هذا المنزل ذو اللون البُنِّي الشبيه بالشوكولاتة، الذي انفتح بابه الأمامي وانغلق في منتصف
الليل دون علامات تدلُّ على فاعل بشري، كان — كما قلتُ آنفًا — معروفًا بالنسبة لي. كنتُ
قد غادرته منذ ما لا يزيد عن عشر دقائق، بعد تمضيَة المساء مع صديقي بليس وابنته
باندورا. كان ذلك النوع من المنازل الذي يُعَد كل طابق فيه بيتًا كاملًا في ذاته. سكن بليس
الطابق الثاني، أو بالأحرى الشقة الثانية، منذ عودته من الخارج؛ أي منذ اثني عشرشهرًا.
كنتُ أحمل تقديرًا لبليس، لخصاله الطيبة، غير أن تفكيره غير المنطقي وغير العلمي، على
نحوٍ مؤسف، يستدعي عميق أسفي، وكنتُ مغرمًا بباندورا.
افهموا من فضلكم أن إعجابي بباندورا بليس كان يائسًا، وليس يائسًا فقط، بل كان
مستسلمًا ليأسه. في دائرة معارفنا، كان هناك اتفاق ضمني على أن الوضع الاستثنائي
للمرأة الشابَّة، بصفتها مرتبطة بذكرى حُبِّها، يجب احترامه في كل وقت وحين؛ لذا فقد
كنا نحبُّ باندورا حبٍّا هادئًا، بلا شغف، بل بما يكفي لإرواء شعورها بجاذبيتها ودلالها،
من غير أن نُزيل الذبول الذي يُغلِّف قلبها المحروم. ومن جانبها، فقد ألْزمتْ نفسها بآدابٍ
سلوكية؛ فلم تكن تتنهَّد تنهُّدًا عميقًا حين تتحدَّث بدلال، ولطالما أبقت تغنُّجها تحت
السيطرة؛ بحيث تستطيع أن تضع حدٍّا له كلما تداعت ذكريات الغرام الحزينة.
كان يَجدر بنا أن نقول لباندورا إنها مَدينة لشبابها ولجمالها بأن تطوي صفحة
الماضي، وأن نحثَّها باحترام على أن تمضيَقُدُمًا في عيش الحاضر. أمَّا ما لم يكن يجدر بنا،
فهو أن نلحَّ في الأمر بعدما أجابتْنا مرةً بأن ذلك من المستحيلات.
لم يكن من المعروف تمامًا بالنسبة لنا تفاصيل الحدث المأساوي الذي اختبرته
الآنسة باندورا في أوروبا. كان من المفهوم، بصورة ضبابية، أنها وقعَت في الحب وهي في
الخارج، وأفسدت الأمور مع حبيبها؛ مما جعله يختفي، تاركًا إياها جاهلةً بمصيره، ودائمة
الندم على تصرفاتها المتقلِّبة. بالرجوع إلى بليس، جمعتُ بضع معلومات متفرِّقة، لكنها
ليست متماسكة بما يكفي لتكوين فكرة عن تاريخ الحالة. لم يكن هناك سبب يدعو إلى
الاعتقاد بأن عشيق باندورا قد أقدم على الانتحار. كان اسمه فلاك، وكان رجلَ علمٍ، وكان
— حسب رأي بليس — أحمق. وحسب رأيه أيضًا، كانت باندورا حمقاء لتَذوي بسببه.
حسب رأي بليس، كان العلماء كلهم حمقى بطريقة أو بأخرى.