اتصالها بالعالم الخارجي حيث تقايض بمصنوعاتها ما تحتاج إليه من المواد الغذائية لضربت المجاعة بسرعة أطنابها فيها، ومن نتائج طرق المعايش في الوقت الحاضر نستدل على أنه كلما حول تيار الصناعة والتجارة حياة الشعوب أصبح شأن الحكومات أقل منه في الماضي، وقد شعرت الحكومات بعجزها إزاء هذا التيار فأخذت تتبعه غير مؤثرة فيه.
كان الملك منذ ستين سنة ذا حول وطول فاستطاع تطبيق نظام حرية المبادلة في مملكته، وأما اليوم فلا أحد يجرؤ على محاولة ذلك؛ لأن نظام الحماية — وقد استنكره أكثر علماء الاقتصاد — هو مما ترغب فيه شعوب هذا الوقت الذي أدت الضرورات فيه إلى انهماك ولاة الأمور بالحال دون المستقبل.
وفي الغالب نرى أن هؤلاء الولاة يأخذهم الوهم في نتائج مداخلاتهم، فقد صرح الموسيو (ميلين) في جلسة مجلس الشيوخ المنعقدة في ١١ مارس سنة ١٩١٠ أن نظام حرية المبادلة قضى على زراعة إنكلترة، فأوجب نقصانًا في محاصيل قمحها بلغ خمسين في المئة في نصف قرن، مع أن نظام الحماية في فرنسا أدى إلى زيادة محاصيلها، فصارت تصدر القمح بعد أن كانت تستورد منه مقدارًا لا يستهان به، وإننا على خلاف ما ذهب إليه هذا العالم الاقتصادي الشهير نقول إن تلك الزيادة نشأت عن تقدم الزراعة في فرنسا تقدمًا فنيًّا. وإذا كان الإنكليز لم يأتوا بمثل هذا التقدم؛ فلأنهم رأوا صنع السلع وبيعها ثم اشتراء ما يحتاجون إليه من القمح في الخارج ببعض ثمنها أفيد من اهتمامهم بأمور الزراعة.
وسواء أمفيدًا كان نظام الحماية أم مضرًّا فبيانه خارج عن موضوعنا، وفي عالم السياسة الحاضر لا يبحث عن الأحسن بل عن السهل، ولم يكن أحد في هذه الأيام من القوة والسلطان بحيث يلزم أحد البلاد تطبيق النظام الذي لا يرغب فيه، وإذا أخطأ شعب في تقدير ذلك يقاسي نتائج خطئه، والتجربة هي التي تدله عليه في نهاية الأمر.
ومما تقدم تتبين درجة اختلاف العوامل الحاضرة عن عوامل الماضي، ونطلع على قلة تأثير نظريات السياسة في تحول الشعوب، فمن مبتكرات العلم والصناعة وعلائق الأمم بعضها ببعض تظهر عوامل لا بد للشعوب والملوك من الخضوع لها.
قلنا إن مقومات الحياة الاقتصادية كناية عن ضرورات لا مناص للشعوب من ملاءمتها، والآن نضيف إلى هذه الضرورات الطبيعية ضرورات مصنوعة يأتي بها أرباب العلوم النظرية في السياسة والحكومات:
لم يستطع علماء الحياة — على رغم تذرعهم بجميع الوسائل التي في مختبراتهم — أن يحولوا أي نوع من ذوات الحياة، والتغيير السطحي الخفيف الذي يؤدي إليه فن تربية الحيوان واهٍ قصير الأجل، فهل تحويل المجتمع أسهل من تحويل ذوات الحياة؟ لقد سير الجواب الإيجابي عن هذا السؤال سياستنا، منذ أكثر من عصر ولا يزال يسيرها، فإمكان تجديد المجتمعات بسن الأنظمة الجديدة عد من البديهي عند رجال الفتن والثورات في كل عصر، ولا سيما عند زعماء الثورة الفرنسية والاشتراكيين في زماننا، وكل يطمع في تجديد المجتمعات حسب خطط يمليها العقل النظري.
غير أن العلم كلما تقدم ظهر فساد ذلك الاعتقاد، فالعلم باستناده إلى علم الحياة وعلم النفس والتاريخ يثبت أن تأثيرنا في المجتمع ضئيل إلى الغاية، وأن الانقلابات الأساسية لا تتم إلا بفعل الزمان، وأن الأنظمة ليست سوى ظرف خارجي لروح باطنية، وأنها تشبه اللباس الذي يناسب جسمًا دون أن يقدر على تكوينه، وأن الذي يلائم شعبًا قد لا يلائم شعبًا آخر.
