ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

اجتُثِثت عن أمي كفرع شجرة قرر أن يتمرد قليلاً لينمو خارج حدودهم التي رسموها، لم تَرِق قلوبهم لحاله ولكونه ما زال فتياً ويحتاج لحضن أمه ليزهر، بكل قسوة أمعنوا فؤوسهم في جذعه الفتيّ، وحولوه لفتاتٍ ملقى أرضاً، لا طير يقف عليه، ولا زهرة ستحلم أن تزينه، ولا جذع أم يغذيه ويمنحه حنانه، بل سيكون مصيره حتماً ذبولٌ يجتاحه حتى يجف، ليصبح فيما بعد وجبةً لذيذةً يقدمونها كقربان للنيران.
غصةٌ داهمتني عندما رأيت تلك الشجرة أمام مقر عملي قد اجتُث فرعها، تسمرت أمامها للحظات وأنا أجتر ذكريات ماضيَّ الأليم، وبلا إرادة مني سالت دمعتي الحارة على خدي، وبرمشة عينٍ عدت إلى تلك الزاوية من جديد؛ طفلاً هزيلاً مرتجفاً، تغطيه أسماله البالية التي كانوا يدعونها زوراً بالثياب، لا تقي برداً ولا تدرأ حراً، بعينين رماديتين بنظرات متحدية، وبشرة لوحتها شمس الصيف القائظة الحرارة، ونحافةً تكاد تظهر عظامه من تحت جلده لشدتها، ولكنه لا زال ينضح عناداً وكبرياءً.
كنا كقطع عرضٍ في معرض للدمى المستعملة، تغطينا أتربة الحقد وغبار الألم وسخام البشرية المعيوبة، أجسادنا الصغيرة ترزح تحت وطأة المعاصي، ذنوباً تحملنا وزرها رغم أننا لم نرتكب أياً منها، وهم كانوا يدورون متفحصين بيننا، يحملوننا بين أيديهم يقلبوننا بحثاً عن عيوبنا ثم يعيدوننا إلى الكومة ذاتها، كألعابٍ مكسورةٍ ولكن ما كسر فيها هو أرواحها وقلوبها.
لم أعد أحصي عدد المرات التي جاءوا فيها، في كل مرةٍ كنا نصطف على رفوف العرض، نبدي ابتساماتٍ مزيفةٍ لكي يظنونا سعداء، نلتقط من أيديهم ما يقدمونه لنا من أطعمةٍ لذيذةٍ وهدايا، ونستعرض أمامهم ذكاءنا بشهادات لاختباراتٍ لم نقدمها، ونكرر أمامهم كلماتٍ حفظناها ولم نفقه منها شيئاً، لأننا لم نملك يوماً أساتذةً لكي يذاكروها لنا.
في كل مرةٍ كان شخصٌ أو أكثر منهم يقترب مني، يجثو أمامي بنظراته المتفحصة، وهو يتحسر بصوتٍ مسموع؛ يا له من طفلٍ وسيمٍ! كيف لم يتم اختياره حتى الآن؟ ربما لحسن حظنا! ينهض من أمامي مبتسماً ويتجه نحو مكتب المدير، وأنا أكاد أحلق فرحاً، فأخيراً سيتم اختياري للعتق من هذا العذاب، وأخيراً سأتناول وجبةً لذيذةً، حسناً لن أكون طماعاً، لا أريد ثياباً جديدةً، فقط أريد حضناً دافئاً لا أكثر.
أحصيت المرات التي توهمت فيها الفرج حتى فقدت القدرة على العد، وبقدرها وقعت محطماً أسفل ركام الواقع، كل من كان يدخل غرفة المدير، كان يخرج وعلى وجهه تبدو علامات الاشمئزاز، يرميني بنظراتٍ نارية لا أعرف ما الجرم الذي ارتكبته لأستحقها، لقد كنت دوماً أتساءل ونيران الندم تأكلني، ربما لم أبتسم بشكلٍ كافٍ، ربما لم أشكرهم كما يجب، ربما.. ربما.. وألف ألف ربما حولت آمالي إلى رمادٍ تذروه الرياح، أجل أنا من كانوا يدعونه طوال عُمره باللقيط، تلك الصفة التي ظننتها لعنتي حتى حل ذلك اليوم الذي أصبحت فيه نعمتي.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.