ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

《إن لم تجد من يحنو عليك، ويربت على آلام روحك ليشفيها، اخترعه بنفسك》
أسفل تلك الشجرة التي تشبهني بعريها ووحدتها جلست طويلاً، كنت أغلق أذنيّ بكفيّ الهزيلين لكي لا أسمع صوت بكاءها المرير، وجسمي يهتز بعنف من شدة البكاء، يبدو أنني كنت قاسياً عليها، لماذا أهتم لمشاعرها وأنا لا أجد من يعطف عليّ؟! غفوت من شدة التعب وصحوت على صوتهم وهم يصرخون منادين باسمي، نهضت فزعاً من مكاني محاولاً إدراك ما يدور حولي، كنت لا أزال أسمع ذاك الصوت الذي يربت على روحي مواسياً، نظرت حولي بحثاً عن مصدره ولكنه كان يخفت رويداً رويداً، جسمي كان يرتجف برداً، وأسناني تصطك ببعضها البعض، ولكنهم لم يمهلوني وقتاً، وجدته يقترب مني وعيناه تلمعان غضباً، صاح بي والزبد يتطاير من شفتيه: أيها الشقي كيف تجرأت على فعل ذلك؟! وأتبع قوله بصفعةٍ أسقطتني أرضاً، أمسك بي من ياقة قميصي المهترئة ورفعني وأنا أحاول باستماتةٍ الإفلات من يده، وساقاي ترفسان الهواء عبثاً، ثم أردف صارخاً في وجهي بصوته الجهوري الغاضب: هذه آخر مرة سأسمح لك بفعلها، إن كررت تصرفك فالويل لك، وعقاباً لك على ما فعلته؛ لن تتناول العشاء، وستنظف الحمامات لوحدك لمدة شهر.
دفعني بعيداً حتى ارتطم جسمي بجذع تلك الشجرة التي تلقفتني بحنان وكأنها تقول لي: ها أنا هنا لأسندك فلا تخف، ثم استدار وهو يدك الأرض بقدميه سخطاً، عدت للتكور أسفل الشجرة لأبكي ذلي وألمي وهواني بصمت، وأنا أرى جذعه الطويل ذا المنكبين العريضين، الذين يكفينا رؤيتهما لنرتجف رعباً، ولكنه لم يمهلني جمع شتات نفسي؛ ما أن سار بضعة أمتار حتى صرخ بي: إلى حجرتك الآن ولا تخرج منها إلا في الصباح لتنظف الحمامات هيا.. هيا.
نهضت من مكاني وكل ما بي يصرخ بلا صوت، وحتى إن صدر عني صوت فمن يسمعه؟! أويت إلى فراشي وغفوت وأنا أبكي، وفي الحلم رأيتها، تينك العينين اللتين تغرقانني بالسكينة، كانت تبدو كنور يضيء عتمة حياتي، وتلك العينان تشدانني نحوهما بقوة، تخترقا روحي وتربتان على آلامها بحنو، بثوانٍ اختفى وجعي كله كما تلاشت جدران المكان، ورغماً عني ارتسمت ابتسامة على وجهي سرعان ما تلاشت لحظة رؤيتي للدموع التي تطفر من مقلتيها الجميلتين، كنت أشعر بجسمي وهو يتحرك في سريري، تلك الابتسامة التي شقت طريقها إلى وجنتيّ ثم تلاشت عند رؤيتي لدموعها، شعرت بدمعةٍ تسيل على خدي، رفعت يدي لأمسحها، ولكنها مدت نحوي يداً صغيرة ناعمة أمسكت بيدي، وراح صوتها الملائكي يتناهى إلى مسمعي وهي تعتذر مني وتهمس: لم أقصد إغضابك، فقط أردت أن أسعدك، وبدأت تنشج بألمٍ يقطع نياط القلوب، مددت يدي لأحتضنها وإذ بعملاقٍ مرعبٍ يقترب مني، يحملني من عنقي ويبعدني عنها، ثم يسقطني أرضاً، وهي تمد يدها باستماتةٍ لإنقاذي.
صحوت على ألم ارتطام جسمي بالأرض بعد أن حملني مسؤول الدار وألقاني من سريري، ويداي ما تزالان ممدودتان أمامي تحتضنان الهواء، وعيناي تبحثان عنها في كل مكان، وابتسامة بلهاء ترتسم على شفتيّ، رفسني بقدمه وهو يصرخ: أما زلت نائماً؟ ألم أقل لك أنني أريد الحمامات أنظف من وجهك حالما أصل الميتم؟ أما زلت غارقاً في أحلامك؟ وتبتسم أيضاً؟ إلى الحمام الآن وإلا...!
