في المساء الذي يشبه العتمة التي طالما سيطرت على حياة تلك المسكينة التي تخطت العشرين بقليل، جلست أمام مكتبها الصغير مثلها تنتحب بكل ما أوتيت من عزم حتى إن عينيها العسليتان الواسعتان قد ضاقا وغلبت عليهما حمرة النار المشتعلة بداخلها طوال الوقت وابتلت رموشها الطويلة التي تزين هذا الوجه الأبيض المستدير فثقلت جفونها حاملة كل هذا الألم الكامن بداخلها، أخذت تعلو أنفاسها وتتسارع إلى أن بدأت في الهدوء بعد مرور ما يقرب إلى ساعة، اعتادت هي البكاء كلما ثقُلت همومها وتزايدت على صدرها وطرقت فوق أطراف رأسها فلا تجد ملجأ لها ولقلبها سوى الدموع التي تغسل ولو قليل من الشوائب التي تعكر دواخلها.
جففت دموعها بعدما اكتفى حزنها ونهضت من فوق مكتبها، صعدت فوق الفراش بهدوء وما زال عقلها غارق في أفكاره لا يجد برًا أبدًا.
«"إلى متى؟ إلى متى سيستمر كل هذا المرار؟ إلى متى تظل حياتي كالمسلسل المعاد، أراه مرة ويعاد، بينما المرة الأولى في عرض خاص يقتلني قبل العرض الرسمي، إلى متى سأظل بهذه الدوامة التي لا مناص منها!"».
لم تستطع التخلص من طرق عقلها حتى أنقذها النوم عندما سقطت فيه بغتة دون إنذار على الرغم من أنه لم يكن أبدًا مهربًا لها.
* * *
تهرول خائفة ذات اللباس الأبيض، يتراقص شعرها فوق ظهرها، تخلع حذائها فتصير أقصر، تلقيه بعيدًا وتكمل مسيرتها في هذا الطريق المظلم، تركض وتركض وصراخها يعلو مع استماعها صوت والدها يدوي ويتكرر:
«كارمن.. كارمن، كارمن.»
تبحث في كل مكان وتتسارع أنفاسها وتَصيح:
«بابا، أنت فين يا بابا؟»
تتضعضع أعصابها كلما سمعت صوته ولم ترَه، كلما صرخت باسمه ولم يجيبها، ثقل جسدها وارتخت أعصابها وفقدت كل حواسها عندما انتهت الأرض من تحتها بذلك البئر العميق الذي وقعت فيه.
* * *
انتفضت مستيقظة من نومها فزعًا، نهضت من فراشها مسرعة راكضة خارج الغرفة قاصدة غرفة أمها وهي تصيح غير مصدقة:
«ماما، الحقيني.. بابا، كلمي بابا.»
انتبهت الأم ناظرة لها بفزع متحدثة باهتمام ممزوج بقلق:
«ليه! في إيه؟ فَهِميني!»
بكت في صمت ثم هتفت ودموعها تنهمر على وجنتيها:
«بابا مش هيرجع.»
نظرت لها بصدمة غير مستوعبة ما تقوله ثم قالت بنبرة مرتفعة قلقًا على زوجها:
«أنتِ بتقولي إيه؟
أنتِ أتجننتِ!»
ابتسمت بألم كمن اعتاد تلك المصائب وأجابتها بفتور:
«هتشوفي، أنا بس كان نفسي أشوفه واحضنه.»
أنهت عبارتها وهي تغادر الغرفة في صمت، همت الأم واقفة كي تلحق بها ولكنها دلفت إلى غرفتها مسرعة وأغلقت الباب بإحكام من الداخل ثم جلست فوق فراشها محتضنة جسدها الضعيف منفجرًا قلبها في انتحاب صامت حتى أنهك روحها، وأمها خارج الغرفة تحاول فتح الباب ولكن لا حياة لمن تنادي.
سرعان ما قطع تلك الضوضاء الناتجة عن أمها صوت رنين هاتف الأخيرة، ذهبت نحوه وأمسكت به متأملة ذلك الرقم الذي لم ترَه من قبل ثم ردت بهدوء، وسرعان ما تسارعت دقات قلبها عندما سمعت صوت المتصل:
«السلام عليكم.. منزل السيد/ أحمد مرتضى؟»
استجمعت قوتها وأجابت مرتجفة:
«أيوة، وأنا زوجته، مين معايا؟»
«أنا أسف جدًا، بس زوج حضرتك عمل حادثة على الطريق الصحراوي وهو دلوقتي في المستشفى وحالته خطر.»
صاحت بصدمة وبدأت أطرافها في الارتعاش، وبعد محاولة فاشلة من المتصل لتهدئتها أخذت عنوان المشفى وأغلقت الهاتف، وقفت في صمت ذاهلة قبل أن تلاحظ وجود ابنتها أمام باب غرفتها تنظر لها نظرة تائهة متجمدة مستنتجة ماذا حدث، وقبل أن تنطق حرفًا سقطت "كارمن" مغشيًا عليها، صرخت الأم وهرولت نحوها في قلق وبعدما عادت إلى وعيها حاولت أمها أن ترسل لها صورة الحدث بهدوء كي لا يصيبها شيء ومن ثم استجمعتا قواتهما ونفسهما وذهبتا معًا مسرعتين نحو المشفى.
عند وصولهما جاءهما الخبر الذي كانت تتوقعه "كارمن" ولكنها لم تكن تتوقع رد فعلها الهادئ في تلك اللحظة، ولماذا لا يكن هكذا؟ إذا اعتادت هي ما يحدث.
هبطت على مقعد من مقاعد الاستراحة في صمت تعجبت منه أمها حتى ظنت أن ابنتها قد أُصيبت بصدمة أثرت على أعصابها وعقلها، ورغم إنها في وعيها الكامل بالفعل ولم تُصاب بشيءً إلا أن عقلها بعيد يتحدث بضوضاء عالية رُسمت من الخارج ثَبَات:
«"حدث بالفعل، كنت أتوقع وأثق ولكني تمنيت أن تُخذل توقعاتي، تمنيت الخسارة لمرة واحدة، دائمًا المكسب لي بمثابة خسارة كبيرة تهدمُني، أتمنى الخسارة ولو لمرة أشعر بها أنني مثلهم، مثل البشر ولستُ من عالم أخر لا أعرف ما هو! أتذكر جيدًا أولى مراتي في تلك الحالة التي لم أعي لها مسمى، أتذكر وجودي بين الأطفال أجري وأمرح وأنا.. وأنا؟»
* * *
«احدفِ الكرة، ساكتة ليه؟»
ركلت الكرة بصمت وجلست على أرض الطريق، لم تكن قادرة على تحمل رؤية مشاهد أخرى غير الواقعية التي تعيشها، هناك شيء يسيطر عليها وعلى فكرها، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تبلغ من العمر الخمس سنوات، تعيش في تلك اللحظة مشاهد مروعة، أصوات مزعجة، جلبة، جدتها في فراش الموت، يحيط بها أبنائها ويلهوا الصغار، بينما هي معهم، تراهم، لا تدري كيف؟ ولكنها معهم، ولم تزال هذه الصورة عن عينيها إلا بسماع صرخة والدتها وعندها..
* * *
«وأنا أشاهد جدتي في سكرات موتها، أرى ألمها، أرَها وأنا خارج المنزل تمامًا وأرى كل ما يحدث بالداخل حتى أيقنت أنه حقيقة، وبالفعل.. حدث! لكني لم أتمنى أبدًا أن يحدث ذلك مع والدي، لم أكن أحب أن أرَه وأعرف أنني سأفقده، ولكن لا مفر.»