darbovar

شارك على مواقع التواصل

-اليوم الثامن والعشرون لي في تلك الغرفة الضيقة ، المظلمة، معدومة الراحة بشعة المنظر، لو تحدَّثت تلك الحشرات التي حولي؛ لاشتكت هي الأخرى من قبح منظرها، وبرودة طقسها!.
أجلسُ كعادتي طوال تلك الأيام المنصرمة في إحدي زوايا الغرفة، مُتخِذًا وضع القرفصاء، أنظر إلى السماء من بين قضبان تلك النافذة الصغيرة، الوحيدة في هذا المكان، حرب ملحمية بين الأفكار في رأسي، يكاد غبارها يخرج مِن أذني، واللوم سوطٌ يضرب عقلي، يعاقبه لأنَّهُ سمح بسذاجة بسقوطنا خلف تلك الأسوار، وارتدي الزي الأحمر بشع المنظر.
الوقت هنا لا يمر، فعقارب الساعة كسلحفاة عجوز تجاوزت سن المائة عام ، وأنا هنا لا أفعل شيء سوى الإنتظار ، فلا أعلم كم سأظل مسجونًا قبل إعدامي!
"ترقب حدوث الأمر السيء أسوأ بكثير مِن حدوثه، وكم أكره أن انتظر شيئًا، وأكره كوني مفعولًا بهِ لفعل أحدهم، لا أن أكون أنا الفاعل"
مررتُ بطفولة كاحلة، أشدُّ مِن ظلمة تلك الغرفة التي أحيا فيها آخر أيامي، جعلتني أكره الانتظار ، وأكره أن يُكتب مصيري بيد غيري، ترعرعتُ داخل ملجأ للأيتام، رأيت فيه العذاب من رياء الزوار المتباهين بتلك الصدقة، التي يمنون علينا بها تارة، ومِن تنمر هؤلاء الشياطين الصغار رفقائي في السكن تارة أُخرى، كأنني اخترت أن أكون ولد سفاحً لامرأةٍ عاهرة باعت شرفها، ورجل خسيس تخلَّى عنها ورفض تحمل نتيجة أخطائهِ، صلحوا غلطتهم بجرمٍ أشنع، تركوني رضيعًا في حقيبة بلاستيكية سوداء، داخل صندوق قمامة كبير أمام ملجأ.
تلك القصة عرفها الجميع، وأصبحت تسليتهم الوحيدة، هي السخرية مني!
أتذكَّر ذكرى مولدي العاشر، وتلك الليلة التي قُتِلَتْ براءتي فيها، وأصبحت شخصاً آخر، إعتدت في ذكرى مولدي أن تقضي معي ماما "سميرة" مشرفة الدار اليوم بأكمله، وتحضر لي كعكة عيد الميلاد، ونحتفل بهِ سويًا، ملاكٌ أرسلهُ الله رحمةً يريح المعذبين في الأرض أمثالي، شمسٌ تُنير ظلمة حياتنا، الوحيدة الَّتي رأيت منها عطفًا، وأشعرتني أنني طفل مثل باقي أطفال العالم، لا مُجرد لقيط مجهول النسب، ولكن ذلك اليوم لم يَكُنْ الأمر مثل كل الأعوام المنصرمة، لم تأتِ ماما سميرة منذ الصباح كَعادتها لتقضي معي اليوم بأكمله، تأخرت كثيرًا وكثيرًا! دقائق مرَّت كَالسنواتِ وسنوات كَالدهر كلهُ، وأنا أجلس في انتظارها لم أيأسُ، ولم أفقد الأمل، ظللتُ طوال اليوم جالسًا، حتى حان موعد النوم ولم تأتِ، شعور مؤلم لا يوصف، أن يخيب ظنك في أحب الأشخاص إلى قلبك، وألا يتواجد حين تكون كل آمالك هي رؤياه!
لم أتناول طعامي ذلك اليوم، وطوال الليل كنت أبكي، ولم تغفل لي عين.
