hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

كان الصوت ذا نغمة مألوفة، تعرَّفتُ عليها باعتبارها نغمة الصوت الذي سمعتُه في الشارع،
ليلة السادس من نوفمبر، حينما دعاني ثورًا.
كلَّا، لستُ متوتِّرًا. إنني رجلُ علم، معتادٌ على النظر إلى جميع الظواهر باعتبارها » : قلتُ
قابلة للتفسير باستخدام القوانين الطبيعية،شريطة أن نستطيع اكتشاف تلك القوانين. لا،
«. لستُ خائفًا
رجلٌ جريء، » — وهنا تأوَّه الصوت — « ذلك أفضل كثيرًا. أنت رجلُ علم، مثلي » : قال
«. وصديقٌ لباندورا
اعذرني، ما دام اسم سيدةٍ قد ذُكر، فسيكون من الجيد أن أعرف مع » : قاطعتُه قائلًا
«؟ مَن، أو مع أيشيء أتحدَّث
هذا بالتحديد ما أرغب في التحدُّث بشأنه، قبل أن أطلب منك أن تُسْديَ » : ردَّ الصوت
إليَّ خدمة عظيمة. اسمي هو، أَو كان، ستيفن فلاك. إنني، أَو كنتُ، من مواطني الولايات
المتحدة. أما حالتي الدقيقة في الوقت الحالي، فهي على قدرٍ كبير من الغموضبالنسبة إليَّ،
«. مثلما قد تكون بالنسبة إليك. لكنني رجلٌ صادقٌ ونبيل، أو كنتُ كذلك. وأنا أمدُّ لك يدِي
لم أرَ أي يد، ومع ذلك مددتُ يدي إلى الأمام، فلاقت ضغطة من أصابعَ حيةٍ دافئة.
الآن، تكرَّمْ بقراءة المقطع الذي » : تابعَ الصوتُ بعد اتفاقية الصداقة الصامتة تلك
«. فتحتُ عنده الكتاب الموضوع على الطاولة
وإليكم ترجمة تقريبية لما قرأتُه بالألمانية:
بما أن لون الأنسجة العُضوية، التي يتكوَّن منها الجسم، يعتمد على وجود عناصر
تقريبية معينة من الدرجة الثالثة، جميعها يحتوي على الحديد بصفته أحد العناصر
الأساسية؛ فإن اللون قد يتدرَّج تبعًا لتغيرات كيميائية-فسيولوجية محدَّدة؛ فزيادة نسبة
الهيماتينفي كريات الدم، تمنح جميع الأنسجة لونًا أكثر حُمرة، والميلانينالذي يُلوِّن الغلاف

المشيمي للعين، والقزحية، والشعر، يمكن زيادته أو تقليله تبعًا لقوانينَ وضَعَها حديثًا
شارت من بازل. وفي البشرة، زيادة الميلانين تُسبِّب السُّمرة، وقِلَّته تسبب المَهَق. فالهيماتين
والميلانين، بالإضافة إلى البيليفيردين الأصفرِ المُخضرِّ، واليوروكاسين الأصفر المُحمرِّ، هي
المواد المُلوِّنة، التي تمنح الأنسجة خصائصها اللونية، ومن دونها تكون الأنسجة شفافةً أو
شبه شفافة. يؤسفني بشدة عدم قدرتي على تسجيل النتائج الخاصة بإحدى أكثر التجارب
النسيجية إثارةً للاهتمام، التي أجراها ذلك الباحث الدءوب فرولِكر، الذي نجح في إيجاد
طريقة لفصل التلوُّن الوردي في الجسم البشري، بوسائل كيميائية.
لمدة خمسسنوات، تتلمذتُ » : حين انتهيتُ من القراءة، أكمل مرافقي غير المرئي قائلًا
على يد فرولِكر، وعملتُ مساعدًا له في المختبَر في فرايبورج. بالكاد خمَّن بوسيس أهمية
تجاربنا. وقد توصلنا إلى نتائج مُدهشة للغاية، إلى حدِّ أن السياسة العامة اقتضَتضرورة
عدم نشرها، حتى داخل المجتمع العلمي. وتُوفيِّ فرولِكر منذ عام، في أغسطس الماضي.
