اصطفَّت مجموعة من أشجار حور لومباردي أمام منزل عمة أبي جيرترود، على ضفة نهر
شيبسكوت. كانت عمتي تُشبه في المظهر، على نحوٍ مدهش، واحدة من تلك الأشجار؛ إذ
كان لها مظهرُ الشخص المُصاب بفقر الدم، الذي يميِّزه عن أقرانه الذين تجري الدماء
في عروقهم. كانت طويلة، ذات مظهر صارم، ونحيفة للغاية. كانت ملابسها مُلتصقة بها.
وأثق أنه لو وجدت الآلهة فرصةً كي تفرضَ عليها مصير دافني (التي حوَّلتْها الآلهة إلى
شجرة غار) لكانت عمتي اتخذت مكانها في يُسر وعلى نحوٍ طبيعي داخل الصف الكئيب،
لا تختلف في المظهر المُقبضعن أي شجرة حور أخرى.
بعضٌ من ذكرياتي الأولى تخص هذه القريبة المُبجَّلة. ولقد لعبت، حية وميتة، دورًا
مهمٍّا في الأحداث التي أوُشك أن أرويها: أحداث أومن أنه لا نظير لها في خبرات البشر.
خلال زياراتنا الدورية للعمة جيرترود في ماين، التي كنا نقوم بها بدافع الواجب،
كنتُ أنا وابن عمي هاري معتادَين على تخمين عمرها. هل كان عمرها ستين عامًا أم مائة
وعشرين؟ لم تكن لدينا معلومة دقيقة، فربما كان عمرها هذا أو ذاك. كانت المرأة العجوز
محاطة بأشياء عتيقة الطراز، وبدا أنها تعيش بالكامل في الماضي. وخلال الفترات التي
كانت ترحب فيها بالتواصل، والتي لم تكن تتجاوز الفترة منها نصف ساعة، أثناء تناول
قدح من الشاي أو وهي في الشرفة حيث تُرسل أشجار الحور ظلالها الرقيقة مباشرة نحو
الشرق، اعتادت عمتي أن تخبرنا قصصًا عن أسلافها المزعومين. وأقول مزعومين لأننا لم
نكن نُصدق بالكامل أن لها أسلافًا من الأساس.
الساعة التي دارت إلى الوراء
إن سلاسل النسب شيء سخيف. وإليك السلسلة الخاصة بالعمة جيرترود، في أبسط
صورها:
١٦٤٢ ) امرأة هولندية تزوَّجت لاجئًا بيوريتانيٍّا، – كانت جدة جدة جدتها ( ١٥٩٩
وأبحرت من لايدن إلى بلايموث في السفينة آن عام ١٦٣٢ ميلاديٍّا. كان لهذه المرأة المهاجرة
١٧١٨ )، وقد جاءت إلى المقاطعة الشرقية – ابنة، وهي أم جدة العمة جيرترود ( ١٦٤٠
لولاية ماساتشوستس في بدايات القرن الماضي، وأسَرَها الهنود في حروب بينوبسكوت.
١٧٧٦ ) كي ترى هذه المستعمرات حرة ومستقلة، وأسهمت في – عاشت ابنتها ( ١٦٨٠
التعداد السكاني للجمهورية القادمة بما لا يقل عن تسعة عشر ابنًا قويٍّا وفتاةً جميلة.
١٨٠٢ ) تزوَّجت ربان سفينة من ويسكاسيت شارك في – واحدة من تلك الفتيات ( ١٧٣٥
التجارة مع جزر الهند الغربية، التي أبحرت إليها. تحطمت بها السفينة مرتين في البحر،
مرة فيما يُعرَف الآن بجزيرة سيجوين، والثانية في سان سلفادور. وفي سان سلفادور
وُلدت العمة جيرترود.
كم سئمنا من سماع تاريخ هذه العائلة. ربما كان التكرار المتواصل والإلحاح القاسي
الذي تُلقى به التواريخ السابقة على آذاننا الصغيرة هو ما جعلنا متشككين. وكما قلت،
لم نكترث كثيرًا لأمر أسلاف العمة جيرترود؛ إذ بدا وجودهم غير مرجَّح بشدة. وفي قرارة
أنفسنا كانت الجدَّات وجدات الجدات محض خرافات، وكانت العمة جيرترود نفسها هي
الفاعل الرئيسيفي كل المغامرات المنسوبة إليهن؛ إذ عمَّرت قرنًا بعد قرن بينما حصد الموت
أجيالًا من معاصريها.
عند المنبسَط الأول للدَّرَج القائم الزوايا داخل المنزل كانت تنتصب ساعة هولندية
طويلة. كان ارتفاعصندوق الساعة يزيد عن ثمانية أقدام، وكان مصنوعًا من خشب أحمر
داكن، وليس من خشب الماهوجني، وكان مُطعَّمًا على نحو غريب بالفضة. لم تكن تلك
بقطعة أثاث عادية على الإطلاق. منذ نحو مائة عام ازدهر عمل ساعاتي يُدعى كاري في
بلدة برونزويك، وكان حِرَفيٍّا ماهرًا مُجِدٍّا. كان من النادر ألَّا يضم أحدُ المنازل الفاخرة
الواقعة في ذلك الجزء من الساحل إحدى ساعات كاري. غير أن ساعة العمة جيرترود
أخذت تسجل انقضاء الساعات والدقائق لقرنين كاملين قبل مولد فنان برونزويك. لقد
كانت تعمل حين اخترق ويليام الصامت السور كي يفك حصار لايدن. وكان اسم صانعها
لا يزال من الممكن تبيُّنهما مكتوبَين بحروفٍ «١٥٧٢» وتاريخ الصنع « يان ليبردام »
وأرقامٍ سوداء عريضة تمتد بعرض قرص الساعة. كانت تُحَف كاري عادية وحديثة إلى
جوار هذه القطعة الأرستقراطية القديمة. كان مرسومًا عليها في براعةٍ القمر الهولندي
الضاحك، وكانت أطواره تظهر عبر مشهد طبيعي من طواحين الهواء والأراضيالمنخفضة
المُستصلَحة. كما حفرت يد ماهرة الحلية المُقبِضة الموضوعة أعلى الساعة، رأس الموت
المثبتة بسيف مزدوج الشفرة. وشأن كل ساعات القرن السادسعشرلم يكن بهذه الساعة
بندول، بل كان بها ميزان بسيط من طراز فان ويك يحكم هبوط الأثقال إلى أسفل
الصندوق الطويل.