في اليوم التالي كان بركان حزن يثور بداخلي، لم أكف عن طرح هذا السؤال لنفسي: كيف هان على ماما سميرة أن تفعل بي ذلك؟! كيف نسيت عيد مولدي؟! وكيف نستنى؟
جلستُ وحيدًا في الفناء، حزينًا لا رغبة لي في طعامٍ ولا أُفكِّر غير في سبب عدم حضورها، حتى حان أذان العصر وأنا على هذا الحال، وفجأة رأيتها تدخل مِن باب الملجأ تنظر لي بابتسامتها، التي فاقت شروق الشمس جمالًا، نسيت كل ما قد كان عندما وقعت عينيَّ عليها، ومِن دون عتابٍ أو لوم، ركضت كَالمجنون أعانقها وأضمها لي بشدةٍ وأقول لها:
-لماذا تأخرتِ يا ماما؟! مُنذ أمس وأنا انتظر قدومكِ!.
-تبسَّمت وأمسكت بيدي ودخلنا لنجلس على أحد المقاعد في الفناء، فاجأتني أنَّها قد أحضرت لي هدية عيد مولدي، آلة الكمان التي دومًا حلمتُ أن أمتلك واحدة مثلها، وأتعلَّم العزف عليها، سكنتْ السعادة قلبي ونسيتُ كل أحزاني، كنتُ أسعد طفل في العالم، قبَّلت رأسي وقالت بصوت حزين: كم سَأفتقدكَ يا ياسين!
-شعرتُ حينها بالخوف والفزع وقلتُ حائرًا: إلى أين أنتِ ذاهبة؟! هل سَترحلين بهذه السرعة؟ لقد حضرتِ الآن، أَلَنْ تقضي معي اليوم بأكمله كما تعودنا؟!
-كانت الدموع تجري مِن عينيها وهي تقول: بُني، أحيانًا تُجبرنا الحياة على فعل أشياء لا نريدها.
-ماذا تقصدين يا أمي، أنا لا أفهم شيئًا؟! حينها سمعت صوت زوجها السيد "عماد" ينادي عند بوابة الملجأ ماسكًا بيدين أولاده قائلًا بنبرةٍ غاضبة: سميرة أسرعي، نحن متأخرون على موعد الطائرةِ، يجب أن نرحل حالًا!
-نظرتُ إليها وقلت بكل حرقة قلب ودموع العين تنهمر مني
- هل سَتسافرين؟! سَتهجرينني أنتِ الأُخرى يا أمي، سَترحلين وتتركينني وحيدًا؟!
-ليس بيدي حيلة يا بُني، هناك أمورًا أنت لن تفهمها تجبرنا على السفر، البحث عن الذات وتأمين حياة كريمة، لأطفالنا و...
-قاطعتُها: وأنا؟، أَلستُ طفلكِ؟! أَلم تخبريني دومًا أنكِ أمي؟! خذيني معكِ أرجوكِ لا تتركيني وحدي.
-أرجوكَ كف عن هذا الكلام ، إنك تعذبني، يكفيني ألم فراقك، لا تخاف سأتصل بك كل يوم، وسنتحدث سويًا بالساعات، أقسم لكَ سأفعل .
-عماد بعصبية مبالغ فيها ينادي: سميرة يكفي هذا، أحضري هنا الآن، لا وقت لدينا لنضيعه.
-نهضت سميرة وقبلتني، وانتزعت يدها التي كنت أتشبثُ بها بقوة، وذهبت لزوجها؛ ليستقلا السيارة.
للحق كانت حزينة لفراقي، لم تنزل عينيها عني حتى اختفت عن نظري، لكن في النهاية قد رحلت، وتركتني أواجه تلك الدنيا وحدي!