كنتُ واثقًا في عبقرية هذا المفكِّر العظيم والرجل المُثير للإعجاب. لو أنه كافأ ولائي غير
المشروط بإيلائي الثِّقة الكاملة، لَمَا كنتُ الآن تعِسًا بائسًا. لكنَّ تحفُّظه الفطري، والحرص
الذي يَحمي به العلماءُ كلهم نتائجَهم غير المثبتة، أبقياني جاهلًا بالمعادلات الأساسية التي
تحكم تجاربنا. وبصفتي تلميذه، فقد كانت التفاصيل المختبرية الخاصة بالعمل مألوفة
بالنسبة إليَّ، لكنَّ المعلِّم وحده من استحوذ على السر الجوهري. وكان عاقبة ذلك أن حَلَّت
بي بليَّة أكثر فظاعةً مما حل بأي إنسان، منذ اللعنة الأولى التي أصابت قابيل.
في البداية كانت جهودنا موجَّهة إلى زيادة وتنويع كميات المواد الصبغية في الجسم
البشري. فمثلًا، بزيادة نسبة الميلانين المنقولة عبر الغذاء إلى الدم، أمكنَنا تحويلُ رجل
أبيض إلى أسمر، ورجل أسمر إلى شديد السواد كالأفارقة. لم يكن تقريبًا ثمة تدرجات
لونية لا نستطيع منحها للبشرة عبر تعديل وتنويع تركيباتنا. عادةً ما كانت التجارب تُختبَر
عليَّ. في أوقات مختلفة كنتُ نحاسيَّ اللون، وبنفسجيٍّا، وقرمزيٍّا، وأصفر كروميٍّا. وفي أحد
الأسابيع المشهودة كان جسدي يعرضكل ألوان الطيف. وما زال يوجد شاهدٌ على الطبيعة
«. المثيرة التي تميَّز بها عملنا في خلال تلك الفترة
توقَّف الصوت قليلًا، وبعد بضع ثوانٍ قُرع جرسيَدوي، فوق رف المدفأة. وفي الحال
دلف إلى الغرفة رجل كبير السن، ذو قلنسوة مُحكَمة على رأسه.
«. كاسبر، أرِ السيد المحترم شعرك » : قال الصوت بالألمانية
1دون إبداء أي اندهاش، وكما لو أنه معتاد على تلقي أوامر موجَّهة إليه من الفراغ،
انحنى الرجل العجوز، ونزع قبعته. كانت خصلات شعره المتناثرة التي كشف عنها ذات
لون أخضرزُمرُّديٍّ لامع؛ عبَّرتُ عن ذهولي.
السيد المحترم يرى أن شعرك جميل جدٍّا. هذا كل شيء » : قال الصوت بالألمانية أيضًا
«. يا كاسبر
انصرفالرجل، وهو يعيد ارتداء قُبَّعته وقد ارتسمت على وجهه نظرة خُيلاء وامتنان.
كاسبر العجوز كان يخدم فرولِكر، وهو الآن يخدمني. تم إخضاعه لواحد من أوائل »
تطبيقاتنا العملية. كان الرجل الفاضل فرحًا للغاية بالنتيجة، إلى حدِّ أنه لم يسمح لنا قطُّ
بإعادة شعره إلى لونه الأحمر الأصلي. إنه شخص أمين، وهو وسيطي وممثلي الوحيد في
العالم المرئي.
والآن، إلى قصة كارثتي. عالِمُ الأنسجة العظيم الذيشرَّفني التعامل معه، حوَّل محور
اهتمامه التالي إلى فرع بحثي آخر، لكنه أكثر إثارة للاهتمام. حتى ذلك الحين، كان سعيه
مقتصرًا على زيادة المواد الصبغية في الأنسجة، أو تعديلها. أما بعد ذلك فقد شرع في
سلسلة من التجارب التي تخص إمكانية إزالة هذه المواد نهائيٍّا من الجسم، عن طريق
الامتصاص، والترشيح، واستخدام الكلوريدات والعوامل الكيميائية الأخرى التي تؤثر على
المواد العضوية. واستطاع أن يحقِّق نجاحًا ساحقًا!