لا ننكر شأن النظم والرجال في سير الحوادث، فكل صفحة من صفحات التاريخ تدل على عظمه، وإنما يبالغ التاريخ في تقدير أهمية ذلك الشأن غير ملاحظ أن النظم والرجال هي في الغالب عبارة عن توسع ماضٍ طويل، وأنها إذا لم تظهر في الوقت المناسب تكون ذا عمل مخرب كعمل الفاتحين.
والقول بأن روح الشعب تتبدل بتبديل نظمه وقوانينه أصبح عقيدة، فسنحارب هذه العقيدة في مواضع مختلفة من هذا الكتاب، وقد ظلت الأمم اللاتينية مثابرة عليها فكان ذلك سبب ضعفها، فأوهامها في قدرة الأنظمة دفعتنا إلى إيقاد أعظم ثورة دامية عرفها التاريخ، وأدت إلى قتل ملايين كثيرة من الرجال، وإلى انحطاط مستعمراتنا انحطاطًا محزنًا، وإلى انتشار الاشتراكية بيننا انتشارًا خطرًا.
وما استطاع شيء أن يزعزع تلك العقيدة الهائلة، فلا نزال نطبقها بدقة على سكان مستعمراتنا الذين ألقاهم طالعهم السيئ بين أيدينا لنعاملهم بما يزيدهم بغضًا لنا وتمردًا علينا، وقد نشرت الصحف مؤخرًا مثالًا على تلك السياسة العمياء بنقلها بضع عبارات من المنشور الذي نشره حاكم شاطئ العاج على موظفيه، فأوجب به عصيان هذه المقاطعة وقتل كثير من الضباط وسوق جيش من فرنسا لإعادة النظام.
يثبت المنشور المذكور عجزنا العضال عن العلم بأن روح الشعوب لا تتغير بقوة المراسيم، وأن الأنظمة التي تنفع أمة قد تضر أخرى، فإليك بعض ما جاء فيه: «يجب أن يتقدم سكان مستعمراتنا على رغم أنوفهم، وما عجز عنه الإقناع والدليل من التأثير فيهم فالقوة تفعله، ألا فليغير الزنوج مزاجهم النفسي ليفقهونا، فلا تعاملوهم بمقتضى العاطفة، ولنضرب برغباتهم عرض الحائط، ولنمضِ في عملنا غير وجلين حتى نصل إلى الغاية المنشودة، ولا نخشى نتائج عملنا وإن احتقرْنا عاداتهم المنافية لكل رقي.»
وعندي أنه يجب تغيير أفكار الحكام الإداريين الذين يجرؤون على إذاعة مثل ذلك المنشور قبل تغير أفكار الزنوج، وقد نال حاكم تلك المقاطعة الذي «لم يخشَ نتائج عمله» درسًا صارمًا من الحوادث التي وقعت، ولكن فائدة هذا الدرس لم تعم، فمن خصائص المعتقد أنه لا يتبدل بالبرهان والتجربة، ولا فرق في ذلك بين المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية، وإن كان أجل هذه أقصر من أجل تلك.
•••
تقدُّم علم النفس في الوقت الحاضر يثبت لنا ما للعقل من الشأن الضعيف في نظام المجتمعات ومعتقداتها وسيرها وإن زعمت جميع الحكومات أنها تستند إليه في أعمالها. وقد بينت في كتاب «الآراء والمعتقدات» أن للمنطق — خلافًا لما جاء في كتب الفلسفة المدرسية — أنواعًا تختلف عن المنطق العقلي اختلافًا تامًّا، نذكر منها المنطق الديني والمنطق العاطفي على الخصوص، ولا يعبر بأحد تلك الأنواع عن الآخر مطلقًا، فأما المنطق العقلي فهو ركن المعارف ولا سيما العلوم، وأما المنطق العاطفي والمنطق الديني فعليهما تقوم المعتقدات؛ أي عوامل السير والحركة في الأفراد والشعوب. ويسيطر المنطق العقلي على دائرة الشعور حيث تفسر أعمالنا، وفي دائرة اللاشعور — حيث يهيمن المنطق العاطفي والمنطق الديني — تنضج البواعث الحقيقية لهذه الأعمال.