غير أن هذه الأثقال لم تكن تتحرك مطلقًا. وعامًا بعد عام، حين كنت أعود أنا وهاري
إلى ماين، كنا نجد عقربَي الساعة القديمة يُشيران إلى الثالثة إلَّا رُبعًا، كما كانا يُشيران
في أول مرة رأيتهما فيها. كان البدر المكتمل مُعلقًا على الدوام في طور الأحدب المتزايد،
دون حراك شأنه شأن رأس الموت المعلق أعلى الساعة. كان ثمة لغز يكتنف توقُّف الحركة
وشلل العقربَين. أخبرتنا العمة جيرترود أن ماكينة الساعة لم تعمل قط منذ أن ضرب
البرق الساعة، وأرتنا فتحة سوداء في جانب صندوق الساعة بالقرب من أعلاها، مع شِق
مائل يمتد إلى الأسفل لعدة أقدام. لم يكن هذا التفسير يُرضينا؛ إذ لم يفسر حدَّة رفضها
حين اقترحنا عليها إحضار الساعاتي من القرية، أو ثورتها الاستثنائية حين وجدت هاري
يقف على سُلَّم نَقَّال، ويُمسك في يده مفتاحًا مستعارًا، ويوشك على أن يختبر بنفسه الحركة
المتوقفة للساعة.
في إحدى ليالي شهر أغسطس، وبعد أن اجتزنا مرحلة الصبا، أيقظنيصوتضوضاء
«. ثمة شخصما في المنزل » : في الرَّدهة. هززتُ ابن عمي وهمست قائلًا
خرجنا في هدوء من الغرفة ثم إلى الدرج، وقد تسلل ضوء شاحب من الأسفل.
حبسنا أنفاسَنا ونزلنا دون ضوضاء حتى المنبسط الثاني. تعلَّق هاري بذراعي، وأشار إلى
الدرابزين، وفي الوقت نفسه سحبني نحو الظل.
شاهدنا أمرًا عجيبًا.
كانت العمة جيرترود واقفة على كرسي أمام الساعة القديمة، وقد بدت ذات مظهر
شبحي في منامتها البيضاء وقلنسوة النوم البيضاء، مثلها مثل أشجار الحور المُغطاة بالثلج.
تصادف أن أصدرت الأرضيةصريرًا خفيفًا تحت أرجلنا، فالتفتت العمة جيرترود في حركة
مفاجئة وهي تنظر بحدة نحو الظلام، وتمد شمعة عاليًا نحونا، بحيثصار الضوء يسقط
على وجهها الشاحب. بدت أكبر عمرًا بسنوات مما تركتها عليه حين ألقيت عليها تحية
المساء. ولبضع دقائق ظلَّت دون حراك، ما عدا ارتجافة ذراعها التي كانت تمسك الشمعة
عاليًا. بعد ذلك، وضعت الشمعة، وقد اطمأن قلبها، على أحد الأرفف وولَّت وجهها مجددًا
شطر الساعة.
رأينا السيدة العجوز وهي تُخرج مفتاحًا من وراء الواجهة وتقوم بتعبئة الساعة،
وكان بوسعنا سماع أنفاسها السريعة القصيرة. وضعت يديها على جانبَي الصندوق وقرَّبَت
وجهها من قرص الساعة، كما لو كانت تتفحصه عن كثب، وظلت على هذا الحال لوقت
طويل. سمعناها تُصدر تنهيدة ارتياح ثم التفتت نحونا نصف التفاتة. لن أنسى مطلقًا
تعبير السعادة الجامحة الذي اعتلى ملامحها وقتها.
كان عقربا الساعة يتحرَّكان، وكانا يتحركان إلى الوراء.
أحاطت العمة جيرترود الساعة بذراعيها وضغطت وجنتها الذابلة عليها. قبَّلت الساعة
مرارًا، وربتت عليها بمئات الطرق كما لو كانت كائنًا حيٍّا أثيرًا. أخذت تُمسِّدها وتتحدَّث
إليها، مستخدمةً كلمات أمكننا سماعها لكن لم نفهمها. واصَل العقربان حركتهما إلى
الوراء.
بعد ذلك أطلقت العمةصرخة مفاجئة؛ إذ توقفت الساعة عن الحركة. رأينا جسدها
الطويل يتمايل للحظة على الكرسي، ومدَّت ذراعيها في حركة متشنجة تشيبالرعب والقنوط،
ولوت عقرب الدقائق حتى عاد إلى موضعه القديم عند الرقم تسعة، وسقطت بقوة على
الأرضية.