ومرةً أخرى خضعتُ لتجارب أشرف عليها فرولِكر، الأمر الذي جعلني على دراية
بالكثير من أسرار هذه العملية؛ إذ كان ذلك حتميٍّا. لأسابيع متواصلة، بقيتُ في مختبره
الخاص، لا أرى أحدًا ولا يراني أحد، ما عدا البروفيسور وكاسبر المأمون الجانب. تابع
السيد فرولِكر عمله بحذر، وهو يُراقب عن كثب أثر كل اختبار جديد، ويتقدم درجات. ولم
يحدث قط أن ذهب بعيدًا في تجربةٍ ما إلى الحد الذي لم يستطع معه الانسحاب عندما يقرر
ذلك؛ إذ كان دائمًا يُبقي الباب مفتوحًا للتراجع بسهولة؛ ولهذا السبب، شعرتُ بالاطمئنان
التام بين يدَيه، وأذعنتُ لأوامره أيٍّا ما كانت.
وتحت تأثير العقاقير المبيِّضة، التي منَحها لي البروفيسور إلى جانب بعضالمطهِّرات
القوية، أصبحت في البدء شاحب اللون، ثم أبيض، ثم عديم اللون كالأمهق، لكن دون أن
تُصاب صحتي العامة بسوء. بدا شعر رأسي ولحيتي شبيهًا بخيوط الزجاج، وبدا جلدي
كالرخام. كان البروفيسور راضيًا عن النتائج التي حصل عليها، ولم يذهب حينئذٍ إلى أبعد
من ذلك. وأعادني إلى لوني العادي.

في التجربة التالية وما تلاها من تجارب، سمح للعوامل الكيميائية بإحكام سيطرتها
بقدرٍ أكبر على أنسجة جسمي. لم أصُبح أبيضكرجلٍ منزوع اللون فقط، بل أصبحتُ شبه
شفاف بعضالشيء، كشخصمن البورسلين. ومرةً أخرى، توقَّف لبعضالوقت، معيدًا لي
لوني ومفسحًا المجال لي للاندماج في العالم. وبعد شهرين، أصبحتُ أكثر من شِبْه شفاف.
تعرف تلك الشعاعيات البحرية؛ الميدوسا أو قنديل البحر، التي تكاد خطوطها تكون غير
مرئية للعين؟ حسنٌ، أصبحتُ في الهواء كما القنديل في الماء. أصبحتُ شفافًا تمامًا، حتى
إن كاسبر العجوز لم يستطع اكتشاف مكاني في الغرفة حينما أتى ليُحضِر لي الطعام،
إلا بالتحري الوثيق. كان كاسبر هو من يُلبِّي لي احتياجاتي في الأوقات التي كنت معزولًا
«. فيها
ولكن ملابسك؟ لا بد أنها تتعارَضبشدة مع الهيئة » : قاطعتُ حديث فلاك متسائلًا
«. الباهتة لجسدك
آه! لا، إن مرأى طقم فارغ من الملابسيتحرَّك في محيط المختبر، كان غريبًا » : قال فلاك
للغاية، حتى بالنسبة إلى البروفيسور الوقور. ومن أجل حماية وقارِه، اضطُرَّ إلى ابتكار
طريقة لتطبيق الأمر نفسه على المواد العضوية غير الحية، مثل الصوف المُكوِّن لعباءتي،
والقطن الخاصبقمصاني، وجلد أحذيتي. وهكذا أصبحتُ مجهَّزًا بالملابس الملائمة لي.
كانت هذه المرحلة من التطور الذي أحرزناه، حينما كدنا نتوصَّل إلى الشفافية التامة،
ومن ثم الخفاء التام، هي المرحلة التي قابلتُ فيها باندورا بليس.
