hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

وصلت الحكاية إلى نهايتها. جلستُ أفكر لوقت طويل. ماذا عساي أفعل؟ ماذا عساي
أقول؟ بأي صورة عساي أواسيهذا الرجل التعيس؟
كان فلاك، الذي لا يُرى، ينتحب بمرارة.
إن الأمر عسير، عسير، عسير! من غير جريرة في أعين الناس، » : كان أول من تكلَّم. قال
ومن غير خطيئة في نظر الرب، حُكم عليَّ بمصيرٍ أسوأ من الجحيم بعشرة آلاف مرة. كُتب
عليَّ أن أطوف في الأرض، رجلًا، حيٍّا، مبصرًا، محبٍّا، مثل باقي الرجال، بينما بيني وبين
كل ما يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش حجابٌ قائمٌ إلى الأبد. حتى الأشباح لها أشكال. إن
حياتي لَموتٌ حي، إن وجودي لنسيٌمنسي. لا صديق يمكنه أن ينظر في وجهي. لو ضممتُ
إلى صدري المرأة التي أحب، فلن يثير ذلك غير ذُعر لا يُمكن وصفه. إنني أراها كل يوم،
أمسُّ تنورتها بينما أمر بجانبها على الدَّرج. هل أحبَّتني؟ هل تحبُّني؟ ألن تجعل معرفةُ
الإجابة تلك اللعنةَ أشد قسوة؟ ورغم ذلك، فإن الرغبة في معرفة الحقيقة هي ما جعلتني
«. آتي بكَ إلى هنا
بعدئذٍ ارتكبتُ أكبر غلطة في حياتي.
«. ابتهج! لطالَما أحبتكَ باندورا » : قلت
بالانقلاب المفاجئ للطاولة، علمت بأي عنفٍ قفز فلاك من مكانه. ثم أحكمت يداه
قبضتهما على كتفيَّ بقوة.
أجل، ما زالت باندورا وفيةً لذكراك؛ لا داعي للقنوط. لقد مات سر » : أكملتُ قائلًا
عملية فرولِكر معه، ولكن لمَ لا يُعاد اكتشافه بالتجريب واستنباطه من جديد، مع العَون
الذي يمكنك تقديمه؟ تَحلَّ بالشجاعة والأمل. إنها تحبُّك. في غضون خمسدقائق، ستَسمع
«. ذلك من فمها هي شخصيٍّا
لم أسمع قطُّصرخة ألمٍ تعدل في شدة إثارتها للشفقة نصفصرخة الفرح الجياشة
التي أطلقها.
هُرعتُ إلى الطابق السُّفلي واستدعيتُ الآنسة بليس إلى الرواق. ببضع كلمات شرحتُ
لها المسألة، ولدهشتي، لم يُغشَ عليها، ولا انتابتْها نوبة من الهستيريا. قالت لي بابتسامة
«. بالطبع، سوف أرُافقك » : لم أستطع تفسيرها حينئذٍ
تبعتْني إلى غرفة فلاك، وتفحَّصت بهدوء كل ركن من أركانها، دون أن تفارق
الابتسامة الثابتة وجهها. لو أنها دخلت إلى قاعة حفل راقص، لم تكن لتظهر رصانة أعظم

من تلك. لم تُظهر أي اندهاش، ولا أي ارتعاب، حينما قبضَت على يدها يدان خفيتان،
وأمطرتها بالقبلات شفتان خفيتان. أصغت بهدوء إلى سيل الكلمات المحبَّة والمُهدهِدة التي
صبَّها صديقي السيئ الحظ في أذنيها.
مرتبكًا ومضطربًا راقبتُ المشهد العجيب.
سرعان ما سحبَت الآنسة بليس يدها.
حقٍّا، سيد فلاك، أنت تَمتلك قدرة قوية على التعبير عن » : قالت مع ضحكة خفيفة
«؟ مشاعرك. هل اكتسبتَ هذه العادة في أوروبا
«. باندورا! إنني لا أفهم » : سمعتُه يقول
ربما تحسب هذا أحد امتيازات حالة خفائك. دعني أهنئكَ على » : تابعتْ بهدوء قائلة
نجاح تجربتك. يا له من رجل ماهرٍ أستاذك — ما اسمه؟ — لا بد من أنه كذلك. يمكنك
«. أن تجني ثروة من وراء عرضك لنفسك
هل هذه هي المرأة التي ظلَّت لشهور تستعرضحزنها الذي لا سلوى له، لفقدها هذا
الرجل نفسه؟ شعرتُ بالذهول. مَن عساه يَضطلع بمهمة تحليل دوافع امرأة لعوب؟ أي
علم لديه القدرة الكافية للكشف عن أهوائها المتطرفة؟
باندورا! ما الذي يَعنيه هذا؟ لماذا تُقابلينني بهذا » : صرخ مرةً أخرى بصوتٍ ذاهل
«؟ الأسلوب؟ هل هذا هو كل ما لديك لتقوليه لي
أعتقد أن هذا هو كلشيء. أنت رجل محترم، » : أجابت ببرود وهي تتحرَّك نحو الباب
«. ولستُ بحاجة إلى أن أطلب منك أن تُعفيَني من أي مضايقات أخرى
إن قلبكِ مصنوع من الحجر. أنتِ لا » : همستُ بينما مرَّت بي في طريقها للخروج
«. تستحقِّينه
جلبت صرخة فلاك اليائسة كاسبر إلى الغرفة. بالسليقة التي اكتسبها عبر خدمته
الطويلة والمُخلِصة، اتجه الرجل العجوز مباشرةً إلى المكان الذي كان فيه سيده. رأيته
يقبض على الهواء، كما لو أنه يتعارك مع الرجل غير المرئي أو يحاول الإمساك به. قُذف
به جانبًا بعنف، تمالك نفسه ووقَف لحظة شاحب الوجه وقد مدَّ عنقه مصغيًا، ثم اندفع
خارجًا من الباب ونزل الدرج، فلحقتُ به.
كان باب المنزل المُطِلُّ على الشارع مفتوحًا. تردَّد كاسبر على الرصيف لبضع ثوانٍ.
وأخيرًا اتجه غربًا، راكضًا في الشارع بذلك القدر من السرعة الذي واجهتْنيصعوبةً قصوى
في مجاراته فيه.

كان الوقت قريبًا من منتصف الليل. عبرنا جادة تلو الأخرى. تفوَّه كاسبر العجوز
بهمهمة غير واضحة تعبِّر عن الرضا. وعلى بُعد مسافة قصيرة منا، رأينا رجلًا يقف عند
إحدى زوايا الجادة، وفجأة طُرح أرضًا. أسرعنا الخطى، ولم نتمهَّل على الإطلاق، كنتُ
حينئذٍ قد سمعتُ وقْعَ أقدام على مسافة قصيرة تتقدَّمنا. تشبَّثتُ بذراع كاسبر، وأومأ
برأسه.
مقطوعَ الأنفاس تقريبًا، وعيتُ أننا لم نعُد نطأ طريقًا ممهدًا، بل كنا نطأ ألواحًا
خشبية محاطين بالأخشاب المُبعثَرة، ولم يعد هناك أضواء أمامنا؛ بل فراغ أجوف فقط.
وثب كاسبر وثبةً واحدةً عظيمة. حاول القبض على شيء ما، وأخطأه، وسقط مرة أخرى
مُطلقًا صيحة رعب.
ثم سمعنا صوت ارتطام خافت بمياه النهر الحالكة السواد الواقعة تحت أقدامنا.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.