جريت بعيداً عنه خوفاً من بطشه، ولذت بالحمامات، كنت كمن يدخلها أول مرة، لم تكن ذاتها التي اعتدت عليها برائحتها النتنة وجدرانها المغطاة بالفضلات، أجل ما زالت رائحتها كريهة وما زالت مغطاة بالقاذورات، ولكن رائحتها أرحم من نظراتهم القاتلة، وكلماتهم التي تشق القلوب وتئد الأرواح، رحت أكنس وأجمع النفايات الملقاة هنا وهناك، أفرك الأرضيات والرائحة تزكم أنفي لكنني لا أدركها فعلاً، كنت لا أزال منتشياً بحلمي بها، وكأنها بحضورها ألغت واقعي بأكمله، حتى وإن كان حضورها أثيرياً فقط، ولكنه كان يبدو حقيقياً للغاية بالنسبة لي، ما زلت أشعر بدفء كفها الذي ربت على يدي، وكلما شعرت به رفعت يدي أربت عليها بيدي الأخرى وأنا أنظر إليها غير مصدقٍ أنها لمستها فعلاً، ما زالت السَكينة التي مدتني بها عيناها تحيط بروحي كشرنقة لتحميها، وما زال صوتها الشجي يداعب مسامعي برقته.
ابتسامةٌ حالمةٌ ظلت تفترش وجهي اليوم بطوله، سال عرقي وأنهك جسمي الضئيل، ولكن كل ذلك لم يكن يهمني فما زالت عيناها تخففان عني وترسمان البسمة على قلبي، بعد أن أنهيت عملي جلست على مصطبةٍ هناك، وأغمضت عينيّ ورحت أتخيل عينيها، يا لها من فتاة! كيف استطاعت أن تنتشلني من حزني وتطبطب على جراحي بنظرة فقط؟!
منذ ذلك الوقت أصبحت رفيقتي السرية في صحوي ومنامي، أشكو إليها وهي تهدهدني بنظراتها الحانية، أجري نحو شجرتي وأعرفها عليها، نجلس تحتها -أو هكذا أحلم- ونتسامر ونضحك وتحتضن أصابعي بكفها، وتحيطنا الشجرة بهمسها وضحكاتها التي تشبه الربيع، لكم أتمنى أن أقابلها مرة أخرى لأعتذر منها عما بدر مني، لأخبرها أنني لم أكن أقصد إيذائها، فقط كانت كرامتي تئن من وطء الذل الذي نتعرض له بلا طائل.
هو كان يظن أنه كسرني، ولكنه لا يعرف أنني بات لديّ من يقوّي عزيمتي، يمنحني أملاً بأن البشر لا زالوا موجودين، وأنني سأخرج حتماً من هذه الحفرة البائسة، كلما أمعن في تعذيبي، كلما زاد إصراري، حتى أصبحت المثل الأعلى لغيري من الأطفال البائسين الذين تنتهك حقوقهم وطفولتهم؛ فقط لأنهم يتامى ولا يملكون من يدافع عنهم، حتى أولئك المسؤولين الذين يسلموننا إليهم لا أحد منهم يأتي ليعرف ما الذي يحصل لنا هنا، لا أحد يسألنا عما نتعرض له، فقط يلقون بنا كما يلقون نفاياتهم إلى هذا المكب ويديرون ظهورهم ويرحلون، وينسوننا وكأنهم ما رأونا قط.