قبل عام، في يوليو الماضي، وفي إحدى فترات الراحة في تجاربنا، وفي وقتٍ كنتُ أظهر
فيه بمظهري الطبيعي، ذهبتُ إلى منطقة الغابة السوداء لاستعادة عافيتي. رأيتُ باندورا
للمرة الأولى وأعُجبتُ بها، في بلدة زانكت بلازين الصغيرة. كانوا قد أتوا من شلالات الراين،
وكانوا مسافرين باتجاه الشمال؛ لذا غيَّرتُ وجهتي وسافرتُ شمالًا. في نُزُل ستيرن أحببتُ
باندورا، وعند قمة فيلدبيرج تُيِّمتُ بحبِّها بجنون. وفي وادي هولينباس كنتُ على استعداد
للتضحية بحياتي من أجل كلمة عطف تَنطِق بها. وعلى جبل هورنسجرايند سألتها السماح
لي بأن أقذف نفسي من فوق قمة الجبل إلى مياه بحيرة موملزيه العميقة، لكي أثُبِتَ لها
إخلاصي. أنت تعرفباندورا، وبما أنك تعرفها فلا حاجة لي إلى الاعتذار عن التنامي السريع
لافتِتاني بها. لقد غازلَتْني، وضحكتْ معي، وضحكتْ مني، وركبتْ معي، ومشت معي
في شعاب الغابات الخضراء، وتسلقتْ معي مُنحدَرات شديدة الانحدار؛ ما جعل التسلق
معًا بمثابة احتضان لذيذ ممتد، وتحدثتْ معي بشأن العلم، والعواطف، وأصغت إلى آمالي

وشغفي، وانتهرتْني، وعامَلتْني ببرود، وجنَّنتْني، وكل ذلك حسب مزاجها الحلو، وكل ذلك
بينما كان والدها ذو الشخصية العملية غافلًا في مقاهي الفنادق وهو يقرأ أعمدة المال في
أحدث صحف نيويورك. أما ما إذا كانت قد أحبَّتني أم لا، فهو ما لا أعرفه حتى اليوم.
حين علم والد باندورا بحقيقة مساعيَّ وآمالي، ساق ملحمتنا الشعرية القصيرة إلى
نهاية مفاجئة. أعتقد أنه صنَّفني في مرتبةٍ ما بين المشعوذين المُحترِفين والأطباء الدجالين.
شرحتُ له بزهوٍ أنني سأصير — ولا بد — مشهورًا، وعلى الأرجح ثريٍّا. علَّق بابتسامة
ورحل «. حينما تُصبح مشهورًا وثريٍّا، سيسرُّني أن أراك في مكتبي في شارع برود » : واسعة
بباندورا إلى باريس، وعدتُ أنا إلى فرايبورج.
وبعد مُضيِّ بضعة أسابيع، وفي عصر يومٍ مُشرق من أيام شهر أغسطس، وقفتُ في
مختبر فرولِكر، خفيٍّا عن أعين أربعة أشخاص كانوا يَقفون داخل دائرة، نصف قطرها
بطولِ ذراعي. كان كاسبر خلفي يَغسل بعضأنابيب الاختبار، وكان فولِكر يُحدِّق باهتمام
إلى المكان الذي عرف أنني فيه ولا بد، وقد ارتسمَت على وجهه ابتسامة فخر. وكاد أستاذان
شقيقان استُدعيا لسببٍ ما أن يدفعاني بمرفقَيهما وهما يتناقشان حول مسألة تافهة
لا أعرفها. كان من الممكن أن يسمعا صوت قلبي يخفق. سأل أحدهما إذ همَّ بالمغادرة:
بلَغ هذا الاختبار «؟ بالمناسبة، سيدي البروفيسور، هل عاد مُساعدك السيد فلاك من إجازته »
حدَّ الكمال.
وبمجرد أن أصبحنا على انفراد، قبضالبروفيسور فرولِكر على يدي غير المرئية، مثلما
قبضتَ أنت عليها الليلة. كانت معنوياته مرتفعة.
يا صديقي العزيز، غدًا يُتوَّج عملنا. سوف تظهر — أو بالأحرى لن تظهر » : قال لي
— أمام لفيفٍ من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة. لقد أرسلتُ برقيات تحمل دعوات
إلى هايدلبيرج وبون وبرلين. سيأتي شروتر وهيكِل وستاينمتس ولافالو. سيكون إنجازنا
ماثلًا أمام أرفع علماء الطبيعة المعاصرين. حينئذٍ سوف أكشف عن أسرار عمليتنا التي
كتمتُها حتى الآن، حتى عنكَ أنتَ يا زميلي وصديقي المؤتمن. لكنَّك سوف تشاركني المجد.
ما هذا الذي أسمعه عن عصفورة الغابة التي طارت؟ يا بُني، سوف تستعيد لونكَ وتذهب
«. إلى باريس لتطلبها، وبحوزتك الشهرة بين يديك، وبركات العلم في رأسك
في الصباح التالي، في التاسع عشر من أغسطس، وقبل أن أنهض من سريري النقال،
دخل كاسبر إلى المختبر على عجل.
سيد فلاك! سيد فلاك! لقد مات السيد الدكتور البروفيسور إثر » : قال وهو يلهث
«.« سكتة دماغية
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.