كان رذاذ المطر يرتطم بالنوافذ ذاتَ ليلة خريفية في عامنا الثالث في لايدن، حين شرفنا
البروفيسور فان ستوب بزيارة في شارع بريده. لم يسبق لي أن رأيت الرجل العجوز في
هذه الروح المعنوية. كان يتحدَّث بلا توقف، وكانت موضوعات النميمة في المدينة، والأخبار
الآتية من أوروبا، والعلم والشعر والفلسفة، كلها يجري الخوض فيها وتناولها بنفس
الروح النشطة المرحة. حاولت اجتذابه إلى الحديث عن هيجل، الذي كنت أجد صعوبة في
استيعاب الفصل الذي كتبه عن تعقيد الاعتماد المتبادل بين الأشياء.
أنت لا تفهم عودة الذات إلى ذاتها عن طريق الذوات الأخرى؟ » : قال وهو يبتسم
«. حسنًا، ستفهم ذلك يومًا ما
كان هاري صامتًا ومنشغلًا. وتدريجيٍّا أثَّر سكوته على البروفيسور ذاته. فترَتِ
المحادثة وجلسنا معًا دون أن ننبسببنت شفة. ومن حين إلى آخر كانت تظهر ومضة برق
متبوعة بدويِّ رعدٍ بعيد.
«؟ إن ساعتكما لا تتحرك. هل تتحرك على الإطلاق » : فجأة قال البروفيسور
على حسب ما أذكر لم يحدث هذا؛ أعني أنها تحرَّكت مرة واحدة، » : رددتُ قائلًا
«… وكانت تدور إلى الوراء. هذا حين كانت العمة جيرترود
الساعة قديمة » : حينها لمحتُ نظرة تحذيرصادرة عن هاري؛ فضحكتُ وقلت متلعثمًا
«. وعديمة النفع. لا يمكن حملها على التحرك
فقط إلى الوراء؟ حسنًا، » : قال البروفيسور بهدوء، وقد بدا عليه أنه لم يلحظ إحراجي
وما الذي يمنع الساعة من أن تسير إلى الوراء؟ ما الذي يمنع الزمن نفسه من التحول
«؟ والنكوصعلى عقبيه
بدا وكأنه ينتظر جوابًا، لكن لم يكن لديَّ أي جواب.
كنت أظن أنك هِيجِلي بما يكفي بحيث تُقِر بأن كل حالة تتضمن » : واصل قائلًا
نقيضها. الزمن حالة، وليس شيئًا جوهريٍّا. وإذا نظرنا إليه من منظور مُطلَق، فسنجد
أن التتابع الذي وَفْقَه يأتي المستقبل بعد الحاضر، والحاضر بعد الماضي، ما هو إلا أمر
اعتباطي محض. أمس، واليوم، والغد، لا يوجد سبب في طبيعة الأشياء تمنع الترتيب من
«. أن يكون الغد ثم اليوم ثم أمس
دوَّت قصفة رعد حادة قاطعت تأملات البروفيسور.
إن اليوم يتشكل بفعل دوران الكوكب حول محوره من الغرب إلى الشرق. وأتصور »
أن بإمكانك تصور حالات يمكن في ضوئها أن يدور الكوكب من الشرق إلى الغرب، بحيث
يكشف لنا، بفعل هذا، الدورات التي قطعها في العصور السابقة. فهل من الأصعب كثيرًا
تصور رجوع الزمن إلى الوراء، بحيث يتراجع الزمن بدلًا من أن يتقدم إلى الأمام، ويتكشَّف
الماضيبينما يتباعد المستقبل، وتتراجع القرون، ويتحرك مسار الأحداث نحو البداية وليس،
«؟ كما هو الحال الآن، نحو النهاية
«… لكن، نحن نعلم أنه فيما يخصال » : اعترضتُ قائلًا
نحن نعلم! إنَّ ذكاءك ليس له أجنحة. » : قاطعني فان ستوب في ازدراءٍ متزايدٍ قائلًا
أنت تتحدَّث بيقين مذهل عن موضعك داخل الكون، ويبدو أنك تعتقد أن فرديتك الضئيلة
البائسة لها موطئ قدم راسخ فيما هو مُطلَق. ومع هذا فأنت ستذهب إلى الفراش الليلة
وتحلم بوجود رجال ونساء وأطفال ووحوش من الماضيوالمستقبل. كيف لك أن تعلم أنك
في هذه اللحظة، بكل خيلاء أفكار القرن التاسع عشر، لست أكثر منصنيعة حُلمٍ مستقبلي،
حَلَم به، مثلًا، فيلسوفٌ ما من القرن السادس عشر؟ كيف لك أن تعلم أنك لست أكثر من
صنيعة حُلمٍ عن الماضي، يَحلُم به معتنِقٌ ما للفكر الهيجلي في القرن السادس والعشرين؟
كيف لك أن تعلم، يا فتى، أنك لن تتلاشى في القرن السادس عشر أو في عام ٢٠٦٠ في
«؟ اللحظة التي يستيقظ فيها الشخصالحالم
لم يكن ثمة ردٌّ على هذه الأفكار؛ لأنها بَدَت مغرقة في الميتافيزيقا. تثاءب هاري،
ونهضتُ وذهبت إلى النافذة، بينما اقترب البروفيسور فان ستوب من الساعة.
آهٍ يا طفليَّ، لا يوجد تقدم ثابت للأحداث البشرية. الماضي، الحاضر، المستقبل، » : وقال
كلها منسوجة معًا في شبكة واحدة معقدة. من سيقول إن هذه الساعة القديمة ليست
«؟ مُحقَّة في سيرها إلى الوراء
هزت قصفة رعدٍ المنزل؛ إذ كانت العاصفة فوق رءوسنا تمامًا.
وحين انقضىالوهج المبهر، كان البروفيسور فان ستوب واقفًا على كرسيأمام الساعة
العالية. كان وجهه يبدو شبيهًا بوجه العمة جيرترود أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وقد وقف
في المكان الذي وقفتْ فيه في ربع الساعة الأخير ذلك الذي رأيناها فيه تدير ماكينة الساعة.
خطرت الفكرة عينُها لي ولهاري.
«… ربما تموت لو » : بينما بدأ يُدير ماكينة الساعة، وأردفنا «! توقف » : صحنا
أشرقت ملامح البروفيسور الشاحبة بذلك الحماس العجيب الذي كسا وجه العمة
جيرترود.
هذا صحيح، ربما أموت، لكن ربما أستيقظ. الماضي، الحاضر، المستقبل، كلها » : قال
«… منسوجة معًا! يمضيمكوك الحياكة إلى الأمام والخلف، الأمام والخلف
كان قد أدار ماكينة الساعة، فأخذ العقربان يَدوران حول القرص من اليمين إلى
اليسار بسرعة لا تُصدَّق. وخلال هذا الدوران السريع وجدنا أنفسنا وكأننا مشمولين بهذه
الحركة. بدا أن أزمنة أبدية قد انكمشت إلى دقائق، بينما انقضت أعمار مع كل دَقة. كان
فان ستوب، الذي كان يمد ذراعيه كلتيهما، يترنح على كرسيه. اهتزَّصندوق الساعة مجددًا
بفعل قصفة رعد مريعة، وفي اللحظة عينها مرَّت كرةٌ ناريةٌ من فوق رءوسنا وضربت
الساعة بقوة، وخلَّفَت سحابة من بخار الكبريت وملأت الغرفة بضوءٍ مبهر. سقط فان
ستوب أرضًا، وكفَّ العقربان عن الدوران