خذ بيدي — أيها القارئ الكريم — شرقيًّا كنت أو غربيًّا، ولنخطُ خطوة واسعة في عالم الخيال، نترك في أثناءها مصر وطني وبلادي العزيزة، واهبط بنا في صميم أوروبا، ثم اصعد معي حسبما شاءت إرادتك في (بالون) أو طيارة هوائية.
دع مطيتنا ترتفع ارتفاعًا هائلًا في الجو حتى نتمكن من استعراض القارة الأوربية كلما نتمثلها على الخرائط الجغرافية إذا تيسر لنا كل ذلك، فالْقِ بنظرك على ذلك العالم الشرير الذي يطلقون عليه اسم المدنية والحضارة، وابحث في مخيلتك عن اسم (بولاندا)، تلك المملكة التي كانت تتقلب في نعيم الحرية والاستقلال، فقلب لها الدهر ظهر المجن، وتركها سليبة السعادة والهناء.
أتعرف بماذا ابتُلِيَت؟
انقض عليها الدب الروسي، وفغر فاه، وازدرد ثلثها بجشعه الاستعماري، فنَكَّلَ بها وجرعها كؤوس الظلم والاستعباد الأشعبي ووحشيته المتناهية.
ومن ثم انحط عليها النسر الألماني؛ فانتشل بمخالبه الحادة نصف ما تركه سابقه.
وبعد ذلك، أتعرف ماذا جرى؟ تجرأت النمسا؛ فمدت يدها الأثيمة فسلبت ما بقي من ذلك الهيكل المقدس، وراحت بولاندا التعسة ضحية أعداء الإنسانية.
مُحيت بولاندا من خريطة العالم السياسي، وعفت آثارها، ولكنها لم تُمحَ من قلوب أبنائها المخلصين العاملين لاسترداد وحدتها.
إيه أيها الإنسان! ما أشد كفرك وجحدانك! ماذا؟ أهل ضاقت بك بلادك الرحبة وأراضيك الواسعة؛ فصوبت سهام انتقامك إلى أخيك الإنسان لتسلبه ما له؟ وتسرقه حياته حتى زهد الحياة ورغب في الموت؟ وأخذ يردد قول الحكيم: «ما أجمل الحياة لولا لؤم الإنسان!»
فيا أيها القارئ الكريم الصاعد معي ليرى ما فعلته يد الإنسان بأخيه الإنسان، بل ليرى ما اجترمته يد الظلم والعدوان، لا، أستغفر الله، بل ليرى فظائع الجشع الاستعماري ومنتهى سفالته.
إذا ذكرت الممالك المسكينة التي قضت عليها أحكام الدهر ومشيئة الزمن أن تموت وتعدم فاذكر بولاندا في أولها.
اللهم رفقًا أنك تنزل الخلق من رحم أمهاتهم أحرارًا، فيأتي من فسد من عبيدك ويستبد بهم ويريهم الموت عيانًا، ويكيل لهم بصاع الظلم حتى يزهق أرواحهم.
فاهدهم يا رب العالمين، إنهم كانوا من الضالين.