سذاجة رجال الإصلاح التي لا حد لها تمنعهم من أن يدركوا أنَّ الأنظمة لا تقوم على أدلة عقلية، غير أن هذه الحقيقة بدت في هذه الأيام لأقطاب السياسة الإنكليزية، فقد صرح حديثًا أحد وزراء بريطانيا في البرلمان بأن أعظم ما يمتاز به دستور إنكلترة عدم قيامه على العقل والبرهان، هذا هو سر قوة ذلك الدستور، والسبب في ضعف دساتير فرنسا الكثيرة الناشئة عن ثوراتنا التي أوقدناها منذ قرن هو قيامها على ما يقتضيه العقل النظري.
وهذا البيان لا تستمرئه نفوس اللاتين فلا يجدي الإسهاب فيه نفعًا، وإني أكتفي بأن أذكر أن ما تتألف منه لحمة حياة الأمة من ديانات وحكومات لم يقم على الأدلة والبراهين، وأن شأن أقطاب السياسة ينحصر في معرفة مداراة المشاعر للتأثير في الرأي العام. نعم تدل الظواهر على أنهم يؤثرون بما في خطبهم من المعقول، ولكن سوف نرى أن للإقناع منهلًا آخر، فالجماعات لا تتأثر من انسجام الخطب المنطقي أبدًا، بل مما تورثه بعض الكلمات في نفوسهم من صور عاطفية، وإذا سلمنا بأن الخطبة العقلية الخالصة قد تقنع النفس، فإن هذا الإقناع لا يدوم طويلًا ولا يكون باعثًا على السير والحركة.
•••
ولكن بأي شيء نوضح الانقلابات الأساسية التي نشأت عن المبادئ العقلية السائدة للثورة الفرنسوية، إذا لم يكن المنطق العقلي هو الذي يقود الرجال، ويؤدي إلى تحول معتقداتهم؟
قبل أن نثبت أن هذا التناقض ظاهري نقول إنه لم يكن للثورة الفرنسوية عالم نظري من أرباب التأثير والنفوذ سوى (جان جاك روسو)، وأما تأثير (مونتسكيو) الذي كان عظيمًا في البداءة، فلم يلبث أن صار ضئيلًا إلى الغاية، ثم كان هذا الأخير يسعى على الخصوص في إيضاح النظم الاجتماعية الموجودة خلافًا لروسو الذي اقترح إقامة مجتمع جديد، وقد اعتقد (روسو) — المتهوس الحليم — أن الإنسان كان سعيدًا أيام كان على الفطرة فأفسدته النظم، وصار شقيًّا، وأن من الصواب تبديل تلك النظم، واعتقد أيضًا أن التفاوت مصدر كل عيب في المجتمعات، وأن البغضاء بين الغني والفقير علة الشقاء فيها فقال بضرورة السيادة الشعبية لمعالجة ذلك، وهذا ما حاول أتباعه تحقيقه بوسائلهم المعهودة عندما أثارتهم مقاومة الملك والأشراف والإكليروس فقبضوا على زمام الأمور.
ولم ينقضِ تأثير (روسو) بانقضاء الثورة الفرنسوية، فلقد أصاب الموسيو (لانسون) حيث قال: «إن التقدم الذي تيسر للديمقراطية والمساواة والانتخابات العامة واضطهاد الأقليات، ورغبات الأحزاب المتطرفة ومناصبة الثروة والتملك منذ قرون يلائم ما جاء في كتابه»، وسنرى أن (روسو) بالحقيقة حجة يحتج بها أكثر منه ملقنًا موحيًا.
والسرعة التي انتشرت بها مبادئ (روسو) أيام الثورة الفرنسوية تستوقف النظر، فقد طلب في العرائض العامة التي عرضتها أكثرية الفرنسويين على الملك سنة ١٧٨٩ إلغاء الامتيازات الإقطاعية، وسن قوانين ثابتة وعدالة متماثلة … إلخ، أي ما حققه نابليون في قوانينه على وجه التقريب، وإذا لم يطالب الناس فيها بإبطال الملكية؛ فلأن الملكية كانت محترمة عند الجميع، على أن المبادئ المذكورة — ومنها إلغاء الملكية — تم لها النصر بعد ثلاث سنوات عندما قضى دور الهول على جميع ما أنكرته.