جلستُ وحيدًا مُمسكًا بهديتها، وأنا أبكي، وأتخيل كيف ستكون حياتي بدونها! لم يبالوا الأوغاد الصغار بحزني، ولم يرحموا جرح قلبي، التفوا حولي، وبدأوا في ممارسة حفلتهم للتسلية بتعذيب الضعفاء أمثالي، جلس بجواري أكبرهم وزعيمهم عصام، وقال متنمر...
-لماذا تبكي يا طفل القمامة؟ هل أنت حزين لأن أمك سميرة رحلت وتركتك؟! لا تحزن، فمن المفترض أنك قد تعودت أن تهجرك أمهاتك، على الأقل تلك المرة لم تتركك في صندوق قمامة.
-تعالت ضحكاتهم، وتعالت أوجاع قلبي، أي قلوب تلك التي لا تحمل أدنى معاني الشفقة والرحمة، أَلا يكفيني ما أنا فيه؟! دفعتهُ بكلتا يديَّ، اسقطته من فوق المقعد وأنا أقول بكل غضب : ماذا تريدون مني؟! دعوني وشأني.
-وقف عصام غاضبًا، وأمر أفراد عصابته بتقييد حركتي، وأمسك بهدية سميرة وقال: لقد رحلت من كانت تحميك مني، ومن اليوم أنت ملكي ، قام بتحطيم آلة الكمان، وحطم معها فؤادي، لم يرحم توسلاتي وبكائي، لم يكترث بدموعي، بل كان يتلذذ بتعذيبي!
وأخيرًا تركوني احتضن بقايا آلة الكمان، وأبكي على تحطم أخر شيء سيذكرني بأمي.
جاء منتصف الليل، وعمَّ السكون أرجاء الملجأ، ولكن لم يعرف قلبي سكون، فقد نام الجميع، وهربوا إلى فراشهم للدفء من قسوة برد يناير ، إلا أنا!، فقد كان بداخلي غضبٌ عارم يثور كالبركان، ويسيطر على كل حواسي، أصبحت شخصًا أخر غير ذلك الطفل الضعيف الذي طالما تنمروا عليه واتخذوه لتسليتهم ، أُفكر في الانتقام ، وكيف أجعل هؤلاء الشياطين يكفرون عن ذنوبهُم في حقي؟!
طرأت فكرة ملعونة، ستجعلني أنتقم منهم ومن جميع جرائمهم في حقي ، وأتخلص بها من شرورهم، بدون تردد أو تفكير، ذهبت إلى المطبخ المجاور لعنبر النوم متسللًا، لم يكن للباب قفلٌ؛ لأنَ الأشقياء دائمًا ما كانوا يكسرونه مِن أجل سرقة الطعام بعد موعد العشاء، تأكدت أنه لاأحد يراني، ثُم قمت بفتح الغاز وتركته ينتشر في المكان، أحضرت شمعة عيد مولدي التي لم يُقدَّر لها أن تشتعل، وفي منتصف رواقٍ يمر عبر أبواب الغرف قمت بإشعالها، ووضعتها على الأرض، ثم ركضت خارج المبنى، وجلستُ بعيدًا على الأرض في الفناء مُراقبا المبنى هو يشتعل كالبركان ، بعد قليل دوى انفجار هائل هز أرجاء المكان، وتعال معه الصراخ.
كنتُ أستمتع بسماع صراخهم ،كان أعذب مِن صوت آلة الكمان الَّتي حطموها، ومشاهدتي لهم عبر النوافذ، وهم يشتعلون كانت عندي أفضل من مشاهدة شمع عيد مولدي، وهو يحترق مِن أجلي.
حالة من الشجن شعرتُ بها كأنني في عرض أوبرا ممتلئ بالطرب، والرقص، و دقات قلبي تدق مثل الطبول لتشجيعهم على إحماء العرض وزيادة الآهات والعويل، تبدلت أوتار الكمان بأوتار حناجرهم، والنار التي تحرقهم كانت تبثُ الدفء في نفسي، ما أجمل من أن تنتقم ممن ظلمك وسقاك العذاب جرعات!.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.