hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

بينما كنت أنعطفُ مُسرعًا نحو الجادة الخامسة، قادمًا من أحد الشوارع المتقاطِعة معها،
قبل الخزان القديم، في تمام الساعة الحادية عشرة والربع من مساء يوم السادس من
نوفمبر عام ١٨٧٩ ، اصطدمتُ بشخصقادم من الاتجاه المعاكس.
كانت الظلمة حالكة في ذلك المنعطَف، لم يتسنَّ لي أن أرى شيئًا من الشخص الذي
كان لي شرفُ الاصطدام به. ومع ذلك، فإن ممارسةً سريعة لما اعتاده عقلي من تفكير
استقرائي أمدَّتْني بعدد من الحقائق الواضحة المعالم بشأن الرجل، قبل أن أفُيق تمامًا من
صدمة المواجهة.
من بين تلك الحقائق أن الرجل كان أسمنَ مني، وذا ساقين أكثر صلابة، لكنه
أقصرمني بثلاث بوصات ونصف البوصة بالضبط. كان يرتدي قبعة من الحرير، ورداءً
أو عباءة مصنوعة من صوفٍ ثقيل، وجرموقًا أو حذاءً واقيًا من المطاط. كان في حوالي
الخامسة والثلاثين من عمره، مولودًا في أمريكا، متعلِّمًا في جامعةٍ ألمانية، إما هايدلبيرج
وإما فرايبورج، سريع الغضب بطبعه، لكنه مهذَّب ويُراعي مشاعر الآخرين عند تعامله
معهم. لم يكن على وئامٍ تامٍّ مع المجتمع؛ ثمة شيء في حياته، أو في مسعاه الحالي، كان
راغبًا في إخفائه.
كيف عرفتُ كل ذلك وأنا لم أرَ الغريب، ولم يُفلتْ من بين شفتَيه إلا كلمة واحدة من
مقطع واحد؟ حسنٌ، عرفتُ أنه أسمنُ مني وذو ساقين أكثرصلابة لأنني أنا من نكصعلى
عقبيه، لا هو. وعرفتُ أنني أَطوَل منه بثلاث بوصات ونصف البوصة فقط لأن طرف أنفي
كان ما يزال مقشعرٍّا من جراء ملامسته حافةَ قبعته الصلبة الحادة. وقد رفعتُ يدي دون
الرجل الشفاف
قصد، فدخلتْ تحت حافة ردائه. عرفتُ أنه كان يرتدي حذاءً مطاطيٍّا لأنني لم أسمع وقْع
خطواته. وبالنسبة إلى أذُن متنبهة؛ فإن المؤشِّرات الدالة على العمر تتَّضح في نغمة الصوت،
كمثل اتضاحها للعين في خطوط الوجه. وفي لحظة غضبه الأولى من حماقتي، دمدم بكلمة
أي ثور) وهو تعبير لم يكن ليَصدُر في مثل هذا العصرإلا من ألماني. ومع ذلك، ) «! أوُكس »
فإن نطق الحرف الحلْقي نبَّأني بأن المتحدث ألماني من أصل أمريكي وليس أمريكيٍّا من
أصل ألماني، وأنه استقى تعليمه الألماني في جنوب نهر الماين. علاوةً على ذلك، فإن النبرة
الدالة على أنه رجل محترم ومتعلِّم كانت جَليَّة، حتى في تعبيره عن غضبه. لم يكن الرجل
المحترم متعجِّلًا، ولكنه لسببٍ ما كان حريصًا على أن يظلَّ مجهولًا؛ هذا ما استنتجتُه من
واقع أنه بعد إصغائهصامتًا إلى اعتذاري المهذَّب انحنى ليلتقط مظلتي ويُعيدها إليَّ، ومضى
مثلما أتى، بلا ضجة.
من المهم بالنسبة لي أن أتحقق من صحة استنتاجاتي كلما أمكنني ذلك؛ لذا عدتُ إلى
مَفرق الطرق لأتبع الغريب باتجاه مكانٍ مُضاء بمصباح داخل المربع السكني. يقينًا، لم
أكن متخلِّفًا عنه بأكثر من خمس ثوانٍ، ولم يكن هناك طريق آخر يُحتمل أن يكون قد
سلكه، ولم يُفتح بابُ منزلٍ أو يُغلق على امتداد الطريق. ومع ذلك، حينما دخلنا في دائرة
الضوء، لم يظهر الكيان الذي كان مفترضًا أن يكون أمامي مباشرة. لا الرجل ولا ظله كان
مرئيٍّا.
ركضتُ بأقصىسرعة ممكنة نحو مصباح الغاز التالي، وتوقَّفت لبرهة تحت المصباح
وأصغَيت. كان من الواضح أن الشارع خالٍ، وكانت الأشعة الصادرة من الشعلة الصفراء
لا تضيء إلا جزءًا يسيرًا من الظلام. وعلى الرغم من ذلك، فإن المنزل المبني بالحجر البُنِّي
المواجه لمصباح الشارع، كانت بوابته ودرجات سُلَّمه مُضاءةً على نحوٍ كافٍ. كانت الأرقام
المُذهَّبة أعلى الباب واضحة. عرفتُ المنزل؛ إذ كان الرقم مألوفًا. وبينما وقفتُ منتظرًا تحت
مصباح الغاز، سمعتُ صوتًا خافتًا على درجات السلَّم، وصوت إدارة مفتاح في قفل. فُتح
الباب الخارجي للمنزل ببطء، ثم صُفقَ بعنف مُثيرًا ضجة تردَّد صداها في الشارع. وعلى
الفور تقريبًا، تبع ذلكصوتُ فتح الباب الداخلي وغَلْقه. لم يخرج أحد. وحسبما رأت عيناي
اللتان أثق في قدرتهما على رصد حدثٍ على بُعد عشر أقدام فقط وفي إضاءة كافية، فإن
أحدًا لم يدخل.
انطلاقًا من فكرة أنه كان ثمة مادة شحيحة تصلُح لتطبيقٍ دقيق لعملية الاستقراء،
وقفتُ ردحًا من الزمن أخُمِّن بتهوُّرٍ الفلسفةَ الكامنة وراء ذلك الحدث العجيب. راوَدَني

ذلك الشعور الغامضبأن الحدَث عصيٌّعلى التفسير، بما يصل إلى حدِّ إثارة الفزع. وكان
من المريح أن أسمع وقْع أقدامٍ على الجانب المقابل من الطريق، فالتفتُّ لأرى شرطيٍّا يهزُّ
هراوته السوداء الطويلة وينظر إليَّ.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.