إذًا هنالك تناقض بين بياننا أن عمل المبادئ العقلية قليل في سير الحوادث، وبين تأثير هذه المبادئ السريع في أثناء الثورة الفرنسوية، وإنا نزيد هذا التناقض بأن نقول إن الناس في كل جيل مسيرون بمبادئ قليلة تكونت ببطء، وأن تلك المبادئ لم تبعث على السير والحركة إلا بعد أن تحولت إلى مشاعر.
والواقع أنه لا أساس لهذا التناقض على رغم ظاهر أمره، فإذا تأصلت مبادئ أرباب العلوم النظرية في عهد الثورة الفرنسوية بسهولة في روح الجموع؛ فلأنها قديمة العهد لا لأنها حديثة، فالمبادئ الثورية لم تفعل غير دعمها بقوة القوانين ما كان موجودًا قبلًا من مطامع ورغبات قد تكبحها مقتضيات الاجتماع، أو تلطف جذوتها دون أن تطفئها.
سلم الشعب في العهد السابق بسلطة الملوك وبالتفاوت في المعايش وقتما اقتضى كيان المجتمع القديم ذلك، وصار الناس يعدون هذين المبدأين أمرًا طبيعيًّا، ولكنه حينما جاهر أولو الأمر الذين كانوا يستمدون نفوذهم من الملوك أن الشعب هو الحاكم الحقيقي، وأن استبداده ينبغي أن يحل محل استبداد الملوك، وأن التفاوت في الثروة ظلم، وأنه يجب توزيع أموال سادته السابقين على أفراده؛ آمن الشعب بصحة هذه المبادئ بحماسة، وأضحى يعتبر كل من يحول دون تحقيقها عدوًّا يستحق القتل. ولو أن حكومة في الوقت الحاضر سنت قوانين تتيح القتل والنهب مستندة إلى أقوال بعض الفلاسفة لجمعت في الحال عددًا لا يستهان به من الأشياع، وهتفوا لها كما هتفوا للحكومة التي أمرت بالاستيلاء على أموال اليسوعيين كي تقسم بين العمال والأصدقاء، غير أن تطبيق مثل هذه المبادئ قصير المدى، فالناس لا يلبثون أن يدركوا — كما أدركوا بعد بضع سنين من نشوب الثورة الفرنسوية — أن الخراب لا الغنى هو الذي يعقب الفوضى، وحينئذ تبحث الأمة مثلما بحثت في تلك الثورة عن حاكم مطلق نشيط قادر على إنقاذها من براثن الارتباك وقلة النظام.
•••
كثيرًا ما يأخذ الناس الوهم في فائدة شأن الحكومات وحدود هذا الشأن غير عالمين أن الحكومات قلَّما تأتي بالخير وكثيرًا ما تأتي بالشر، وليس علينا أن ندافع اليوم عن أنفسنا إزاء مقتضيات الاقتصاد الشديد وحدها، بل إزاء إفساد المشترعين الذين يضعون الأنظمة والقوانين بتأثير اندفاعات الوقت كما سنبين ذلك، ومن أعمالهم القوانين الاجتماعية التي تعوق الصناعة من غير أن تؤدي إلى إثراء أحد، ومنها القوانين التي تقيد تعلم الحرف فتوجب طرد صغار الصناع من المعامل وتحويل عدد غير يسير منهم إلى لصوص وقتلة، كما تدل على ذلك زيادة الجرائم التي يقترفها الأولاد، ومنها الاضطهادات الدينية المتوالية ونزع مال الإكليروس، ومنها القوانين الجمركية التي سوف تقضي على تجارتنا الخارجية لما توجبه من مقابلة الأجانب لها بمثلها، وهلم جرًّا. فهذه القوانين التي منشؤها قصر النظر لم تكن سوى مصائب مصنوعة أضيفت إلى آلامنا الطبيعية التي ترانا مكرهين على احتمال وطأتها.
ولا يخطرن ببالك أننا نود أن نخاصم العقل في هذا المقام، بل نريد أن نبين ضلال أولئك المشترعين الذين يستعينون به على تغيير مجرى الحوادث التي لا سلطان له عليها، فالعقل قوام العلم والمعارف فقط، وإنما المشاعر والمعتقدات هي التي تقود الناس وتكون التاريخ.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.