نحن كنا بنظرهم عبارة عن نتائج لأخطاء من أنجبونا إلى هذه الحياة، أخطاء لا بد من محوها أو ربما نسيانها، إن أخفونا عنهم بطريقةٍ أو بأخرى كانوا يظنون أننا اختفينا للأبد، وأننا لن نعود لنؤرق مضاجعهم ونلومهم، لم نكن بشراً لنا أرواح وقلوب نتألم ونشعر، بالنسبة لهم كنا كأشياء لا كأشخاص، لهم حرية التصرف بحياتنا كيفما أرادوا، إن أرادوا عشنا وإن أرادوا متنا، المهم ألا نؤثر على مسارات حياتهم، معظمنا كان نتيجة فحش ارتكبه أحد الأغنياء مع فتيات لا يستطعن تحمل عبء تربيتنا وعار وجودنا، فالحل الأمثل لكليهما هو إلقاءنا إلى المكب أقصد الميتم، وكانت وظيفة المشرفين هنا هي زرع الرعب بداخلنا لكي لا نسأل ونتقصى عمن زرعت جيناتهم داخل أجسادنا، لم تكن الأبواب تغلق نهاراً أبداً ولم يكن يقف عليها حراس حتى، ولكن الأقفال كانت مزروعة داخل عقولنا وقلوبنا، فإن كان المسؤولين عن الاهتمام بنا بهذه الشراسة فما بالكم بعالمٍ يعُّج بالذئاب البشرية؟! إضافة إلى ذلك يبدو أن جدران المكان مع الوقت تتحول من مجرد سجنٍ، إلى جزء يسكن أرواحنا، في البدء نراها بيتنا فهي الوحيدة التي تحضننا منذ نعومة أظافرنا، مع مرور الوقت ومعاملتهم السيئة تصبح جحراً خانقاً يقتل كل جميلٍ بداخلنا، وفي النهاية نعتاد عليها وعليهم، وتصبح جزءاً لا يتجزأ منا وكأننا أسماك وهي المياه التي لا نستطيع التنفس خارجها، رغم قسوتها ألا أنها أحن بكثيرٍ من عالمٍ لا نعرف عنه شيئاً.
يوماً بعد يوم كانت أعدادنا تتناقص، يختفي البعض دون أثر والبعض الآخر يتم ترحيلهم من المكان إلى مكانٍ مجهول، وآخرين ممن يحملون بداخلهم قدراً كبيراً من الشجاعة يهربون بحثاً عن مكان آمن، حتى وإن كان الشارع، فهناك يظل لديهم أمل بألا يذلوا، بألا يُضربوا وتُهان كرامتهم، بألا يكونوا أداة للتسول دون أن يستفيدوا من النقود التي يجمعونها، أو ربما هذا ما كانوا يأملونه فقط، فلا أحد منهم عاد ليخبرنا إن كان العالم كله بهذه الوحشية أم هم فقط، حتى صديقي الوحيد ذا الساق المعطوبة لم يسلم منهم، صحوت على صرخاته ليلاً والحراس يجرونه بعيداً عن سريره، وأحدهم كان يحمله ويضع يده على فمه ليكتم صوته، ظللت مكاني لا أجرؤ على الحركة لكي لا يطالني ما سيطاله، وفي اليوم التالي لم يعد، انتظرته كثيراً ولم يعد أيضاً، ولا أحد من المسؤولين سأل عنه أو استغرب من اختفاءه.
أما ذلك الشاب المريض الذي وصل الثامنة عشر حسب سجلاتهم، فبكل وقاحة فتحوا باب سجننا وأجبروه على الرحيل، كان يصرخ بأن لا ملجأ له، ولا يعرف ماذا يفعل لكي يعيش، ولكن لا أحد سمع صراخه، تعلق بسيقانهم باكياً متوسلاً بجسم يرتجف، ولكنهم رفسوه بعيداً وأغلقوا بوابتهم دونه وصاحوا به: لقد احتملناك بما يكفي، تدبر أمرك وحدك من الآن فصاعداً، ظل جالساً هناك على الرمال الحارقة لساعاتٍ طوال، يتمنى أن يعفوا عنه ويعيدونه إلى سجنه الذي اعتاد عليه، ولكنهم لم يفعلوا، يأس أخيراً ونهض من مكانه وهو يجر ذيول خذلانه ورحل بعيداً ليبحث عن مكان آخر يحيا فيه، عشرات الأطفال والشبان اختفوا، جثث ووريت التراب دون أي وثائق رسمية، ماتوا إما بسبب الجوع أو بسبب الضرب، كانوا يجبروننا على حمل جثثهم وإلقاءها بتلك الحفر التي أجبرونا على حفرها وردمهم كأنهم قطط فطست وفاحت رائحتها، أما أولئك الذين يسحبون من فراشهم ليلاً فلا أحد يعرف مصيرهم، وأنا ورغم كل ما رأيته إلا أنني لم أجرؤ على الرحيل، لا ليس ضعفاً كما تظنون، ولكنها وعدتني في حلمي أنها ستعود، وأنا سأنتظرها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.